- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الأسباب الكامنة وراء الأزمة الإسبانية-المغربية
حتى يتسنى فهم الارتفاع الأخير في أعداد المهاجرين إلى الجيوب الإسبانية في المغرب ، يجب على المرء أن يفهم العلاقة الاقتصادية غير المنصفة بين الاتحاد الأوروبي والبلدان الأفريقية.
في 17 أيار/مايو، حاول ما يقرب من 8 آلاف مرشحون للهجرة من المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء عبروا جيب سبتة الخاضع للسيطرة الإسبانية والواقع في الطرف الشمالي من المغرب. وانتشرت فيديوهات لهذه المحاولة الجماعية على وسائل التواصل الاجتماعي، ما تسبب بصدمة للجمهور المغربي والأجنبي على السواء. ومما لا شكّ فيه أن الكثيرون يروا أن هذه الصور ألحقت ضررًا بالمغرب وأساءت إلى سمعته نظرًا إلى ما حملته من انطباعات بأن العديد من المغاربة ينتظرون أدنى فرصة لعبور الحدود. وزعمت الحكومة ووسائل الإعلام الإسبانية أن الهفوة الأمنية التي وقعت كانت عبارة عن محاولة متعمّدة من الحكومة المغربية.، وهو ادعاء لا يمكن الإجابة عنه أو التأكد من صحته بأي حال من الأحوال.
وسارعت وسائل الإعلام الإسبانية، المعروفة على مدى التاريخ بتقديم صورة قاتمة عن المغرب إلى الادعاء بأن هذا الأخير يسعى إلى "ابتزاز" إسبانيا وإرغامها على دعم موقفه المغرب بشأن الصحراء الغربية. كما تباينت الادعاءات الواهية بما فيها تصريحات مفادها أن موظفون محليون في وزارة الداخلية أخبروا السكان المحليون بأن الحدود كانت مفتوحة، في الوقت الذي ادعت تقارير أخرى بأن القاصرين تعرضوا للخداع بحثّهم على الاعتقاد أن بإمكانهم مشاهدة بمشاركة كريستيانو رونالدوا في سبتة.
في الوقت الذي يظل هناك غموض حول دور المغرب في هذه الأحداث، ما هو معروف هو أن حضور الشرطة المغربية على الحدود الإسبانية-المغربية كان محدودًا. فعدد عناصر الشرطة الذي كان أقل من المعتاد ربما أثّر على التدفق المفاجئ للمهاجرين غير الشرعيين الذي شهدناه يومي 17 و18 مايو الماضي. ومن هذا المنطلق، فليس بوسع أي أحد نكران أن كان بعض الاسترخاء من طرف القوات الأمنية المغربية التي تسهر على مراقبة تدفق المهاجرين غير النظاميين.
لكن وبغض النظر عن التفاصيل الدقيقة التي رافقت هذا الحدث، فهناك أسباب أساسية أكبر تحفّز هؤلاء المهاجرين. فلا يمكن فهم أزمة الهجرة التي وقعت في سبتة من دون الأخذ في الحسبان الأثر الكارثي لجائحة "كوفيد-19" على الاقتصاد المغربي، وبخاصة في المناطق الشمالية للمملكة. أضف إلى ذلك قرار المغرب، قبل تفشي الجائحة بكثير، بإغلاق حدوده مع سبتة ومليلية وتضييق الخناق على الاقتصاد القائم على التهريب الواسع الانتشار في المنطقة، الذي كان له تداعيات مؤذية على المنطقة المجاورة لشمال المغرب. وقد تسببت كل هذه القرارات معًا بخسارة آلاف الأسر لمصادر دخلها. ونظرًا إلى هذه العوامل، أصبح عبور الحدود البديل الوحيد أمام الكثيرين في المنطقة.
وكرد فعل على الحادثة، قامت إسبانيا بعمليات تصدي سريعة تمكنت بواسطتها من إعادة أكثر من ستة آلاف مهاجر إلى المغرب في أقل من 48 ساعة ووصفت الأمين العام لـ"المجلس الأوروبي للاجئين والمنفيين" كاثرين وولارد هذه الخطوة بأن "الوضع الذي فيه يتمّ طرد الناس بشكل جماعي من دون إجراء تقييم فردي، هو وضع غير قانوني بموجب قانون الاتحاد الأوروبي والقانون الدولي على السواء".
