- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
العبر المستقاة من حرب الإمارات في اليمن
في عام 2018، قمتُ بأربع زيارات "ملحقاً" بقوات دولة الإمارات في اليمن. عشتُ معهم، وأكلتُ معهم، وأجريتُ مقابلات معهم، وراقبتُهم أثناء العمل في كل ساحة معركة تواجدَتْ فيها هذه القوات. ولهذا، كانت مشاعري متباينة حين تلقيت وبقية العالم في 8 تموز/يوليو الخبر بأن الإمارات ستبدأ عملية انسحاب تدريجي لقواتها العسكرية من اليمن.
فمن جهة، تستحق القوات الإماراتية استراحة بعد خمس سنوات من العمليات المتواصلة في اليمن. كما أن الإمارات ليست دولة كبيرة ولا يتعدى عدد قواتها البرية القابلة للانتشار 20 ألف جندي، تمّ إرسال 3500 منهم إلى اليمن مع تخصيص ما يقرب من 3,000 عنصر من الطيارين ورجال البحرية والجنود الإضافيين الذين يقدّمون الدعم المباشر بحراً وفي المناطق المجاورة. وكان حوالي سدس إجمالي القوة القتالية في البلاد في حالة حرب في كافة الأوقات، كما كان قد تم نشر القادة الذين عملتُ معهم بشكل شبه متواصل منذ بداية الحرب في عام 2015. ومن وجهة نظرهم، يعتقد الإماراتيون - ولأسباب وجيهة - أنهم منعوا المتمردين الحوثيين من الاستيلاء على معظم أراضي اليمن، وفي الوقت نفسه منعوا تنظيم «القاعدة» من إقامة أكبر خلافة إقليمية له بعد أن تقدم في ميناء المكلا عام 2015.
غير أن الانسحاب بدأ في وقت لا يزال يُعتبر فيه الوضع في اليمن هشاً للغاية. فالمكاسب التي حققتها الإمارات في طرد المتمردين الحوثيين وتنظيم «القاعدة» من مساحات شاسعة من البلاد وإعادة بعض مظاهر الحوكمة الفعالة لم تترسخ بعد. ويَظهر ذلك بوضوح في القتال الدائر حالياً بين الفصائل في عدن، ثاني أكبر مدينة يمنية. ومنذ 7 آب/أغسطس، شاركت الميليشيات المحلية التي دافعت عن الحكم الذاتي في جنوب اليمن في معارك ضارية مع وحدات عسكرية موالية للحكومة المركزية المعترف بها دولياً بزعامة الرئيس عبد ربه منصور هادي. وفي السابق، كانت مجموعة قتالية إماراتية تُوقِف في الغالب نزاعاً كبيراً بين الجماعات المسلحة المتحالفة ضد الحوثيين، ولكن هذا العامل الرادع غير قائم حالياً. كما تم تكثيف الهجمات العالية الدقة التي ينفذها الحوثيون بواسطة صواريخ وطائرات بدون طيار منذ الإعلان عن الانسحاب، مما زاد من الخوف من عودة الحوثيين. أما في الريف، فبدأت قوات الأمن المحلية تقاتل بعضها البعض، مستخدمةً أحياناً نيران مدافع الدبابات لتسوية خلافاتها في وقت تراجعت فيه الإمارات عن إدارة الأزمة.
ومن خلال حديثي مع ضباط الإمارات الذين تم نشرهم وإعادتهم، وكذلك مع القوات والمسؤولين اليمنيين والسعوديين، كوّنت عدداً من الانطباعات بشأن العبر التي ستستخلصها الإمارات والأطراف المعنية الأخرى من تدخل الإمارات في اليمن، الذي ربما يتنقل حالياً إلى مرحلة أقل كثافة في استخدام الموارد وأقل أهمية أيضاً.
