- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
البابا والعراق والميليشيات العراقية المدعومة من إيران
استغلت جماعات الميليشيات المدعومة من إيران في العراق زيارة البابا للبلاد لتأكيد مزاعمها بأنها القوى الوحيدة التي تحمي مسيحيي العراق. بإمكان الولايات المتحدة تقديم دعم فعلي للأقليات التي لا تزال في العراق في ظل مواصلتها إعادة لمّ شملها في أعقاب الإبادة التي ارتكبها تنظيم "الدولة الإسلامية" بحق المسيحيين والشيعة والشبك والأيزيديين وغيرهم من الجماعات.
شكّلت زيارة البابا إلى العراق مناسبة تاريخية بكل معنى الكلمة، سواء بالنسبة للعراقيين أو للعلاقات المسيحية-الإسلامية. واستغلت جماعات الميليشيات المدعومة من إيران في العراق هذا الحدث لتأكيد مزاعمها بأنها القوى الوحيدة التي تحمي مسيحيي العراق. غير أن حملة الرسائل هذه كشفت ضعفاً متأصلاً في حملة إيران لاستمالة العراقيين وخاصة المسيحيين في الشرق الأوسط.
رسائل لا تلقى آذاناً صاغية
منذ أواخر عام 2013، كررت إيران ووكلاؤها مراراً وتكرراً أن قواتها تحمي المسيحيين وأماكنهم المقدسة من تقدّم الجهاديين السنّة في المنطقة. وغالباً ما امتزج ذلك برسالة كامنة تستهدف تحالف أقلية شيعي-مسيحي. ومع ذلك، كان هذا النوع من الرسائل انتقائياً للغاية، إن لم يكن نفعياً بشكل سافر. وفي نهاية المطاف، أتت هذه الرسائل ضعيفة ومعاكسة لواقع العديد من القرى والمدن المسيحية التي تحررت من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وخاصة المدن التي تخضع الآن لإدارة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران.
في البداية، عرض وكلاء إيران تغطية ضئيلة للزيارة قبل أن يحطّ البابا رحاله في العراق. ويمكن اعتبار هذه النبرة إلى حدّ كبير كامتداد لكيفية تجاهل الزيارة والتقليل من أهميتها في وسائل الإعلام الإيرانية. فمن وجهة نظر إيديولوجية، إن لقاء البابا مع آية الله العظمى السيستاني ينتقص من شأن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في أوساط المسلمين الشيعة. في المقابل، يُعتبر خامنئي زعيماً روحياً وسياسياً للعديد من وكلاء إيران الشيعة في العراق.
ومع ذلك، كانت الزيارة على قدر كبير من الأهمية بحيث لا يمكن تجاهلها بالكامل. ففي بادئ الأمر خلال زيارة البابا فرنسيس، نشرت العديد من الشبكات الرئيسية للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، على غرار "عصائب أهل الحق" (الألوية 41 و42 و43 من "قوات الحشد الشعبي") و"كتائب حزب الله" (الألوية 45 و46 و47 من الحشد)، وهما جماعتان تصنفهما الولايات المتحدة إرهابيتين، وعمّمت صوراً للبابا وشعار "هل يعلم البابا؟".
"هذه هي اليد التي [سمحت] بعودة أجراس الكنيسة"، عبارة مدوّنة على إحدى الصور التي تُظهر يد القائد المقتول لـ "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري الإسلامي" قاسم سليماني متفحمة ومقطعة جراء الضربة الأمريكية وفي إصبعه خاتمه المميز من العقيق. وتضمنت صورة أخرى "أمريكا قتلت [قائد "فيلق القدس"] [وقائد "الحشد الشعبي" أبو مهدي] المهندس مع كتابة "كنائس السلام" تحتها. كما نشرت منصات التواصل الاجتماعي التابعة لـ"عصائب أهل الحق" صورة أخرى لأبو مهدي المهندس محاطاً برجال دين مسيحيين وجملة بالترجمة الإنجليزية "لقد ضحى ’الحشد الشعبي‘ من أجل بقاء الكنيسة كما ضحى من أجل بقاء المسجد".
