الاتحاد الأوروبي: ما بين الانفصال وبين بناء علاقات جديدة مع الشرق الأوسط
مع تولى تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، منصبها، تستعد بريطانيا العظمى لمغادرة الاتحاد الأوربي حيث ستعود عاجلا، إلى مكانتها التاريخية، حيث كانت جسرًا بين أوروبا وأمريكا. لكن ماذا يعنى هذا الانفصال الذي شبهه البعض بسقوط حائط برلين في ما يخص مستقبل الاتحاد الأوربي؟!
في حقيقة الأمر، لقد زاد الانفصال من تخوف الاتحاد الأوربي من شيئين رئيسيين، هما: ما يطلق عليه تأثير الدومينو (domino effect)، وزيادة الشعوبية. فإذا كانت بريطانيا ترغب من وراء هذه القطيعة والعزلة؛ أن تحدث رد فعل ضد مخاوف العولمة، والرغبة الشعبوية التي أصبحت تيارًا سائدًا في الديمقراطيات الناضجة التي تمر بالأزمات؛ فإن أزمة تأثير الدومينو والديمقراطية والتكامل الأوربي لا يجب اعتبارها محصلة حتمية لا يمكن تجنبها، لكن على النقيض، فكل دولة لديها مصالح وطنية خاصة بها، وحتى لو تداخلت تلك المصالح؛ فإن ذلك يجعل من تأثير الدومينو نتيجة إقليمية غير محتملة. وعلى الرغم من أن بعض السياسيين الأوربيين الذي يتبنون الفكر الانعزالي، قد انتهزوا تلك الفرصة وقفزوا عليها، إلا انه من الواضح أن زيادة العزلة في زمن العولمة؛ قد يكون بمثابة قفزة في الظلام. ومن ثم، فمن المحتمل أن تقرر بعض الدول الهامشية ترك الاتحاد، مع استثناء الدول الست المؤسسة للمجموعة الأوروبية للفحم والصلب والتي أُنْشِئَتْ بهدف "جعل الحرب ليست أمرًا غير وارد فحسب، بل أمرا مستحيل الحدوث من الناحية المادية " ـ فتلك الدول لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تفكر في الانفصال أبدا، خصوصا، وأنها تسعى دائما إلى دعم التكامل السياسي والأمني فيما بينها، من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي.
وعوضا عن ذلك، فإن هذا الخروج أو الانفصال؛ يمثل للاتحاد الأوربي فرصة، وبإمكانه استغلالها لإحداث تحول استراتيجي بطيء، يتمحور حول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وإلى جانب العقد الجديد الذي سيتم إبرامه مع الشعوب الأوربية؛ بغية الوصول إلى ديمقراطية حقيقية واتحاد شامل؛ ستحتاج المؤسسات الأوربية إلى رؤية مستقبلية، تتعلق بكيفية التواصل مع بقية دول حوض البحر المتوسط، ولعل عملية الانفصال هذه ستسهم في تحقيق ذلك. فمثل الكثير من الأحداث التي أعقبت سقوط حائط برلين، وأدت إلى تمدد الاتحاد الأوربي في أوروبا الشرقية؛ يمكن للاتحاد أن يستثمر نتائج الانفصال هذا، في تنشيط تمدده وتوسعه جنوب البحر المتوسط. وقد يبدو هذا الاحتمال بعيد المنال، نظرا لأن الشراكة التي تتم بين الدول التي تفصل بينها الحدود البحرية ليست مثل الشراكة بين الدول التي تفصلها حدود برية، لكن السياق الإقليمي يمكنه أن يجعل من هذا حقيقة واقعية. وفى هذا الصدد، يمكن التسليم بأن الأزمات دائما ما توفر الفرص لطرح الحلول الإبداعية والأكثر مرونة، فعلى سبيل المثال، لم تتأسس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب إلا بعد سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية. وإضافة إلى ذلك، يمكن للازمة الاقتصادية وأزمة اللاجئين والمهاجرين، وأزمة الانفصال، وأزمة الديمقراطية الشعبوية في الاتحاد الأوروبي، يمكن أن توفر حافز للاتحاد الأوربي للخروج ببعض السياسيات الحكيمة التي تتعلق بحدوده الخارجية، ولا سيما حدوده الجنوبية.
لقد جاء التواصل الجغرافي والتاريخي الطبيعي بين أوروبا الشرقية ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط؛ قبل المناطق التي تقع وراء جبال الأورال. وإلى جانب العلاقة التاريخية مع دول الجنوب، يواجه الاتحاد الأوربي بعض التحديات الملحة التي نتجت عن زيادة العولمة، حيث أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا جزء أساسيا من تلك التحديات أكثر من أي وقت مضى. لذلك، فان تفشى خطر الإرهاب، وأزمة اللاجئين، والهجرة الاقتصادية، تجعل من التنسيق الإقليمي ضرورة حتمية لسلامة كلا الجانبين. وقد تتطلب تلك التوجهات مجموعة جديدة من السياسات طويلة الأمد منها تغيير الوضع الراهن، وذلك عوضا عن ردود الفعل المؤقتة التي تبرز في حالات الطوارئ. وبناء على ذلك، يمكن للانفصال أن يعزز الاتحاد الأوربي ويسهم في تمدده بشكل طبيعي في المستقبل ليشمل بقية دول حوض البحر المتوسط التي لن تكون بالضرورة "جزءا من الاتحاد" عند تكوينه، لكنها ستكون "شريكة له".