وتتمثل العبرة الأولى بأنه بإمكان القوات العسكرية الإقليمية القادرة والمتراصة، مثل القوات المسلحة الإماراتية، أن تطلق عمليات قتالية معقدة بنفسها وتحقق نصراً فيها. وحين بدأت القوات الإماراتية الخاصة بصدّ تقدّم المتمردين الحوثيين في عدن خلال نيسان/أبريل 2015، كانت بمفردها تقريباً. فقد كان الدعم السعودي مقصورا على بعض الغارات الجوية، في حين أن الولايات المتحدة لم تشجع عملية تنفذها الإمارات من جانب واحد لإنقاذ جنوب اليمن من الحوثيين. وقبل حرب اليمن، كانت الإمارات تعمل جنباً إلى جنب مع قوات حلف "الناتو" في كوسوفو وأفغانستان وليبيا، بالإضافة إلى مجموعة من العمليات الأخرى، لكنها لم تخطط وتنفذ بمفردها مطلقاً عملية بأكملها استخدمت فيها بشكل شبه كامل قواتها الجوية والبحرية والبرية. أما في اليمن، فقد خططت الإمارات لعشرات من العمليات القتالية الكبيرة، بما فيها القتال في المناطق الحضرية، وعمليات هبوط برمائية، وعمليات مطاردة مدرعة، وضربات عالية الدقة مع مراعاة معايير "الناتو" المتعلقة بالقانون الإنساني وبالحصانة التي يتمتع بها المدنيون، وعمليات إرساء الاستقرار، وإعادة الإعمار، والحرب غير التقليدية دعماً للوكلاء المحليين. ويُعتبر الجيش الإماراتي الأفضل من بين الجيوش العربية لأنه استثمر في التعليم العسكري المحترف العالي الجودة، وبقي حجمه محدوداً، كما أنه بحث بنشاط عن الفرص المتاحة للمشاركة في عمليات في العالم الواقعي مع قوات حلف "الناتو".
أما العبرة الثانية، فهي أن عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية مدعومة بشكل كبير من قبل شريك إقليمي مؤهل قادر على أن يكون صلة تنسيق بين القوات القادمة من خارج المنطقة والقوات المحلية. وقبل نشر الإمارات جنودها للتصدي لتنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» في عام 2015، نفذت الولايات المتحدة عموماً ضربات أحادية الجانب بطائرات بدون طيار، في الوقت الذي كانت فيه التحركات الأحادية الجانب التي نفذها الجيش اليمني ضد التنظيم غير فعالة وخجولة. وأضافت الإمارات مكوناً تحويلياً ثالثاً إلى المعادلة، وهو: طبقة وسطى فيما يسمى الآن بـ "العمليات الثلاثية"، حيث وفرت الإمارات قوات ناطقة باللغة العربية متفهمة للثقافة السائدة على الأرض لتتولى الإدارة العملية لقوات مكافحة الإرهاب اليمنية وتبادل المعلومات والدعم مع القوات الأمريكية التي تتمتع بقدرات فريدة في مجال الاستخبارات والضربات العسكرية.
وكما حصل خلال الحرب مع الحوثيين، اتّسمت العمليات التي نفذتها الإمارات ضد تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» بتفوق في بناء قوات محلية مساعدة بسرعة كانت "جيدة بما يكفي" وقدمت مساعدة مدنية وعسكرية في الوقت المناسب وبمهارة إلى المجتمعات المحلية. وتمثلت النتيجة بالإثبات للسكان المحليين بأن تنظيم «القاعدة» ليس متفوقاً، مما حدّ من قدرة الجماعة الإرهابية على التخويف والتجنيد. وعلى الرغم من أن بعض التقارير وصفت الإماراتيين بأنهم "يدفعون الأموال" أو حتى يستميلون مقاتلي التنظيم، إلا أنه قد يكون أكثر دقة القول بأن الإمارات هزمت «القاعدة» في ساحة المعركة وتسببت بانشقاق قاعدة دعمها من خلال منح الجماعات القبلية المساعدة التي يمكن المساومة معها بديلاً عن «القاعدة». وقد تتمثل العبرة لجيوش "الناتو" في قيمة إبرام شراكات مع جيوش العالم الإسلامي عند تنفيذ عمليات في المنطقة.