وإلى جانب النص الضمني للصور بأن المسيحيين مدينون لوكلاء إيران، سعت هذه الرسائل أيضاً في الأساس إلى التشكيك بالهدف الحقيقي وراء زيارة البابا. ففي بيان صدر في الثالث من آذار/مارس، أحبط المتحدث باسم "كتائب حزب الله"، أبو علي العسكري، أي حماسة لزيارة البابا. وذهب إلى أبعد من ذلك محذراً من أن الصلاة التي أقامها البابا بين الأديان واجتماع الوحدة في مدينة الناصرية جنوب العراق كانا يشبهان تطبيع العلاقات بين بعض دول الخليج العربي وإسرائيل.
بيان أبو علي العسكري حول زيارة البابا
غير أن هذه السرديات الرافضة أو المندفعة إلى حدّ كبير تغيّرت لاحقاً. فقد قامت وسائل الإعلام التابعة لوكلاء إيران التي تضخّم [الدعاية الإيرانية] بتحميل مواد أكثر حيادية بين الثالث والسادس من آذار/مارس. من جهتهما، نشرت كل من "ترى نيوز" و"صابرين نيوز"، المرتبطتان بـ"عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله"، صوراً للقاء البابا مع آية الله العظمى السيستاني ولزيارة البابا فرنسيس للكنائس العراقية. فضلاً عن ذلك، أصدر الأمين العام لحركة "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي بياناً مقتضباً ومتحفظاً جاء فيه أن العراقيين رحبوا بالبابا انطلاقاً من أخلاقياتهم الإسلامية وكرم الضيافة العربي التقليدي. حتى أن "حزب الله" اللبناني أصدر بياناً أعرب فيه عن إشادته بالزيارة ولقائه مع آية الله العظمى السيستاني. واعتبر الحزب زيارة البابا خطوة ضرورية لمعالجة القضايا التي يدّعي "حزب الله" ووكلاء إيرانيون آخرون زمام القيادة بشأنها، أي محاربة إسرائيل و"الإرهاب الوهابي" وما يدّعي الحزب أنه "احتلالات أمريكية متعددة".
بيان "حزب الله" حول زيارة البابا
وبحلول السابع من آذار/مارس، أي قبل يوم من مغادرة البابا للعراق، عادت النبرة إلى الرفض والانتقادات العدائية غير المباشرة. بدورها، أصدرت "حركة حزب الله النجباء"، أحد وكلاء إيران الشيعة الأساسيين في العراق، مقالة افتتاحية جاء فيها: "يبقى الفرق كبير بين بابا يعمل عند الله تعالى ولله تعالى ومنفذ دون إعتماد على غيره مطلقاً، وبين بابا يعمل عند من يحركون العالم بكل ترسانته لتحاصر إيران وتخنق لبنان وتهان سوريا والعراق وتمزق نيجيريا ومثلها تقطع وتقمع البحرين".
وكيل إيران المسيحي المثبط
ومع ذلك، ففي الموازاة، عمل وكيل إيران المسيحي في العراق على وصف زيارة البابا من منظار مختلف. وهذا الشخص هو ريان سالم صادق، المعروف باسم ريان الكلداني، قائد "حركة بابليون" وهي اللواء 50 ضمن "قوات الحشد الشعبي".
ومنذ عام 2015، وصفت جماعات "الحشد الشعبي" المدعومة من إيران الكلداني على أنه مثال على تعدد الطوائف ودليل على أن إيران يمكنها أن تكون حامية للأقليات، ولا سيما المسيحيين. ففي كانون الثاني/يناير، ظهر الكلداني حتى على قناة "الميادين" الموالية لـ"حزب الله" للإشادة بقيم "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري الإسلامي" ودعمه للجماعة، مدّعياً أن "سليماني لم يطلب [من جماعتي] شيئاً، طلب منّا أمراً واحداً؛ أن نحافظ على المسيحيين، أن نحمي المسيحيين، أن نحمي المسلمين". كما صوّر الكلداني جماعته على أنها قامت بتحرير القرى المسيحية من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية". وظهر الكلداني إلى جانب مقاتلين مسلحين بزي تمويهي يحملون أعلاماً وصلباناً كلدانية في استعراض لرمزية الطائفة الكلدانية الإثنية-الدينية كإشارة إلى أن المسيحية في العراق "سقطت لكنها لم تهزم"؛ حتى أن لقبه يحمل اسم الطائفة الكلدانية نفسها. من جهة أخرى، إن انسجام الكلداني الصريح مع الفصائل العراقية المدعومة من إيران لا يخفى على أحد، مما يجعله يبدو وكأنه مجرد بيدق انتهازي وبالكاد يمثّل المسيحيين الذين يحاولون إعادة بناء مجتمعاتهم المحطمة.