مع وجود ثمانية وعشرين دولة عضوًا في الاتحاد الأوروبي، زيادة على الخمسة عشر دولة من جنوب البحر المتوسط ـ والتي ضمها الاتحاد في إطار صفة الشراكة؛ وفقا لعملية برشلونة ـ فإن محاولات خلق "اتحاد المتوسط" ما زالت قائمة منذ عام 2008. فالعمل على توسيع الاتحاد الأوربي نحو الاتحاد الأورو- متوسطي، ليس بأولوية فى المرحلة الحالية، لكن ينبغي التركيز على التكامل وليس التوسع، حيث أن الشراكة الجديدة مع دول جنوب البحر المتوسط تعتبر سياسة ممكنة ومرغوبة في الوقت الحالي. وفى هذا الإطار يمكن استغلال المباحثات المستقبلية التي ستتم حول مستقبل العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوربي، لتعريف ووضع قواعد جديدة تمتد إلى الدول الأطراف الأخرى التي أبدت اهتماما كبيرا بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي، مثل تركيا والمغرب. وبالرغم من أن انضمام تركيا فعليا إلى الاتحاد الأوربي قد لا يبدو أمرا واقعيا، إلا أن صياغة نوع جديد من الشراكة قد تكون الحل الأمثل.
إن تحقيق هذه النوع من الشركات لا يتطلب فقط إطار مؤسسي، بل يتطلب أيضا تعاون على المستوى الشعبي، حيث يمكن للمجتمع المدني إلى جانب طبقة رجال الأعمال في أوروبا؛ أن يبذل بعض الجهود البسيطة؛ لجعل هذا التحول ملموسا، فبرامج التبادل اللغوي كتلك التي تتم بين المغرب وإسبانيا، يمكنها أن تشجع الشباب الأوربي ـ والذي يتحدث أغلبه لغة أوربية ـ ستشجعه على تعلم اللغة العربية. كما أنه بالإمكان مد يد العون للمجتمع المدني في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ لمساعدته على تجاوز الطريق الصعب الذي يسلكه نحو الديمقراطية. ومهما يكن، فإن المؤسسات القوية والمجتمع المدني هما الضامنان الوحيدان للديمقراطية في أوروبا. كما يمكن أيضا أن يقوم رجال الأعمال بالعمل على تنشيط المعاملات التجارية مع الجانب الآخر من البحر المتوسط في مختلف المجالات، بدءًا بالسياحة وانتهاءً بأشكال أخرى للتبادل الاقتصادي الإيجابي. ومن الواضح كذلك، أن قضية الأمن ستكون بمثابة شرط مسبق لهذا المحور من التعاون، نظرا لأن الصراعات ـ خاصة الصراعات المسلحة ـ تعيق عمليات التبادل الإيجابي بين الشعوب، بما في ذلك تبادل الأفكار والبضائع.
وتعتبر إيطاليا من البلدان النموذجية لريادة تلك الترتيبات، باعتبارها واحدة من المؤسسين الستة للمجموعة الأوروبية للفحم والصلب، كما أنها أيضا، متصلة جغرافيا وتاريخيا بمنطقة الشرق الأوسط من خلال التبادل الثقافي والبشري منذ آلاف السنين، أي منذ عصر الإمبراطورية الرومانية. ومن الجدير بالذكر هنا أن إيطاليا ليست مثل بريطانيا وفرنسا اللتين لهما تاريخ طويل من الاستعمار والانتداب بالمنطقة. وبذلك يمكن لإيطاليا أن تساعد الاتحاد الأوربي في بدء شراكة مع كل من تونس وليبيا أولا. فعلى سبيل المثال، يمكن للإيطاليين أن يساعدوا بلدان المنطقة في بناء المسار الديمقراطي. وعلاوة على ذلك، يمكن لهم أيضا، مواصلة طلباتهم للاتحاد الأوروبي لتطبيق اتفاقية المهاجرين، والتي رفضتها بعض دول هذا الاتحاد، وخاصة ألمانيا، بسبب افتقارها إلى "رؤية سياسية". ومن شأن تلك الاتفاقيات أن تدعم التنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وإذا نظرنا إلى الوراء قليلا، سنجد أن المؤرخين قد اكتشفوا أن احتمالية الانفصال عن الاتحاد الأوربي؛ يمكنها أن تعزز من بروز شراكات أورو- متوسطية جديدة. وتلك الشراكات هي في الحقيقة، السبيل الوحيد لأوروبا؛ للمضي قدما في عصر العولمة، حيث ستعمل على دعم التعاون المتبادل المتكافئ على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بين جميع الشركاء. ومن ثم، يتطلب هذا التغيير إرادة سياسية وقيادة سياسية تمتلك رؤيا طويلة الأمد، وكل هذا في نهاية المطاف، سيساعد الاتحاد الأوربي على منع الأزمات في المستقبلية عوضا عن إجباره على الاستجابة للتحديات التي تفرضها تلك الأزمات.