فضلًا عن ذلك، سلّطت الحادثة الضوء على الدور الذي يلعبه المغرب في تنفيذ وإنجاح أولويات الهجرة الصادرة عن الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن الكوارث الاقتصادية التي تعاني منها القارة الإفريقية ما هي إلا نتيجة لنهب أوروبا لثروة أفريقيا ومواردها لقرون طويلة. وإذا ما كانت أوروبا جادة بشأن التصدي لأزمة الهجرة، فيتعين عليها التركيز في الوقت نفسه على أسبابها الجذرية: نظام اقتصادي عالمي غير منصف حيث تفرض الدول الغربية قواعدها الخاصة على الدول الأفريقية. فلا يتسم هذا النظام الاقتصادي بعدم الإنصاف ويلحق الضرر بدول أفريقيا فحسب، بل أن هذه الأخيرة لا تستقطب إلا جزءاً بسيطًا من الاستثمارات الأجنبية أو المساعدات الإنمائية.
وتظهر تجليات الأسباب الكامنة وراء هذه العلاقة غير المتكافئة في العلاقات الاقتصادية بين المغرب وإسبانيا. ففي حين تستثمر الشركات الإسبانية بشكل كبير في عدد من دول أمريكا اللاتينية، لم تتجاوز قيمة الاستثمارات المتراكمة للقطاع الخاص الإسباني في المغرب 4.5 مليارات، وهي ما يمثل واحد في المائة تقريبًا من إجمالي الاستثمارات الإسبانية في الخارج.
وبينما احتل المغرب عام 2019 الرتبة الثالثة في قائمة الدول التي حصل على مساعدات إنمائية من طرف إسبانيا، فإن المساعدات التي تخصصها الدول الأوروبية لأفريقيا تظل عديمة المفعول بفعل الإعانات الهائلة التي تمنحها حكومات دول الاتحاد الأوروبي إلى قطاعاتها الزراعية الخاصة بغية تعزيز تنافسيتها. وأظهرت عدد من الدراسات الأثر المدمّر لهذه الإعانات على القطاع الزراعي في معظم الدول الأفريقية، حيث تشكّل الزراعة مصدر الرزق الرئيسي لفئات كبيرة من السكان. وتتسبب هذه الإعانات في إضعاف تنافسية المنتجات الأفريقية في الأسواق العالمية والمحلية على حد سواء.
وقد واجه المغرب بشكل خاص أثر هذا النظام العالمي اللامتكافئ. فخلال العقد الماضي، انتقل المغرب من كونه دولة عبور إلى وجهة يقصدها العديد من مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء. ومع تشديد الخناق على الحدود الأوروبية، اضطر المغرب إلى التعامل مع وضع عشرات الآلاف من المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء الذين وجدوا أنفسهم عالقين في البلاد. ففي 2014 و2016، أطلق المغرب حملتين لتسوية أوضاع 53 ألف مهاجر، رغم أن الاقتصاد لم يكن قادرًا على استيعاب الوافدين الجدد. وبينما يمثل المغرب ثاني أكبر شريك الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، فإنه يواجه تحديات كبيرة في هذا المجال - بما في ذلك شح الإعانات التي تقدر الحكومة المغربية بأنها تغطي 20 في المائة فقط من تكاليفها كدولة مضيفة. ويرى المغاربة أن هذا الوضع الاقتصادي يتأثر بدوره بالحجم غير الكافي من الاستثمارات التي يتلقاها المغرب من الاتحاد الأوروبي، والشروط غير العادلة للتجارة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، واستمرار الصراع في الصحراء الغربية، والاقتصاد القائم على التهريب الذي ازدهر لعقود في سبتة ومليلية.
ولمعالجة هذه القضايا، ينبغي لإسبانيا أن تستثمر في مناطق شمالي المغرب المتاخمة لسبتة ومليلية. فقد عانت هذه المنطقة طيلة عقود من الأثر الكارثي للاقتصاد القائم على التهريب القادم من سبتة ومليلية. وبدلًا من تشجيع المشاريع الضخمة التي أطلقها المغرب خلال العقدين الماضيين لدعم التنمية الاقتصادية في المنطقة، تنظر إسبانيا إليها على أنها ترمي إلى خنق سبتة ومليلية.
والأهم من ذلك، فلو تم التوصل لتسوية للصراع حول الصحراء، لقام المغرب بتخصيص مليارات الدولارات التي أنفقها المغرب على الدفاع عن سلامة أراضيه في بناء مستقبل أكثر إشراقاً. فبسبب هذا الصراع، يقتني المغرب أسلحة بالكاد يستخدمها أو لن يستخدمها أبدًا – وهي أموال كان بإمكانه استخدامها لتحسين البنية التحتية وتطوير الاقتصاد وتعزيز قدرته التنافسية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
وفي حال تحسّن وضع المغرب الاقتصادي، سيفكر المغاربة الذين يعانون لإيجاد فرص عمل محترمة مليًا قبل الهجرة إلى أوروبا. علاوةً على ذلك، سيتمتع المغرب بقدرة أكبر على إدماج جزء من العدد المتنامي من الأفارقة جنوب الصحراء الذين يحاولون تحقيق أحلامهم المشروعة في التمتع بحياة كريمة وإعالة أنفسهم وذويهم.