ومع ذلك، فإن زيارة البابا كان ينبغي أن توفرفرصة طبيعية للجماعة المسيحية العراقية المدعومة من إيران لاكتساب المزيد من النفوذ، لكن الأمور لم تجرِ على هذا النحو. ففي بادئ الأمر، نشرت "قناة العالم" الإيرانية خبراً مفاده أن البابا فرنسيس قدم مسبحة إلى الكلداني. بعد ذلك، نشرت العديد من المواقع المدعومة من إيران، لا سيما تلك التابعة لميليشيات شيعية عراقية، صورة للمسبحة. كما ظهر الكلداني نفسه في صورة أخرى تمّ تداولها لمجموعة من السياسيين وشخصيات أخرى تصافح البابا مرحبّة به، رغم أن ما ظهر على عدسة الكاميرا كان ظهره فحسب.
ويُعتبر الكلداني شخصية مثيرة للجدل إلى حدّ كبير في أوساط المسيحيين في العراق وخاصة مع الكلدانيين، وقد أساء مراراً وتكراراً لمسؤولي الكنائس المحلية. ففي صيف عام 2019، تحدث بطريرك الكلدان لويس ساكو عن "كتائب بابليون" قائلاً إن "تأسيس ميليشيات مسيحية مسلحة يتناقض مع روحية الدين المسيحي الذي يدعو إلى المحبة والتسامح والمسامحة والسلام". ورد الكلداني بانتقاد الكاردينال الكلداني المحبوب وقال إن الكنيسة أصبحت مسيّسة.
وفي عام 2019، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على الكلداني بتهم الفساد، بما في ذلك الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي في سهل نينوى، معقل المسيحيين في العراق. كما تسبب الكلداني بزيادة عزلته بسبب معارضته لحكم ذاتي أكبر في المنطقة، وهو أمر يدعمه الكثير من الأشوريين والكلدان والمسيحيين السريان في العراق.
تجدر الملاحظة أن غالبية المقاتلين في صفوف الجماعة "المسيحية" التي يتزعمها كلداني هم أيضاً من العرب الشيعة والشبك الشيعة. وقد هيمن الشبك الشيعة وميليشياتهم المدعومة من إيران (المرتبطة بشكل أساسي بوكيل إيران الرئيسي "منظمة بدر") بما فيها "كتائب بابليون"، على بلدات كانت فيما مضى ذات أغلبية مسيحية مثل برطلّة. كما تواجهوا مع مدنيين مسيحيين محليين، وجماعات سياسية وأخرى مسلحة.
وفي عام 2018، فازت "حركة بابليون" باثنين من المقاعد الخمسة المخصصة للمسيحيين في البرلمان العراقي. غير أنها لم تفز بهذه المقاعد بدعم مسيحي، إنما بمساعدة منظمة من وكلاء إيرانيين آخرين قاموا بحشد فئات من شيعة العراق للتصويت لهم.
وإذا قمنا بجمع كافة هذه العوامل، فإن مكانة الكلداني في المجتمع المسيحي، ودعمه المطلق المتواصل لأهداف ورسالة "فيلق القدس" التابع لـ "الحرس الثوري" في العراق جعلا منه دمية بيد إيران. وتؤكد الحملة الدعائية الخجولة التي شنها حلفاؤه المدعومون من إيران إلى أي مدى أصبحت جهود جماعته وإيران في أوساط المسيحيين خارج السياق.
وجه إيران ووكلائها الحقيقي يقدّم فرصة للولايات المتحدة
رأى معظم العراقيين في زيارة البابا فرصة لإظهار أهمية البلاد والعمل الجماعي. فهذه المرة، لم يكن العراق محط الأنظار بسبب الأنشطة العنيفة أو ألعاب القوى الدولية الدائرة في البلاد. وأدّت مشاكل إيران الإيديولوجية والدينية والسياسية مجتمعة مع الزيارة، إلى توقعات مفرطة وفشلْ كبير في إيصال الرسائل. فنهج إيران المبالغ فيه تجاه مسيحيي العراق، ونفاقها السافر وحتى نبرة حملاتها الدعائية تتسبب في عزلتها في العراق أكثر من حشد دعم جديد لها، وتقدم فرصة للولايات المتحدة.
