- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الإسلام الأسود في أمريكا: ونبذ الراديكالية
"هو دين يرفع من شأننا، ويجعلنا مواطنين أكثر حباً وعطاءً لبلادنا"، بمثل هذه العبارات يؤكد العديد من الأفارقة الأمريكيين المسلمين إسهامات أجدادهم في تعزيز حركات الحقوق المدنية، وإرساء مبادئ العدل والمساواة في المجتمع الأمريكي.
ويرجع تاريخ المسلمين في الولايات المتحدة إلى ما يفوق أربعمائة عام، إلا أن أول قدوم موثق للمسلمين إلى أمريكا، هو ذلك الذي تزامن مع موجات تجارة الرقيق في بداية القرن السابع عشر، حيث تشير الإحصائيات إلى أن حوالي ربع إلى ثلث الأفارقة الذين جُلِبُوا عن طريق تجارة الرقيق إلى أمريكا كانوا مسلمين، وبالرغم من المحاولات التي تمت قسراً لمحو الهوية الدينية عنهم من السجلات، إلا أن إعادة الاتصال بينهم وبين أصولهم الدينية أصبحت هدفاً ملهماً للكثير منهم. ففي ضوء موجات العنف والتطرف الأخيرة التي تبناها تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، بالإضافة إلى الهجمات الإرهابية التي وقعت مؤخراً على الأراضي الأمريكية، لاحظ البعض أن عدداً لا بـأس به من المسلمين السود ما زال يمارس الإسلام المعتدل الذي قدم من غرب إفريقيا.
ومع ظهور الحركات الإسلامية السوداء التي كانت تناضل في فترة الستينيات من أجل المساواة والمواطنة، أصبح تبني الإسلام المعتدل أمراً غير مضمون، حيث اتخذت بعض هذه الحركات من العنف، والعنصرية، والانفصال عن الدولة، منهجاً لها. إلا أن تلك الحركات لم تنجح بشكل كبير في توجيه الأفارقة الأمريكيين المسلمين نحو التطرف، حيث آثروا طريق الإسلام التقليدي المعتدل. ومن ثم، يمكننا القول بأن النجاحات التي حققتها حركة الحقوق المدنية في فترة الستينيات، إلى جانب النهج الإسلامي المعتدل الوارد من غرب إفريقيا، ساعدت في تشكيل مجتمعات الأفارقة الأمريكيين المسلمين على النحو الذي نراه اليوم، والذي ينبذ العنف والتطرف.
ومع تزايد اضطهاد السود في أمريكا وتصاعد التفرقة العنصرية بين مكونات المجتمع الأمريكي، ظهرت حركه "أمة الإسلام" في ثلاثينيات القرن العشرين على يد "والس فارد"، الذي كان يعمل واعظاً في أحد المساجد في ولاية ديترويت، ثم تولى "إليجا محمد" مقاليد الحركة"، وهو ابن عامل زراعي وُلِدَ في ولاية جورجيا، ومع توليه المنصب بدأ تبني خطابٍ متطرفٍ وعنصريٍ يرفع السود درجات عن البيض، ويصف الرجل الأبيض بـ "الشيطان". فنجحت بذلك منظمة "أمة الإسلام" في إلهام حركات مثل "البلاك باور" أو "القوة السوداء" في أن تنأى عن النهج السلمي الذي تبناه قائد حركة الحقوق المدنية "مارتن لوثر كينغ"، كما ألهمت "حزب الفهود السود" أو ما يعرف باسم "البلاك بانتر"، بفكرة التخلي عن الخطاب الديني، والتركيز على النضال الثوري الشعبي، حيث صار رافعاً شعار العدالة الاجتماعية، والتحرر الأسود.
لكن "مالكوم إكس" أحد أهم الداعين المؤثرين في شعبية حركة "أمة الإسلام" وتلميذ "إليجا محمد" اتخذ قرار الانفصال عنها، وتحول عام 1964 إلى المنهج السني، الشيء الذي أدى إلى تخلي الكثير من الأفارقة الأمريكيين المسلمين عن عضويتهم بتلك الحركة، وتحولهم نحو المنهج الإسلامي الأرثودوكسي المعتدل الذي يرفض التوجه العنصري. وبعد وفاة "إليجا محمد" تولى ابنه الأصغر "وريث محمد" قيادة أمة الإسلام، وقام بإلغاء تعاليم "إليجا" العنصرية، لينهي بذلك فكرة تطلع السود إلى إنشاء دولة، كما اعترف بالقانون الأمريكي، وأعاد المنظمة إلى طريق الإسلام السني المعتدل.
