- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الأزمة الجزائرية: دوامة مفرغة
النظام الجزائري المنقسم لديه وقت محدد لإجراء إصلاحات ضرورية.
شهدت الجزائر منذ قرابة العامين حركة احتجاجية هي الأكثر شعبية وسلمية وتصميمًا في تاريخها الحديث. لقد نزل ملايين الجزائريين من مختلف الخلفيات الاجتماعية إلى الشوارع احتجاجًا على إعلان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ترشّحه لولاية خامسة. مثابرة الجزائريين أرغمت بوتفليقة على الاستقالة في 2 نيسان/أبريل 2019 حيث تخلّت المؤسسة العسكرية عنه. وأصبحت هذه الحركة الاحتجاجية تُعرف اليوم بـ "الحراك".
مع اقتراب الذكرى السنوية الثانية لانطلاق الحراك في 22 شباط/فبراير، تبددت آمال الجزائريين وذابت في واقع كئيب يسوده الوضع الاستبدادي القديم نفسه. فمع أن المتظاهرين نجحوا في المطالبة باستقالة بوتفليقة، إلا أن إقالته من السلطة لم تكن الهدف النهائي لتطلعات الجزائريين الديمقراطية، بل كانوا يأملون أن تكون استقالته خطوة تؤدي إلى تفكيك النظام السياسي الجزائري الذي طبع البلاد منذ سنوات الاستقلال.
وإذا كانت هذه هي أهداف الحراك، يمكن القول إنه آل إلى نهاية مريرة. فالقيادة العسكرية الجزائرية رفضت رفضًا قاطعًا القيام بأي تنازلات إضافية وتجاهلت كل الدعوات إلى فترة انتقالية تحتاجها البلاد أمسّ الحاجة، وقامت المؤسسة السياسية بدلاً من ذلك بحملات دعائية وقمعية لفرض انتخابات رئاسية في 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 أدت إلى وصول رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون إلى سدة الرئاسة.
خلال هذين العامين، لم تجد الجزائر إلى الاستقرار السياسي سبيلاً، بل علقت الدولة في حلقة مفرغة، حيث عمدت الأطراف السياسية مرارًا وتكرارًا إلى تأجيل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية اللازمة، وبذلك أجّجت غضب الحراك. واليوم، في ظل الصعوبات الاقتصادية والسياسية التي تتخبط فيها الجزائر بسبب جائحة "كوفيد-19"، دخلت البلاد في أزمة متعددة الأبعاد قد تتحول إلى فوضى عارمة. ذلك أن تردد المؤسسة السياسية في إجراء التغيير اللازم، والقيود التي تعيق عمل الحراك، كلها عوامل وضعت الجزائر على مشارف الكارثة وفي وضعٍ لا يُحتمل قد يبلغ ذروته العام المقبل على الأرجح.
"التوازن غير المستقر" للمؤسسة السياسية
خلال عهد بوتفليقة الممتد على عقدين من الزمن، اعتُبر "رجلاً توافقيًا" بين مختلف أقطاب المنظومة السياسية، فوافقت هذه الأخيرة على ترشيحه للمرتين الرابعة والخامسة للرئاسة باعتباره حلاً مؤقتًا للتوترات القائمة منذ مدة طويلة بين مختلف فصائل النخبة السياسية في الجزائر. من هنا، ساهمت استقالة بوتفليقة في الكشف عن الانقسامات العميقة داخل الدولة الجزائرية. فالنخبة السياسية لم تقبل استقالة بوتفليقة إلا كملاذ أخير لإنقاذ تلك المؤسسة في ظل انطلاق الاحتجاجات في الشوارع، ولا تزال - في فترة ما بعد بوتفليقة- تفتقر إلى الإطار اللازم للاتفاق على الخطوات المستقبلية بين مختلف الأطراف السياسية الفاعلة.
تعرضت ديناميات القوة في الجزائر لمزيد من عدم الاستقرار وذلك بعد وفاة رئيس أركان الجيش السابق قايد صالح في كانون الأول/ديسمبر 2019 - الذي يُشاع أن تبون كان على صلة به. خلال العام الماضي، أصبح واضحًا أن شبكات قايد صالح بدأت تنحسر شيئا فشيئًا بعد إقالة واعتقال المدير العام السابق للأمن الداخلي واسيني بوعزة في نيسان/أبريل 2020، في حين أن الشبكات القديمة لمحمد مدين - المعروف بالجنرال توفيق - الذي كان رئيسًا للمخابرات الجزائرية من عام 1990 حتى إقالته عام 2015، تستعيد في المقابل قوتها مع تبرئة توفيق نفسه في الآونة الأخيرة وإطلاق سراحه من قبل محكمة العسكرية بالبليدة في قضية المؤامرة الشهيرة ضد سلطة الدولة والمؤسسة العسكرية .
وبالنظر إلى مراكز القوة المتقلبة هذه، بقي النظام مذّاك عاجزًا عن إعادة إحياء "التوازن غير المستقر" القديم الذي اتصف به عهد بوتفليقة. وفي حين يعتبر البعض أن انتخاب تبون أنهى الصراعات الداخلية على السلطة، رأت الكثير من التنظيمات السياسية النافذة في تبون مجرد "عامل استقرار مؤقت".
