منذ إعلان قرار إجراء استفتاء عام لتحديد مستقبل إقليم كُردستان العراق، كان هناك سجالاً ساخناً بين المعارضين والمؤيدين للقرار من جميع الخلفيات والطوائف. ولا تخلو السجالات الجارية من التهديد والتخويف السياسي ضد كل من يقف موقفاً معارضاً للاستفتاء.
ترى مما تنبع المعارضة لقرار الاستفتاء هذا، هل تنبع من عدم الإيمان بحق تقرير المصير، أو من موقف نقدي لخطاب سياسي يحظى ظاهريا بالاستقلال الديمقراطي ويكرس السلطة الفردية والهيمنة العائلية في المضمون؟ هل أنها تنبع من الأمل بعراق يتمتع بحقوق المواطنة والحرية والعدالة والعيش الكريم، أم من الاستياء من حكم كُردي لا يرى في تقليد الاستبداد والحكم العائلي واحتكار السياسة واضطهاد المعارضين عيباً؟
لم تعد شعارات الأحزاب القومية قادرة على تخدير تلك الأسئلة بخطاباتها الرومانسية، ولا يستطيع تعبير” الموت من أجل الاستقلال“، تحريك وتحشيد الناس كلما اقتضت” المظلومية السياسية“. أنها أسئلة لا تجاري لغة سياسية شعبوية حول إستحالة العيش المشترك في العراق، فيما العيش المشترك، حتى في أدنى مستوياته السياسية، غير موجود في إقليم كُردستان، وذلك بسبب الاستفراد وسوء الاستخدام المخيف للسلطة والثروة.
هناك أسباب كثيرة تدفعنا إلى التوقف بعناية أمام دعوة مسعود البرزاني الاستفتاء. البرزاني نفسه هو السبب الأول، ذاك انه رغم إنتهاء ولايته الرئاسية رسمياً منذ ٣٠ يونيو/حزيران ٢٠١٥ لم يترك منصبه. هذا، وقد شكل تجديد ولاية أخرى له عام ٢٠١٣ بناءً على اتفاق بين حزبه والاتحاد الوطني الكُردستاني، العقبة الأولى أمام التحول الديمقراطي في الإقليم. كما انه اتخذ قرار إغلاق أبواب البرلمان وتعطيل أعماله بتاريخ شهر أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٥.
ارتباطا بما ذكر، نرى بأن إجراء الاستفتاء في موعده المقرر وتأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية المزمع إجراءها بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، هو لعبة أخرى لإطالة وتكريس سلطة البرزاني الشخصية والعائلية. ونؤيد في هذا الصدد الموقف الذي أعلنته بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق بتاريخ 24/٧/٢٠١٧، حيث دعت إلى” التفعيل الكامل للمؤسسات المنتخبة في إقليم كردستان، لا سيما إعادة تفعيل البرلمان وإجراء الانتخابات، كشرط أساسي مسبق للاستقرار والتنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وذلك وفقاً لرؤية برنامج الإصلاح في العراق."
إن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجه الإقليم حيث تصل الديون المترتبة على حكومته المحلية إلى30 مليار دولار بسبب سياسة الحكومة النفطية الخاطئة وغير الشفافة، هي عامل آخر من عوامل عدم الثقة بجدوى الاستفتاء والوعود القومية الهشة. ويمكن القول بان الطريق الذي يقود برزاني إقليم كردستان نحوه والمفعم بالديون والأزمات الاقتصادية المستفحلة والصراعات السياسية الداخلية، سوف لن يختلف عن مصير دولة جنوب سودان إذ تعصف بها المجاعة والحرب الأهلية. ترى، هل يمكن لإقليم قد ترهل إقتصادياً مبكراً، المقاومة أمام تهديدات أصدقاء مفترضين أو” جيران أشرار “يتحكمون ببناه التحية؟ انه سؤال تجيب عليه عقلانية اقتصادية وبراغماتية سياسية وليست حماسات بهلوانية ورومانسية وطنية من شأنها ترك كل ما بني منذ عام ١٩٩١ عرضة للأخطار.
نود التطرق هنا إلى تغييب إستقلالية المؤسسة القضائية وتجيير قراراتها وتشريعاتها وفقاً للمصالح الحزبية والسلطوية، إذ لم يعد يثق المواطن بقدرتها على حماية حياته وحماية حقوقه. وفي غياب القانون والصحافة المستقلة والمجتمع المدني الفعال، أصبح العقاب السياسي، الملاحقة، وتضييق الحريات، بشكل خاص في المناطق الخاضعة لسيطرة حزب البرزاني، سمة من سمات السلطة في إقليم كُردستان.
