تعرضت الطائفة المسيحية في العراق للهجمات والاضطهاد لدرجة أن عدد سكانها انخفض من 1.5 مليون شخص في عام 2003 إلى أقل من 300 ألف اليوم. إن تواصل الفاتيكان مع العراق جدير بالثناء في هدفه المتمثل في تقليل العنف الديني، لكن على المسؤولين في الغرب أن يكونوا واقعيين بشأن ما يمكن أن يحققه التواصل مع الزعماء الدينيين الشيعة على المدى القريب.
في إطار زيارة البابا فرنسيس إلى العراق في الفترة من 5 إلى 8 آذار/مارس، من المقرر أن يزور مدينة النجف الأشرف للقاء آية الله العظمى علي السيستاني، أحد أبرز المراجع الشيعية في العالم. ووفقاً للكاردينال ليوناردو ساندري، فإن الهدف من هذه الرحلة هو "مواساة وتشجيع" جميع الذين عانوا من موجات الغزو في العراق، والحرب الأهلية، والصراع الطائفي، والإرهاب، وعدم الاستقرار - ليس فقط في صفوف الأغلبية المسلمة، ولكن بين الكاثوليك وغيرهم من الأقليات الدينية الأخرى أيضاً. وأشار ساندري إلى أن الطائفة المسيحية في العراق تعرضت للهجمات والاضطهاد لدرجة أن عدد سكانها انخفض من 1.5 مليون شخص في عام 2003 إلى أقل من 300 ألف اليوم.
ويُعتبر آية الله السيستاني مرشحاً واعداً للتواصل بشأن هذه القضية وغيرها من القضايا المتعلقة بالأديان. فالعالم كله يقدّر دوره البنّاء إلى حد كبير في إدارة أزمات العراق منذ الإطاحة بصدام حسين، وهو يحظى باحترام واسع لرفضه تولي أي منصب تنفيذي أو إداري أو سياسي طوال هذه الفترة - في تناقض حاد مع عمليات الاستيلاء الشاملة على السلطة التي نفذها المرشد الأعلى علي خامنئي وسلفه في إيران. وعموماً، دعمت التصريحات العلنية للسيستاني المصالحة بين الشيعة والسنة، ودعت إلى السلام بين القبائل نفسها وكذلك بين مختلف العرقيات، وسهلت صياغة دستور جديد والتصديق عليه عن طريق الاستفتاء، وكل ذلك في خضم الاضطرابات السياسية الكبرى.
الباباوات في العالم الإسلامي
ليست هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها البابا فرنسيس دولة ذات أغلبية مسلمة. فقد أولى اهتماماً كبيراً بالعلاقات بين الأديان والحوار منذ بداية ولايته، وزار تركيا في 2014، وأذربيجان في 2016، ومصر في 2017، والمغرب والإمارات العربية المتحدة في 2019، من بين بلدان أخرى.
ومع ذلك، فهذه هي رحلته الأولى إلى العراق، موطناً لأربع مدن شيعية مقدسة وحوزة النجف التاريخية المهمة. وسيكون هذا أيضاً أول لقاء من أي نوع بين البابا وأي آية الله عظمى.
ووفقاً للبطريرك لويس رفائيل ساكو المولود في العراق والذي يرأس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وكان له دور فعال في تنظيم الرحلة على مدار العامين الماضيين، سيصدر البابا والسيستاني بياناً مشتركاً ضد "كل من يهاجم الحياة". ومع ذلك، لم يستطع تأكيد "ما إذا كان الاثنان سيوقعان وثيقة عن الأخوة البشرية، كما هي رغبة الكاردينال". وذكر الكاردينال ساندري أحد المحاور المحتملة: وثيقة "الأخوة الإنسانية" التي وقّعها البابا فرنسيس في أبو ظبي في شباط/فبراير 2019 مع الشيخ أحمد الطيب، الإمام الأكبر للأزهر والشخصية التي تحظى باحترام واسع في الإسلام السني. ووفقاً لمراسل في الفاتيكان، وصف ساندري الزيارة أيضاً "بأنها «استمرار» لرغبة البابا يوحنا بولس الثاني، الذي أراد زيارة أور - موطن إبراهيم، الذي يُعتبر أب الإيمان بإله واحد في الديانات اليهودية، والمسيحية والإسلام - خلال "اليوبيل الكبير لعام 2000» ولكنه لم يكن قادراً على القيام بالزيارة".