إن الاعتدال هو سمة أساسية للإسلام المعاصر في أمريكا، بالرغم مما تبذله الحركات الراديكالية المتطرفة أمثال تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«القاعدة»، من جهود مضنية، لإثارة وتجنيد المسلمين من الأمريكيين الأفارقة في كل فرصة مواتية. فعلى سبيل المثال، قام تنظيم «داعش» باستغلال الأحداث الفردية من قبل الشرطة الأمريكية ضد الأمريكيين السود لتأليب المسلمين الأفارقة ضد الحكومة الأمريكية، ودعوتهم للثورة ضدها. إذ بعد اندلاع سلسلة من الاحتجاجات والاضطرابات المدنية بعد يوم من مقتل "مايكل براون" بتاريخ 9 آب/أغسطس 2014 في "فيرغسون - ميسوري" على يد أحد أفراد الشرطة الأمريكية، قام تنظيم «الدولة الإسلامية» باستغلال الحدث لتحريض متظاهري "فيرغسون" وغيرهم من الأمريكيين من أصل أفريقي ضد الإدارة الأمريكية، داعين إياهم عبر موقع "تويتر" إلى الانضمام إليهم، ونشر الإسلام حول العالم عبر "هاشتاغات" #Fergusondecision ( قرار فيرغسون)، و #FergusonRising (انتفاضة فيرغسون)، و #BeLikeMalcomX (كن مثل مالكوم إكس)، و #FightBack (قاتلوا ضدهم). ولم يتوقف تنظيم «القاعدة» عن مخاطبة المسلمين وغير المسلمين من الأمريكيين الأفارقة ودعوتهم للجهاد،ودخول الإسلام، للتخلص من الممارسات العنصرية التي ما زالت تمارس ضدهم. فقد دعى كل من لا يستطيع الهجرة خارج أمريكا، إلى الجهاد في مكانه. وهذا بالطبع، إذا ما تم، يمثل مكسباً كبيراً لتلك التنظيمات الإرهابية التي لن تضطر حينها إلى وضع الخطط، وتصدير الإرهابيين للقيام بعمليات على الأراضي الأمريكية أحد أهم مقاصدهم إذ في عام 2008 مثلاً، بث أيمن الظواهري رسالة تحريضية وصف فيها الرئيس الأمريكي "بارك أوباما" بأنه عبد من "عبيد البيت"، منتقداً إياه بسبب "تخليه عن جذوره الإسلامية"، مضيفاً أنه اختار أن يصطف مع أعداء الإسلام بالرغم من أن أباه كان من المسلمين".
ولم تلق تلك الدعوات استجابات تذكر بين المسلمين من الأفارقة الأمريكيين، حيث جاء رد "مجلس العلاقات الأمريكية-الإسلامية" كالتالي: "كمسلمين وكأمريكيين، لن نترك الجماعات الإرهابية أو قادة الإرهاب يدعون زوراً أنها تمثلنا، أو تمثل إيماننا".
لقد ساهم الإسلام المعتدل الذي جاء عبر تجارة الرقيق - وهي التجربة التي كانت أشد التجارب قسوة في تاريخ البشرية - في إلهام الكثير من الأفارقة الأمريكيين المسلمين، فكان بينهم عددٌ كبيرٌ ممن يجيدون اللغة العربية، ويقرؤون القرآن، وهذا بالطبع يفسر كيفية انتشار الإسلام المعتدل بين الأفارقة الأمريكيين المسلمين. وخلال الثلاثين عاماً الماضية، أظهر الأفارقة الأمريكيون المسلمون اهتماماً كبيراً بتاريخ غرب إفريقيا، وزاد عدد الشركات السياحية التي تنظم رحلات منتظمة للمعالم التاريخية الدينية هناك، وأرسلت الكثير من الأسر الأمريكية أبناءها إلى غرب إفريقيا لحفظ القرآن، وتلقي التعاليم الدينية الأرثوذكسية التي تتصف بالاعتدال، وتنبذ العنف والتطرف. وإذا كان الكثيرون من مسلمي غرب إفريقيا ينتقدون السياسة الأمريكية الخارجية، فإنهم بالمقابل، يعتبرونها أكثر اعتدالاً من شركائهم في الدين بالعديد من الدول التي يسودها الفكر المتطرف والعنف. ويرى المحللون أن مسلمي غرب إفريقيا هم الأكثر اعتدالاً، ويعود جزء كبير من هذا الاعتدال إلى التنوع الديني والثقافي المجتمعي في تلك الدول، مع ميزة تقبّل الآخر، حيث يسمح في تلك البلدان بممارسة الزواج بين الأديان، إذ يمكن أن تجد أسرة واحدة يعتنق أفرادها الإسلام، والمسيحية، أو الأرواحية.