إضافة إلى كل ذلك، يفتقد إقليم كُردستان اليوم إلى قوات” البيشمركة “وقوى أمن داخلية موحدة، وذلك بسبب هيمنة الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني على القرارات العسكرية لصالح حزبيهما. تالياً يمكن القول بان قوات البيشمركة لم تعد قادرة على الدفاع عن الدولة المأمولة في حال تعرضها إلى إعتداء خارجي دون توفر حماية دولية.
لقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بأن الوقت غير مناسب لإجراء الاستفتاء وانه يجب التركيز على الحرب ضد تنظيم "داعش" والعمل المشترك مع الحكومة العراقية. هذا وقد كان موقف الاتحاد الأوروبي مشابهاً حيث أدلت بعثته في العراق بأن” الإجراءات التي لا تنجم عن الحوار والاتفاق بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، قد تؤدي إلى نتائج عكسية“
أعلنت جارة كردستان الشمالية، تركيا، معارضتها للاستفتاء. وفي حال إجراء الاستفتتاء والاعتراف بنتائجه، فإن تركيا تود أن ترى كيان شبيه بـ” دولة “شمال قبرص التي لا تعترف بها سوى تركيا وحدها، أي أنها تريد مستعمرة تركية ثانية في الشرق الأوسط. وأعلنت إيران في أكثر من مناسبة بأنها تقف ضد استفلال كُردستان، ولا تخلو لغة قادتها السياسيون والأمنيون من التهديد المباشر، ناهيك عن رسائل تهديد غير مباشرة تُرسل عبر قنوات الحكومة العراقية التي تقف هي الأخرى في موقف رافض للإستفتاء وتعتبره غير دستوري.
إن واقع كُردستان الحالي، يستوجب مشروعاً وطنياً يجمع الأطياف السياسية والاجتماعية والدينية والأثنية المتنوعة، وإصلاحاً حقيقياً في حقلي السياسة والاقتصاد وتحريرهما من السطوة الحزبية والسلطة العائلية معاً. ويستلزم مثل هذا المشروع إيجاد حل لأزمة الرئاسة حيث يمكن وصفها بالعصب الرئيسي للأزمات الأخرى، وذلك من أجل منع إعادة إنتاج أي نظام ديكتاتوري، أو تسلطي عائلي وإبعاد آليات تركز السلطة بيد الفرد. وفي الوقت الذي يشكل التركيز على الإستفتاء والنتائج التي تترتب عنه، ضربة أخرى للديمقراطية وإطالة الوضع القائم في كُردستان، نرى بأن إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في سلّة إنتخابية واحدة، خطوة صحيحة نحو تطبيع الأوضاع.
فيما خص العلاقة مع الحكومة الاتحادية، نرى بأن إعادة التفكير في النظام السياسي الحالي أصبحت طلباً ملحاً بغية رؤية الضوء في نهاية النفق، ذاك أن النظام الاتحادي بسبب تركز السلطة بيد أفراد وقوى غير مبالية بالقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، الشفافية وأسس دولة القانون، لم يجعل من العراق نموذجاً ناجحاً. نحن نرى بأن إعادة رسم النظام السياسي الحالي وفق أسس كونفدرالية تجمع ثلاثة دول (إقليم كُردستان وإقليم الوسط والجنوب وإقليم الغرب) في اتحاد يسمى بــ (دول العراق المتحدة) هو حل مناسب. وقد تفتح أية خطوة بهذا الاتجاه وبرعاية المجتمع الدولي: الأمم المتحدة، الجامعة العربية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، أبواب حل دائم لمشكلات العراق المتجددة. وفي حال رفض مثل هذه الرؤية سيكون الإستفتاء حلاً بديلاً لتحديد شكل ومستقبل الأكراد مع الحكومة الاتحادية.
قصارى القول، من شأن اتحاد كونفدرالي، إضافة إلى إبعاد العنف الطائفي والقومي بين الأفرقاء، وإيجاد الحلول للقضايا العالقة من بينها المناطق المتنازع عليها وفقاً للآليات التي حددها الدستور العراقي، توفير عملة وسوق مشتركة، مع احتفاظ كل دولة فيه بمفاتيح سياساتها الاقتصادية والثقافية والخارجية المستقلة.