نتيجةً لذلك، كثيرة هي التطورات السياسية الأخيرة في الجزائر، بما فيها الاستفتاء الدستوري الذي أجري في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، التي لم تكن سوى جهود لكسب الوقت وليست حلولاً شاملة للأزمات السياسية الكثيرة في الجزائر. والواقع أن المؤسسة السياسية لم تركّز على الإصلاحات المطلوبة لانشغالها بحل قضاياها الداخلية، لا سيما داخل مؤسساتها العسكرية.
على هذا الأساس، حتى مع وعود تبون المتواصلة بالتغيير السياسي والاقتصادي الجذري، والتي من بينها إشراك شباب الحراك وتنويع الاقتصاد، فإن قدرته على تحقيق هذا التغيير وسط الاضطرابات الحالية داخل المؤسسة هي محط التباس. إذ يؤدي تبون في هذه المرحلة دور الرئيس الذي يستطيع "شغل المنصب" ولكن ليس بالضرورة "ممارسة الحكم" بما أن موافقة القيادة العسكرية تعتبر لازمة لمعظم قراراته الاستراتيجية. وهذا يعني أن تغيّر سردية النظام واستراتيجيته مستبعد ما لم ينجح في إرساء توازن جديد.
أحلام الحراك ومعوقاته
في بداية الحراك، شارك ملايين المواطنين في ما بدا آنذاك فرصةً مثالية للتغيير. لقد ضغط الجزائريون على نظام معقد عمره 58 عامًا للقيام بعدة تنازلات مهمة، من ضمنها استقالة بوتفليقة والمحاكمات التاريخية لأعضاء نافذين من النخبة الجزائرية الحاكمة. لكن المحتجين احتفلوا بقوتهم ووحدتهم باكرًا جدًا للأسف، وحسبوا خطأً أن توافقهم المؤقت هو انسجام اجتماعي وسياسي دائم. واليوم، أصبح الحراك مقسمًا وعاجزًا.
يعود فشل الحراك جزئيًا إلى كونه وقع ضحية رواياته الخاصة وسوء فهمه للنظام والمجتمع الجزائريين. بالفعل، شكّلت الاحتجاجات الأسبوعية فرصة صريحة أمام الجزائريين لاكتشاف بلادهم وتنوعها، لكن الجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية في الحراك، التي تبنت مواقف متطرفة، فشلت في توفير بديل سياسي صالح عن الحكومة التي سعت إلى الإطاحة بها. وبقدر ما كانت هناك حاجة لخطاب "المبادئ المطلقة" خلال الأسابيع القليلة الأولى من الحراك، سرعان ما أصبحت هذه اللغة سامّة وشعبوية وجاءت بنتائج عكسية، خصوصًا بعد انتخابات كانون الأول/ديسمبر.
فضلاً عن ذلك، من الآمن القول إن الحراك أصبح مجزّءًا بشكل لا يمكن إصلاحه، وبات اليوم مكوّنًا من مجموعات لم تعد تتشارك التطلعات الاجتماعية والسياسية نفسها. وأبرز أوجه هذا الانقسام هو ذاك الحاصل بين المعسكر الإصلاحي الجديد المؤلف من حزب "جيل جديد" الليبرالي القومي و"حركة مجتمع السلم" الإسلامية بالإضافة إلى ائتلافات المجتمع المدني على غرار "المسار الجديد"، ومعسكر السياسة الراديكالية المكون من أحزاب المعارضة التقليدية مثل "جبهة القوى الاشتراكية" و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" العلماني والأوساط الإسلامية التي تعود إلى زمن التسعينيات.
نتيجةً لهذا الضعف الداخلي، فشل الحراك حتى في وضع أجندة مفصلة يسعى إلى تحقيقها. لقد فات موعد إجراء حوار داخل الحراك، مع أنه حتمًا ضروري لإمكانية نجاحه، ومن المستبعد أن يؤدي هكذا حوار إلى التوافق ما لم تواجه الدولة تهديدًا وجوديًا يدفع النظام، بما في ذلك الجهات الفاعلة في الحراك، إلى التعاون معًا، وإلا سيبقى الحراك في الجزائر منقسمًا وتتلاشى فرص التغيير الفوري والكامل في النظام الجزائري.
المعوقات السياسية والاقتصادية في الجزائر
لا يخفى أن الوضع القائم في النظام الجزائري وانقسامات الحراك هي نتائج حتمية في أي دولة تمر بتحولات عميقة كثورة 22 شباط/فبراير. وليست الجزائر استثناءً، شأنها شأن العديد من الدول العربية التي لا تزال تعاني من تبعات الانتفاضات الشعبية. مع ذلك، تواجه الجزائر حاليًا أكثر أزماتها السياسية والاقتصادية تعقيدًا منذ نيلها الاستقلال عام 1962. وفي حين قد تجادل عدة أطراف سياسية واجتماعية وعن وجه حق بأن البلاد تتغير ببطء، إلا أن الجزائر لا تملك رفاهية الوقت.