القادة الشيعة والتفاعلات بين الأديان
بخلاف البابا الذي يُعتبر رسمياً الحبر الأعظم عند الطوائف الكاثوليكية في جميع أنحاء العالم، لا يمكن لأيٍّ من آيات الله الاستئثار بالسلطة الحصرية على المسلمين الشيعة. وكان من شأن هذه السلطة التعددية واقتران الأمور الروحية بالسياسية في إيران ما بعد الثورة أن حدّا من قدرة آيات الله على ممارسة دبلوماسية دينية موحدة بمعزل عن الحدود الوطنية. ونتيجة لذلك، تخضع العلاقات بين الفاتيكان والزعماء الشيعة لسيطرة الدول، وليس الحوزات الدينية، وقد أوقف النظام الإيراني بشكل منهجي الجهود الحقيقية لربط عقيدته بالديانات الأخرى.
وتضع العوامل الفلسفية والدينية أيضاً عقبات كبيرة أمام الحوار والتقارب الإسلامي بشكل عام مع الديانة المسيحية والأديان الأخرى. وبسبب هذه العوامل، من المستبعد التوقيع على بيان أخوة في النجف.
أولاً، تَعتبر الفروع الدينية الإسلامية السائدة أن المسيحية الحديثة هي نسخة زائفة عن الدين الأصلي الذي غيره آباء الكنيسة. على سبيل المثال، في نظرها أن يسوع هو نبي مقدّس، وليس تجسيداً لله وابنه. باختصار يعني ذلك أن المسيحية اليوم بالنسبة للدين الإسلامي الرسمي ليست سوى ضرباً من الهرطقة. وتساعد هذه المواقف في تفسير سبب عدم تمكّن المسيحيين من دخول المساجد أو زيارة مكة، ولماذا تؤكد العديد من الفتاوى الشيعية وقوانين الجمهورية الإسلامية أن التحوّل من الإسلام إلى المسيحية (أو أي دين) يجب أن يُعاقب بالإعدام.
ثانياً، بخلاف الغرب حيث شكلت العلاقات بين الأديان والتسامح الديني موضوع تأمل فلسفي ولاهوتي منذ القرن الثامن عشر على الأقل، تكاد مثل هذه النقاشات أن تكون معدومة في الحوزات الدينية الشيعية. ومن الناحية العملية، أدى هذا الافتقار إلى الأسس الفكرية للحوار بين الأديان إلى كبح الرغبة العملية في القيام بمبادرات مهمة في هذا الصدد. أما في العالم المسيحي، فتم إضفاء طابع مؤسسي على تلك الأسس الفكرية في المكاتب الدينية، بما في ذلك داخل الفاتيكان. ولكن في العالم الشيعي، لم يقم أي مرجع بإنشاء مكتب محدد لمعالجة هذه المسألة أو تعيين ممثلٍ عنه لدى الفاتيكان.
ثالثاً، ليس من عادة آيات الله أن يحذوا حذو البابا في إدانة اضطهاد الأديان الأخرى علناً. ففي عام 2017، على سبيل المثال، أعرب البابا فرانسيس عن تعاطفه مع شعب الروهينجا ذي الغالبية المسلمة والذي يتعرض لحملة قمع عسكرية في ميانمار، حيث قال: "إن الله موجود أيضاً في قلوب الروهينجا". ومع ذلك، نادراً ما تتفاعل السلطات الشيعية مع العنف ضد غير المسلمين، سواء في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر في العالم.