وطالما أن الاتحاد الأوروبي وإسبانيا لا يضعان الهجرة ضمن سياقها السياسي والاقتصادي والتاريخي الأوسع، فلن تحقق سياساتهما المبنية على المقاربة الأمنية النتيجة المرجوة.
ويمكن التوصل لحل واقعي للحدّ من الضغوط الناتجة عن الهجرة غير النظامين من خلال اتخاذ الخطوات التالية: بالإضافة إلى مراجعة شروط الاتفاقات التجارية التي تجمع بين الاتحاد الأوروبي والمغرب وأفريقيا، على الاتحاد الأوروبي رفع القيود أو الحصص المفروضة على الصادرات المغربية إلى سوق الاتحاد الأوروبي.
ويجب أن يترافق هذا التدبير مع تقديم محفزات أكبر للشركات الإسبانية لتستثمر في الاقتصاد المغربي. فضلًا عن ذلك، ينبغي على الاتحاد الأوروبي ككل زيادة المساعدات الإنمائية الرسمية إلى المغرب، كما يجب النظر في تأثير السياسة الزراعية المشتركة للاتحاد الأوروبي (CAP) على البلدان الخارجية. ومن شأن انتهاج هذه السياسات أن يزيد حتمًا من تنافسية واستدامة الشركات المغربية والأفريقية في مجموعة كبيرة من القطاعات التي تتمتع فيها بميزة تنافسية. وسيؤدي ذلك بدوره إلى خلق المزيد من فرص العمل وتحسين ظروف معيشة الطبقة الوسطى والمجتمعات ذات الدخل المنخفض. وحتى وإن لم تساهم في تخفيض جاذبية الاتحاد الأوروبي بالنسبة للشباب المغاربة، إلا أنها قد تقلص عدد المهاجرين المحتملين الذين يبحثون عن مخرج من الفقر المدقع.
ومع ذلك، يجب على الاتحاد الأوروبي أيضًا فتح حدوده أمام الهجرة القانونية من خلال تخصيص حصة لكل دولة وفقًا لاحتياجاتها من العمال المؤهلين وغير المؤهلين. بالإضافة إلى تخفيف العبء على المغرب، قد تساهم هذه السياسة في تعويض الانخفاض المستمر في عدد السكان المسنين في أوروبا.
وبخصوص بإسبانيا، سيتعين على الحكومة معالجة وضع سبتة ومليلية بشكل مباشر والتعامل مع حقيقة أن تهريب البضائع عبر الجيبين ألحق على مدى التاريخ ضرر اقتصادي كبير بشمال المغرب. خلال العقود السبعة الماضية، قام اقتصاد الجيبين على التهريب، وحققا ازدهارًا على حساب الاقتصاد المغربي – حيث قدرت الحكومة المغربية أنها خسرت إيرادات ضريبية بقيمة 560 مليون دولار عام 2018. وخلال العقدين الماضيين، أرسل المغرب مؤشرات واضحة على أنه غير راضٍ عن الوضع القائم، وأنه لا يمكنه قبول اقتصاد غير مشروع يقوّض أي فرص لإنشاء اقتصاد مستدام وتنافسي شمالي المغرب وفي أرجاء البلاد ككل.
هذا وقد أثبت عدد من الدراسات الضرر الذي خلفته سبتة ومليلية على الاقتصاد المغربي. وتهدف المشاريع الضخمة التي أطلقها المغرب في المنطقة – بما فيها ميناء طنجة المتوسط وميناء الناظور وبناء منطقة صناعية في تطوان – جميعها إلى بناء اقتصاد بديل، لتوفير فرص عمل لائقة للسكان المحليين وضمان الازدهار.
وفي الوقت الذي أدى إغلاق الحدود عام 2020 إلى وضع حدًا لاقتصادي التهريب في الوقت الحالي، فلا زالت هناك الحاجة لحل مستدام لوضع الجيبين بناءً على مقاربة تعاونية. ومهما فعلت إسبانيا لتجاهل مزاعم المغرب، ستضطر الحكومة الإسبانية في وقت ما إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المغرب لمناقشة حل قابل للتطبيق للأنشطة الاقتصادية في سبتة ومليلية من شأنه يساهم في حماية مصالح الطرفين الاستراتيجية وفي الحفاظ على شراكتهما المتميزة.
في نهاية المطاف، المغرب وإسبانيا بلدان جاران وسيظلان كذلك. وسيكون من الأجدر بالبلدين إيجاد صيغة قد تساعدهما على تخطي سوء التفاهم المتكرر بينهما وبناء روابط ثنائية على أساس أكثر صلابةً.