- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3100
الأوضاع المتفاقمة منذ زمن التي أدت إلى الاحتجاجات الشعبية في الجزائر
يبدو أن زوبعة الأحداث الاستثنائية في الجزائر تتسارع. ففي 5 نيسان/أبريل، أفادت التقارير بأن السلطات الجزائرية أقالت رئيس المخابرات بشير طرطاق ونقلت وصاية مديريته من مكتب الرئيس إلى وزارة الدفاع - وهي علامة محتملة على أن القادة العسكريين يهدفون إلى السيطرة على أهم الأجهزة الأمنية وإلى درء التحركات القوية التي تتخذها الجهات الفاعلة الأخرى. وفي غضون ذلك، أضاف المحتجون في المظاهرات الجماهيرية المستمرة نائبَ وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح إلى لائحتهم الطويلة من الشخصيات القديمة العهد التي يجب أن تنضم إلى الرئيس المستقيل حديثاً عبد العزيز بوتفليقة في مغادرة الساحة. وفي 9 نيسان/أبريل، أفادت بعض التقارير أنه تم اتخاذ تدابير تشريعية من قبل مجلسي البرلمان لإقرار دور رئيس مجلس الأمّة عبد القادر بن صالح كرئيسٍ مؤقّت.
ورغم الاعتراضات الشعبية على هذه الخطوة الأخيرة، تنازلت عموماً أقوى الشخصيات في البلاد لمطالب الحركة الاحتجاجية التي تفتقر إلى القيادة والتي اجتاحت الشوارع للمرة الأولى في شباط/فبراير، بينما لم يتنازل المحتجون عن أي شيءٍ في المقابل. ومع استمرار المواجهة، يتعيّن على الحكومة الأمريكية أن تواصل الحث على اللاعنف والتطلع إلى المدى البعيد، مُدرِكةً أهمية إيجاد حلٍ بقيادة الجزائر للمشاكل التي كانت تختمر منذ سنوات، وليس أشهر.
تحديد سياق الاحتجاجات
تجري حركة الاحتجاج المتصاعدة بسرعة على خلفية تغييرٍ تدريجي. ففي عام 2011، أطلقت الحكومة إصلاحاتٍ دستورية ردّاً على تظاهراتٍ اندلعت في الجزائر وأماكن أخرى من المنطقة. وأحرزت هذه الإصلاحات التي تم اعتمادها رسميّاً في عام 2016 تقدماً ملحوظاً في بعض القضايا، مثل توسيع صلاحيات البرلمان ووضع حدود للولاية الرئاسية. غير أنها لم تعمل ما يكفي لتمكين المواطنين بشكلٍ مناسب.
على سبيل المثال، على الرغم من سن قانون في عام 2012 ينص على تخصيص حصة للتمثيل النسائي على لوائح الأحزاب السياسية، إلّا أن مفعول قانون الأسرة التقييدي إلى حدٍ كبير ظلّ سارياً في الجزائر، مقللاً من شأن حقوق النساء على حساب حقوق الرجال في القضايا المتعلقة بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال والميراث. أما بالنسبة إلى حدود الولاية، فإن توقّع الجولة الخامسة في الحكم للرئيس بوتفليقة الذي يبلغ من العمر اثنين وثمانين عاماً شكّل في النهاية الشرارة الأخيرة التي أشعلت حركة الاحتجاجات الجماهيرية الحالية.
وتشكّل التحديات الاقتصادية الحادة التي تواجهها الجزائر المحرك الآخر للاضطرابات القائمة منذ مدة. فقد كافحت البلاد لتخفيف اعتمادها الكبير على الغاز والنفط منذ الاستقلال. وآمن مؤسسو هويتها الوطنية بعد الاستعمار ومهندسو عملية تطوّرها الاقتصادي اللاحق بأن الطاقة الرخيصة ستساعد في بناء قطاع صناعي قوي وتحويل الجزائر إلى دولة حديثة، لا تعتمد على الموارد الخارجية. وبَنَت الدولة أيضاً إرثاً من التدخل المفرط، باستخدامها عائدات الهيدروكربون لتمويل منافع سخيّة مثل إعانات الأسعار وخلق فرص عمل كثيرة في القطاع العام.