إن الفكر السني الذي كان بالأمس مصدراً للسلام ونبذ العنف والعنصرية؛ هو ذاته الفكر نفسه الذي خرجت من تحت عباءته مجموعة من الأيديولوجيات المتطرفة والمسلحة، مثل: تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتنظيم «القاعدة»، و«جبهة أنصار السنة»، وغيرها من الجماعات التي أصبحت تمثل تهديداً كبيراً، ليس فقط على أمن الولايات المتحدة، بل على أمن العالم بشكل عام. إذ مازالت هناك بعض المنافذ المفتوحة على مصراعيها، والتي تسمح بانتشار الفكر الوهابي المتطرف، وهو الفكر الذي خرجت من رحمه تلك الجماعات الإرهابية التي تستبيح الأموال والأعراض، وتسفك الدماء تحت راية المنهج السني. وأهم تلك المنافذ هي السجون الأمريكية. حيث جعلت المملكة العربية السعودية من انتشار الإسلام المتطرف في أمريكا على رأس الأولويات، فهي ومن خلال المؤسسة الوطنية الإسلامية للسجون تقوم بتمويل برنامج للدعوى داخل السجون الأمريكية، والذي يسعى إلى تحويل السجناء للإسلام. ويكمن الخطر هنا في تبني هؤلاء للفكر الأصولي الوهابي، والذي لم يصلهم سواه. ومن ثم، يتوجب على الولايات المتحدة مراقبة ذلك النوع من الدروس والمواد التعليمية المستخدمة في تلك البرامج.
ودائماً ما يؤكد زعماء المسلمين الأمريكيين وجماعات الدعوة مراراً، على مبدأ حرية التعبير، وهم نشطاء أيضاً في ترويج ودعم مبدأ الحرية الدينية لكافة المواطنين، داخل الولايات المتحدة وخارجها. وقد قامت نحو عشرين منظمة مسلمة مؤخراً، بإصدار بيان تُدينُ فيه أعمال التهديد والترهيب التي تمارس ضد الأفراد والجماعات الدينية المختلفة.
ويشعر الأفارقة الأمريكيون المسلمون اليوم بقلق عميق حيال موجة التطرف التي اكتسحت العالم تحت راية الإسلام، وتشير التقارير إلى أنهم لعبوا دوراً كبيراً خلال السنوات الماضية في الإبلاغ عن الأنشطة الإجرامية الإرهابية، حيث كان لهم دور كبير في كشف نحو 40 في المائة من المؤامرات الإرهابية التي حيكت ضد الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي.
هكذا تظهر جلياً أهمية المسلمين من أصل أفريقي، داخل المجتمع الأمريكي، كواجهة لصد الأفكار الراديكالية حيث ساهم اندماجهم وتبنيهم الخطاب الديني المعتدل، في فشل المحاولات التي بذلتها التنظيمات العنيفة المتطرفة مثل تنظيمي «داعش» و «القاعدة». ومن ثم، يجب أن تولي الحكومة الأمريكية اهتماماً متزايداً لتلك المجموعات العرقية، من مختلف النواحي: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، لمنع أي اختراق محتمل لهم من قبل الجماعات المتطرفة التي تسعى إلى زرع بذور العنف والتطرف على الأراضي الأمريكية. وبشكل عام، ينبغي على الإدارة الأمريكية أيضاً أن تعمل على زيادة إدماج المسلمين المهاجرين في المجتمع الأمريكي، وتعلميهم قيم الحرية والمساواة، خاصة أولئك الذين أجبروا على ترك ديارهم وأوطانهم، هرباً من القتل والتنكيل على يد الجماعات المتطرفة.
محمد عبد العزيز هو محرر اللغة العربية بـ "منتدى فكرة" حالياً و مسؤول برامج بـ "مؤسسة بيت الحرية" سابقاُ. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"