على الصعيد السياسي، ورغم الوعود المتكررة من الرئيس عبد المجيد تبون، لا تزال الجزائر مسرحًا للقمع السياسي والظلم. فخلال العام الماضي، تعرّضت عدة شخصيات سياسية وعدة ناشطين من المجتمع المدني وصحافيين للاعتقال والإدانة المجحفين بسبب ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية. وحتى إن لم تكن هذه الاعتقالات كلها ناتجة عن أوامر مباشرة من المنظومة الحاكمة، علمًا بأن نسبة كبيرة منها هي نتاج أطر قانونية بالية وتوترات اجتماعية وتدابير قسرية من السلطات المحلية، فهي تتعارض مع وعود الرئيس. كما أن المشاكل الطبية التي عانى منها تبون مؤخرًا إثر إصابته بوباء "كوفيد-19" وغيابه المطول في ألمانيا ليست واعدة لبلد يحتاج إلى زعيم قوي وحاضر وقادر على مباشرة الإصلاحات اللازمة.
زد إلى ذلك أن الجزائر تتخبط في وضع اقتصادي يزداد صعوبة ويعقّد أي تطورات سياسية. وفيما تستمر الحكومة في تجاهل أي تأثير كبير لجائحة "كوفيد-19" على الاقتصاد الوطني، أقر البرلمان مؤخرًا مشروع موازنة 2021 حيث توقع المشرعون عجزًا قياسيًا بنسبة 14 في المائة. ومما يزيد الأمر تعقيدًا الانخفاض المستمر في أسعار النفط خلال العام الماضي واعتماد الجزائر شبه الكامل على عائدات النفط والغاز لشركة سوناطراك المملوكة للدولة - والتي تمثل 60 % من إجمالي موازنة الدولة.
كما أن معظم التوقعات، بما فيها توقعات صندوق النقد الدولي، تنطوي على إشارات تحذيرية تنذر بتزايد الاضطرابات الاقتصادية والشكاوى الاجتماعية والاقتصادية. في الوقت نفسه، لا يزال الدينار الجزائري يفقد قيمته مقابل اليورو، ما يعني أن المواد الأساسية المستوردة ستصبح أعلى ثمنًا. لا يزال من المبكر تقييم أثر الوباء بشكل كامل على الوضعين المالي والاقتصادي في الجزائر، لكن المواطنين، وخصوصًا في المناطق الريفية والمحرومة، بدأوا يشعرون بتدهور ظروفهم المعيشية.
مسار المرحلة المقبلة
تعيش الجزائر تجربة فريدة منذ اندلاع الحراك. فالحركة الاحتجاجية، مع أنها لم تحقق كل أهدافها الأولى، أطلقت عمليةً ثورية حقيقية على المستويين الاجتماعي والسياسي وقد تتطلب سنوات عديدة لتأخذ مجراها. لكن هذا الوقت قد لا يكون متوفرًا للجزائر نظرًا للتحديات السياسية والاقتصادية الخطيرة التي تواجهها. ناهيك عن أن المجتمع الدولي يتجاهل الجزائر بشكل كبير منذ عام 2019، مفضّلاً الوضع القائم على مسارات التغيير غير المؤكدة. وبالرغم من الأسباب الوجيهة لهذه الديناميكية، حان الوقت أن يعاود شركاء الجزائر الدوليون التعامل مع وضعها السياسي من أجل ضمان استقرار المنطقة.
وفيما يرجّح أن يرفض الجزائريون، من كلا المستويين الرسمي والشعبي، كافة محاولات التدخل في شؤونهم الداخلية، يستطيع المجتمع الدولي تأمين البيئة اللازمة للحوار. في هذا الإطار، إذا لم يتمكن شركاء الجزائر الدوليون من إجبار السلطات على اتباع سياسات محددة، وحتى إن لم يكن ينبغي بهم ذلك أصلا، يمكنهم المساعدة على مواجهة التحديات السياسية الجارية من خلال تقديم المحفزات الاقتصادية مقابل الإصلاحات السياسية المطلوبة.
وبذلك سيساعد المجتمع الدولي الحراك في عمليته التنظيمية عبر ضمان المزيد من الحريات السياسية والمدنية. في هذا السياق، ومع أن الجزائر قد لا تكون من أولويات إدارة بايدن-هاريس، إلا أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستتمتع بقدرة أكبر على تنشيط المساعي الجماعية نحو الفترة الانتقالية عبر استخدام علاقاتها المعززة حديثًا مع الحكومات الأوروبية.
في المرحلة التالية، قد تكون الانتخابات النيابية المقبلة في الجزائر نقطة انطلاق جيدة للتحول الحقيقي نحو الديمقراطية. ومع بدء عملية التحول هذه، قد تتمكن الجزائر من تنفيذ الإصلاحات اللازمة قبل نفاذ احتياطاتها النقدية من العملة الصّعبة. في النهاية، لعل من المبكر وغير الآمن الدعوة إلى تغييرات جذرية وفورية، ولكن الأوان لم يفت للعمل على إصلاحات تدريجية تفيد كلًا من النظام والمعارضة.