غير أن هذه السياسات فشلت في حماية قطاعات كبيرة من السكّان من الضعف الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي أثار احتجاجات صغيرة النطاق في الشوارع طوال فترة رئاسة بوتفليقة. حتى أن المجتمعات في المناطق الغنية بالغاز والنفط في البلاد قاومت محاولات شركة الطاقة الوطنية "سوناطراك" وشركائها الدوليين (من بينها الصين وروسيا) لاستغلال احتياطيات الغاز الصخري المحلّي، بدعوى أنها لم تستفد يوماً من احتياطيات النفط التي سبق استغلالها في هذه المناطق. وتشكّل هذه الأحداث نقطة تحوّل في المواقف الشعبية إزاء ما يشكّل تمكيناً اقتصاديّاً واجتماعيّاً.
وهناك تغيير تدريجي آخر يتمثل في تحسن التماسك الاجتماعي في الجزائر منذ تولّي بوتفليقة مقاليد السلطة للمرة الأولى. فقد لوحظ أن الاحتجاجات الأخيرة لم تستند كثيراً على تعبئة عناصر الهويات الوطنية الفرعية مثل البربر أو الطوارق أو غيرها، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى السلوك التعاوني إلى حد كبير الذي أبدته أحزاب المعارضة السياسية. كما كانت النساء أكثر بروزاً في التظاهرات، حيث ساعدن في الحفاظ على الوحدة في حركةٍ ما زالت تفتقر إلى قائدٌ واحد. ويَنْسب بعض المحللين فضل هذا التطور إلى بوتفليقة، ذاكرين قدرته على تعزيز هوية جزائرية وإسلامية مشتركة. وأشار آخرون إلى استخدام الحكومة لخطابٍ يدور حول "التهديدات الخارجية" (مثل الحركات الإرهابية أو التدخل الغربي) من أجل تفادي الانقسامات الداخلية. ومهما يكن الأمر، يبدو أن الجزائريين وجدوا سبلاً لإسماع أصواتهم الجازمة بشكلٍ جماعي على الرغم من ركود الحكومة.
دور القوات العسكرية
على مر التاريخ، أدّت القوات العسكرية الجزائرية دوراً مركزيّاً في السياسة منذ أن شكّلت تحالفاً وثيقاً مع "جبهة التحرير الوطني" خلال الثورة قبل ستة عقود. ومع ذلك، تم تحدي موقفها بشكل دوري. وقد أدى قيام الدولة بإضفاء الطابع الإحترافي على الجيش بصورة مستمرة بعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 2002 إلى إعادة التفاوض بشأن العلاقات المدنية -العسكرية، على غرار قيام بوتفليقة بإعادة هيكلة أجهزة المخابرات الحكومية القوية بعد عام 2015. بالإضافة إلى ذلك، رغم عدم استعداد السلطات المدنية تقليديّاً في الانخراط في الشؤون العسكرية في الخارج أو إقامة شراكة مع الدول الغربية حول القضايا الأمنية، بدأت هذه السلطات بالدفع باتجاه المزيد من هذا التعاون بعد أن هاجم إرهابيون مرتبطون بتنظيم «القاعدة» منشأة الغاز في إن أميناس في عام 2013.
ومن الواضح اليوم أن الجيش لا يزال يرى نفسه كحامي الجزائر وضامن الحكومة المدنيّة، حتى لو استلزمت هذه المهمة الضغط على الرئيس للاستقالة، كما فعل قايد صالح في الأسبوع الماضي وفقاً لبعض التقارير. ومع ذلك، يؤكد المتظاهرون بقوّةٍ أيضاً على صوتهم الخاص في اختيار قيادة البلاد، ويرفض الكثيرون منهم الخطة الانتقالية التي اقترحها قايد صالح وحتى استمرار وجوده في الحكومة.