أولاً، بإمكان الولايات المتحدة تقديم دعم فعلي للأقليات التي لا تزال في العراق في ظل مواصلتها إعادة لمّ شملها في أعقاب الإبادة التي ارتكبها تنظيم "الدولة الإسلامية" بحق المسيحيين والشيعة والشبك والأيزيديين وغيرهم من الجماعات. على الولايات المتحدة مواصلة جهودها في المساعدة في إعادة بناء ما تبقى من هذه المجتمعات. كما يجب أن يستمر العمل مع المنظمات غير الحكومية من خلال "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية". كما يجب أن يؤثر الإقرار بالوقائع الحالية على هذه العمليات، بحيث يمكن للولايات المتحدة بذل جهود خاصة للوصول إلى المجتمعات التي تعرضت للتهديد بشكل خاص من قبل العناصر المدعومة من إيران.
وفي مقابل الرسائل الإيرانية التي لم تلقَ صدى، حافظت الولايات المتحدة على صمت نسبي فيما يخص زيارة البابا. وكانت هذه الخطوة ذكية، وساهمت في إثبات أن واشنطن لن تتبنى النهج الإيراني المتمثل في التدخل في كل صغيرة وكبيرة في الشؤون الداخلية العراقية. ومع ذلك، فإن تسليط الضوء على النفاق الإيراني بشأن أنشطة وكلائها من الميليشيات، ومقاربتها السلبية إلى حدّ كبير إزاء زيارة البابا - وهي زيارة تمّت الإشادة بها دولياً ومحلياً - وعدم استعداد وكلاء إيران العراقيين لاعتبار هذا الحدث خطوة إيجابية بالنسبة للعراق، يجب أن تكون موضع نقاش منتظم لصناع السياسة الأمريكيين.
كما يجب على الولايات المتحدة أن تأخذ في الاعتبار مواقف البابا وما يعنيه ذلك في السياق الدولي تجاه إيران. فمن خلال لقائه آية الله السيستاني، وهو صاحب فكر أكثر اعتدالاً بكثير يتناقض مع الحكم الديني المتطرف في إيران، قلل من أهمية سعي إيران لأن يُنظر إليها على أنها زعيمة الشيعة في العالم. وعلى الرغم من ضغوط الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، إلا أن البابا فرنسيس لم يثني على تلك المنظمات كما لم يعد تأكيد رسائلها بأي شكل من الأشكال. وبغض النظر عن الانتقادات التي طالت تواجد قادة "قوات الحشد الشعبي"، إلا أن البابا، بتجاهله لهم، وإن كان متسامحاً تجاههم، أرسل الإشارات الصحيحة. فالحبر الأعظم لم يتجاهل قادة الميليشيات الإيرانية الذين هم أيضاً رجال سياسة، بل اختار المواقع المسيحية التي أراد زيارتها. وحرص على القيام بجولة في مدينة قرقوش، التي حررتها القوات العراقية المدعومة من الولايات المتحدة، وليس البلدات المسيحية التي تسيطر عليها الميليشيات المدعومة من إيران. ومن أجل الحفاظ على مكانتها وصورتها، أطلقت "حركة بابليون" حملة دعائية كبيرة أطلعت خلالها الصحافة على أنه "تمّ إعلام" البابا بدور "قوات الحشد الشعبي" وأنها "فضلت" لو أن "المسيحيين حرروا كنائسهم بنفسهم". وزعمت الجماعة أنها ستنشر للجمهور الرسالة التي بعثت بها إلى البابا "في وقت لاحق".
ولا يُعتبر موقف واشنطن مماثلاً لموقف طهران، وعلى الولايات المتحدة أن تكون حازمة في هذا الشأن. فبخلاف إيران، لا تسعى الولايات المتحدة إلى الهيمنة على مجتمعات الأقليات، أو استغلال أفرادها كوقود للمدافع، أو تقويض تمثيلها في الحكومة العراقية. وغالباً ما أعاقت منظمات الحشد الشعبي العراقية المدعومة من إيران إعادة تطوير مجتمعات الأقليات والحفاظ عليها. ولا يمكن طمس هذه الوقائع ولا ينبغي إخفاؤها.