بالإضافة إلى ذلك لم يكن سجل الوحدوية بين الشيعة والسنة مثمراً أيضاً. فمنذ الحرب العالمية الثانية، خاض المسلمون الحروب وأعمال العنف ضد بعضهم البعض أكثر مما خاضها غير المسلمين. ولا يزال السنة في إيران والشيعة في المملكة العربية السعودية يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية. وهنا أيضاً ينبع هذا الاحتكاك من مزيج من التوترات السياسية، والعداء الديني، والافتقار إلى الأساس الفكري اللازم لتحقيق وحدوية حقيقية بين المسلمين.
من الذي يخشى من قيام اللقاء؟
إن البابا فرانسيس غير مرحب به في جمهورية إيران الإسلامية، حيث يواجه المسيحيون واليهود والأديان الأخرى تمييزاً قانونياً منهجياً وفصلاً اجتماعياً. فالقانون يحظر التبشير العلني لأي دين باستثناء الإسلام الشيعي - حيث غالباً ما يُسجن المتحوّلون إلى الديانة المسيحية ويُحكم عليهم بالإعدام، وقد تم اغتيال العديد من القساوسة بوحشية من قبل عملاء المخابرات على مدار الأربعين عاماً الماضية. وأقام النظام علاقات رسمية مع الفاتيكان، لكن يصعب وصفها كعلاقات دافئة.
وفيما يتعلق بزيارة البابا للنجف الأشرف، يدرك الزعماء الإيرانيون أهميتها التاريخية، وكذلك التهديد الذي تشكله على سلطتهم. وسيكون اللقاء بمثابة اعتراف استثنائي بالسيستاني باعتباره ربما المرجع الشيعي الأعظم في العالم، وبالنجف كمركز للمؤسسة الدينية الشيعية. ونظراً للمنافسة القائمة منذ فترة طويلة بين السيستاني وخامنئي (وبين النجف وقُم)، فمن المرجح أن يكون الزعماء الإيرانيون غير مرتاحين من الزيارة. ومن جانبهم، حرص رجال الدين الذين يرأسون مكتب السيستاني في قُم على تجنب تسليط الضوء على الاجتماع بشكل يستفز النظام الإيراني. وفي الواقع، أثارت زيارة البابا القليل من النقاش أو الاهتمام في وسائل الإعلام الحكومية الناطقة باللغة الفارسية، ووسائل الإعلام شبه المستقلة، أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي.
الخاتمة
على القوى الغربية أن تعتاد على تشجيع الزعماء المسلمين على الانخراط في حوارات بين الأديان وتفاعلات أخرى. ومع ذلك، فإن إحدى المشاكل الرئيسية مع آيات الله العظمى الشيعة هي ميلهم إلى العيش في عزلة عن المجتمع. فنادراً ما يذهبون إلى أي مكان بعيداً عن منازلهم ومكاتبهم ومساجدهم، ناهيك عن القيام برحلات إلى بلدان أخرى أو حتى مدن أخرى. فهم لا يجرون مقابلات مع وسائل الإعلام ويبتعدون بشكل عام عن الأنظار بين عامة الناس. ويفسِّر ذلك جزئياً صمتهم المعتاد في ظل المآسي الإنسانية في أماكن أخرى من العالم وأعمال العنف في بلدانهم.
وهكذا، بينما قد تساعد المبادرات بين الأديان في النهاية على الاختباء تحت هذه الجدران الشيعية، إلّا أنه لا يمكن للغرب إضمار توقعات وهمية بشأن النتائج العملية للزيارات البابوية والأحداث المماثلة على المدى القصير. فالزعماء المسلمون الرئيسيون لا يتحملون القدر الكافي من المسؤولية عمّا يحدث في مجتمعاتهم، لذلك لا يمكن فعلياً التوقع منهم أن يعطوا أي قيمة كبيرة للمبادرات بين الأديان والمخاطر السياسية التي تستوجبها. إذاً، في الوقت الحالي، يجب على الحكومات الغربية التي تسعى إلى الانخراط الدائم والمثمر مع العالم الإسلامي أن تركز المزيد من الاهتمام على المثقفين العلمانيين والليبراليين والأكاديميين والشخصيات المؤثرة في المنطقة والإستثمار بها بصورة أكثر.
مهدي خلجي هو زميل "ليبيتزكي فاميلي" في معهد واشنطن.