- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الاستفتاء الكردي لا يمثل نهاية العالم أو حتى نهاية العراق
من وجهة نظر إربيل، عاصمة "إقليم كردستان العراق"، إن الضغوط الأمريكية والأجنبية الأخرى الرامية إلى إرجاء استفتاء 25 أيلول/سبتمبر حول الاستقلال هي، كما وصفها تاليراند ذات مرة، "أسوأ من خطيئة - إنها غلطة". فالحماسة الشعبية للاستقلال والحجج الأخلاقية حيال معاناة الأكراد وتقرير مصيرهم، تشرح جزئيًا هذه النظرة السائدة. لكن في أوساط معظم الأكراد المفكّرين، وأبعد من أي محركات عاطفية أو أخلاقية، ثمة أربعة أسباب عملية قوية تكمن خلف دعمهم لهذا الاستفتاء.
أولًا، والأهم، لطالما أعلن الأكراد أنفسهم وبثقة أن الاستفتاء، حتى ولو حقق نجاحًا ساحقًا، لا يعني إعلانًا أحاديًا للاستقلال. بدلًا من ذلك، يقرون أنه لا بدّ أن تتمثل الخطوة التالية بعملية تفاوض مع بغداد والدول المجاورة الأخرى لكردستان وكذلك المجتمع الدولي بشأن شروط الانفصال المستقبلي والكونفدرالية أو ربما حتى نسخة محسّنة من حكمهم الذاتي القائم حاليًا. هم يدركون أن الأمر عبارة عن رهان محفوف بالمخاطر لكنهم يشعرون أن الاستفتاء قد يعزّز في العموم موقفهم التفاوضي مستقبلًا. ونتيجةً لذلك، يعتبر معظم الأكراد العراقيين أن الاعتراض على الاستفتاء هو في أفضل الأحوال سابق لأوانه.
ثانيًا، يعتبر معظم الأكراد الحجج المحددة المعارضة للاستفتاء وهمية. ففكرة أنها تهدّد الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش") غريبة بنظرهم من عدة اعتبارات. فمن جهة، الأكراد هم من لعبوا دورًا كبيرًا كحلفاء الولايات المتحدة في كامل حملتها ضد "داعش" خلال السنوات الثلاث الماضية، ويستمرون في حماية أجزاء كبيرة من الأراضي إضافةً إلى مليونيْ لاجئ بمعظمهم من العرب على الأرض الكردية. فضلًا عن ذلك، حقّقت الحرب ضد "داعش" فوزًا في الغالب، لذا يعتقد الأكراد لأسباب مفهومة أن الوقت حان للمضي قدمًا وهم ببساطة لا يرون أي دليل على أن الاستفتاء يقف عائقًا في وجه أي خطط مستقبلية في مواجهة عودة محتملة لتنظيم "داعش".
كما يرتبط بهذه النقطة زعم الأكراد الذي لا يرقى إليه الشك بأن أي تطمينات حيال تسويات محتملة مع بغداد في موعد لاحق، المشروطة حصرًا بإلغاء الاستفتاء، غير قابلة للتصديق. ويعكس هذا الأمر منطقيًا تجربتهم الطويلة والمريرة مع سلسلة كبيرة من الوعود والالتزامات الدستورية التي لم تفِ بها الحكومة المركزية في العراق: استفتاء في كركوك وغيرها من الأراضي المتنازع عليها، وتقاسم الإيرادات النفطية، والمدفوعات لقوات "البيشمركة" الكردية، وغيرها. وعليه، لا يمكن لوم الأكراد لشكهم بعدم الوفاء بأي وعود جديدة تُقطع اليوم.
ثالثًا، يتمثل أكثر الأسباب استشرافًا الذي يقدّمه الأكراد دفاعًا عن استفتائهم في أن ردود الفعل المبالغ فيها حاليًا إزاءه ستنحسر ما إن يحصل التصويت. عندها، سيصبح بحكم الأمر الواقع ولن يكون أمام الدخلاء سوى خيار التعامل مع النتيجة بطريقة براغماتية. وفي حديث خاص إلى الكاتب هذا الأسبوع، صاغ أحد كبار المسؤولين الأكراد الأمر بهذه الطريقة: "نأمل أن تسود الحكمة". لا شكّ في أن هذا الموقف يستحق بعض لتقدير، ولو لمجرد أن البدائل تبدو أسوأ بالنسبة إلى كافة الأطراف. فبالنسبة لتركيا، على وجه الخصوص، إن اعتراضاتها الخطابية الشديدة اللهجة ومناوراتها العسكرية الرمزية ضد الاستفتاء في الوقت الحالي هي شيء، لكن فتح جبهة جديدة جدية ضد عدو جديد على حدودها سيكون شيئًا آخر بالكامل. وبالفعل، في محادثات منفصلة مع الكاتب هذا الأسبوع، أقرّ بعض كبار المسؤولين الأتراك سرًا بأنه في الوقت الذي قد تفرض فيه حكومتهم بعض العقوبات على كردستان في حال المضي بالاستفتاء، سيكون حدثًا مأساويًا للطرفين أن ينهار التحالف اللافت بين أنقرة وإربيل القائم منذ العقد الماضي بشكل كامل.
رابعًا وأخيرًا، إن الدولة الأجنبية المجاورة الأخرى التي يتجلى تأثيرها بشكل أكبر في هذا المشهد هي إيران. فالعديد من الأكراد يتساءلون بحق لما لا يكون هذا سببًا أكثر أهمية لتخطي الاستفتاء والنظر في المصالح الدولية الأشمل التي هي على المحك. وتعترض إيران بشدّة على الاستفتاء وعلى أي حقوق وطنية كردية قد تقف في وجه طموحاتها للسيطرة على العراق وما بعده مرورًا بسوريا ولبنان ووصولًا إلى المتوسط. لذا، في حال كانت الولايات المتحدة جادة حيال مواجهة هذا التحدي الإيراني، فعليها، بحسب منطق الأكراد، تغيير موقفها ودعم وقوف الأكراد في وجه تهديدات إيران التي لا تنفك تزداد خطورةً.
وتتمثل أفضل حجة معاكسة لهذا المنطق في أن تعديل مماثل للسياسة قد يأتي على حساب شراكات أخرى مناهضة لسياسة إيران التوسّعية. وردًا على ذلك، يعتبر الأكراد أن أنقرة وبغداد وغيرهما تتشارك جميعها مصلحة واحدة في احتواء طهران وتجاوز مخاوفها الأصغر حجمًا حيال كردستان. إنها فرضية قابلة للنقاش لكنها تستحق المتابعة في أعقاب الاستفتاء.
في الإجمال، وفي ما يتعلق بسياسة الولايات المتحدة في المستقبل، تقدّم الاعتبارات السابقة بشكل كبير نظرة جديدة إلى مستقبل الصداقة الكردية-الأمريكية والتعاون الإستراتيجي بينهما، والتي أتت ثمارها ضد صدام حسين و"داعش" وغيرهما من الأعداء المشتركين خلال ربع القرن الماضي. يجب ألا يمثّل الاستفتاء نهاية هذه القصة، كما أشار أحدث بيان صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية. بدلًا من ذلك، على الولايات المتحدة أن تركّز الآن على كيفية إدارة ومعالجة الطلبات المتعارضة والمخاوف المشتركة لمختلف شركائنا المحتملين في المنطقة، وهم يشملون الأتراك والعرب طبعًا، إنما أيضًا الأكراد وغيرهم. وستبقى هذه المهمة مخيفة ومقلقة رغم معالجتها بحكمة أكبر، لكنها ليست مستحيلة.