وقد دَفَعَت هذه الصلاحيات المتضاربة بعض المراقبين إلى الإشارة إلى أنه لا يمكن تقديم خارطة طريق مقبولة إلا تحت حُكم قادةٍ يُرضون كلّاً من الشعب والجنرالات. وقد اقترح الجيش عدداً من القادة المحتملين، لكنّ المحتجّين رفضوا قبول جميعهم باعتبارهم يمثّلون كثيراً النظام القديم (وعلى الأقل يتمتع بن صالح بدعم سلطة القانون لعملية ارتقائه لفترة مؤقّتة، لأن الدستور ينص على تسمية رئيس مجلس الأمة كرئيسٍ مؤقّت في هذه الحالات الانتقالية). كما طالبوا بإقالة رئيس المجلس الدستوري الطيّب بلعيز ورئيس الوزراء نور الدين بدوي (الذي تفتقر حكومته إلى الشرعية لأنه تم تعيينه في عهد بوتفليقة).
إن واقع عدم بروز أي شخصية تساعد الجانبين على تخطي هذا الطريق المسدود قد يكون مرتبطاً بالهوية الوطنية الجزائرية، المترسخة في مفاهيم القيادة الجماعية والإجماع. وبالمثل، افتقرت ثورة عام 1954 إلى زعيم واحد بلا منازع، مما يفسّر جزئيّاً الضعف التاريخي للرئاسة والدور السياسي البارز للقوات العسكرية. وتعطي هذه الميول أهمية لنداءات حركة الاحتجاج التي تدعو إلى تعيين فصيل محايد كحكومة انتقالية إلى أن يتم تنظيم الانتخابات.
التداعيات على السياسة الأمريكية
ما زالت قصص الهوية الوطنية التي تطورت منذ الثورة الجزائرية تؤدي دوراً قويّاً في إملاء مجريات الأحداث الراهنة. وتقوم هذه الهوية على مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما - وهذه هي الأسس التي استندت إليها الجزائر لمعارضة التدخل العسكري في ليبيا في عام 2011 ورفضها مراراً مساعدة "صندوق النقد الدولي" خلال التراجع الاقتصادي في الثمانينات. وبالاقتران مع واقع أن الدعم الغربي في الماضي للتعددية السياسية ساعد في إطلاق العنان للحرب الأهلية، فإن مقاومة التدخل الأجنبي تعني أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لا يمكنهم إلا ممارسة نفوذٍ محدود على الأزمة الحالية في الجزائر.
وبدلاً من ذلك، على واشنطن دعم الجزائريين في بحثهم عن الإجماع الوطني حول كيفية تخطي حقبة بوتفليقة. ينبغي على صانعي السياسة في الولايات المتحدة الثناء أيضاً على السلطات الجزائرية لضبط النفس الذي أظهرته تجاه المتظاهرين بالنظر إلى العواقب المدمّرة التي يمكن أن يسببها القمع القسري. بالإضافة إلى ذلك، على المسؤولين أن يتذكروا أنّ للجيش الجزائري مصلحة مشتركة مع واشنطن في الحفاظ على علاقة قوية في مكافحة الإرهاب . يجب على كلا الشريكين البحث عن سبلٍ للحفاظ على هذا التعاون حتى في وجه التحوّلات المؤسسية الكبرى.
وأخيراً، على صانعي السياسات أن يضعوا في الاعتبار احتياجات الجزائر طويلة المدى. وعلى كل من يتولى القيادة بعد بوتفليقة أن يتعامل مع الوضع الاقتصادي غير المستدام، والذي يشمل البطالة الواسعة الانتشار بين الشباب والإنفاق العسكري المرتفع الذي يساهم في العجز في الميزانية. وفي هذا السياق، سيكون التمويل الأمريكي لبرامج إصلاح التعليم والصحة موضع ترحيب خاص ويحتمل أن يشكّل أفضل السبل للانخراط إذا حدث تغييرٌ شامل.
سابينا هينبرج هي زميلة حائزة على زمالة لما بعد الدكتوراه في "كلية الدراسات الدولية المتقدمة" في "جامعة جونز هوبكنز"، حيث تقوم بالبحث والنشر في القضايا المتعلقة بالتحولات السياسية في شمال إفريقيا.