والعبرة الثالثة هي أنه على الرعاة الأجانب بذل جهد خاص والمجازفة بإلحاق الضرر بالعلاقات الرئيسية لحثّ القوات المحلية المساعدة على تلبية التوقعات الدولية بشأن [احترام] حقوق الإنسان وحصانة المدنيين - وقد لا يبدو ذلك جديراً بتعريض شراكة استراتيجية للخطر. وقد برز ذلك بشكل خاص في عدن، حيث أدّت المعركة لتحريرها إلى جعل هذه المدينة، التي كانت في السابق متحضرة وإن صارمة، تخضع إلى حكم الميليشيات. وكانت الجهات الفاعلة المسلحة الأقوى، التي عملت مع الإمارات منذ البداية لتحرير عدن والتي كانت ضرورية للحفاظ على الاستقرار العام، قد قامت في الوقت نفسه بتصفية حساباتها بعنف واعتقال خصوم محليين وتعذيبهم بطريقة غير قانونية. لكن الإمارات لم تعرّض للخطر شراكتها مع جهات محلية قوية لمنع هذه الانتهاكات، مما ألحق ضرراً غير متوقع بسمعتها. ويمكن أن تأتي العلاقة الوثيقة مع الوكلاء المحليين بتكلفة، ويُعد تحقيق التوازن بين الأخلاقيات والتطبيقات العملية أمراً صعباً للغاية.
وترتبط عبرة رابعة بالتحالف الخليجي الأوسع نطاقاً، لا سيما بالسعودية كشريك. وبناء على طلب السعودية، أدارت الإمارات ودعمت معظم الهجمات البرية داخل اليمن ضد الحوثيين و ضد تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، لكن ذلك لم يؤمّن لها مركزاً متساوياً على رأس التحالف بسبب عدم توازن القوى الجيوسياسية بين الرياض وأبوظبي. وفي عدة مراحل، ربما تكون الإمارات قد أدّت عملاً أفضل في التخطيط الشامل للحرب، وأهداف الحملة الجوية، والمعركة الدعائية لتحديد الرأي الدولي، إلا أن السعوديين كانوا دائماً مسؤولين عن مثل هذه القضايا البالغة الأهمية. ونتيجةً لذلك، بدا أن احتمال الفوز بالحرب يتراجع شيئاً فشيئاً، بغض النظر عن مدى فعالية عمليات الإمارات في ساحات المعارك الرئيسية.
وخلال الأشهر التي أعقبت مقتل الصحفي السعودي-الأمريكي جمال خاشقجي في تشرين الأول/أكتوبر2018، أدرك المسؤولون الإماراتيون أنه لا يمكن لأي ثمن تدارك الضرر لتغيير النظرة الدولية إلى السعودية أو حربها في اليمن. فيمكن القول إن إطار عمل التحالف لم يقدّم الكثير إلى الإمارات بينما كلّفها الكثير. وقد تكون الصيغة الأكثر قبولاً لدولة الإمارات هي العمليات الأحادية الجانب أو تلك المنفذة مع شريك صغير يتمتع بمكانة أدنى وببعض الدعم الدولي، ربما على غرار تلك التي نفذتها الإمارات إلى جانب مصر، بدعم فرنسي، في ليبيا.
واستنتجت الإمارات، كما كشف أحد كبار ضباطها، أنه فيما يتعلق باليمن عليهم "إصلاح الوضع أو مغادرة [البلاد]". وفي مواجهة عداء دولي شامل، لم تكن هناك إمكانية لإنجاز مهمة تحرير كافة الأراضي التي استولى عليها الحوثيون في عام 2015، وأهمها مرفأي الحديدة والصليف الحيويين على البحر الأحمر. وتفتخر الإمارات بحملتها العسكرية في اليمن ويمكنني أن أرى السبب: فكما حصل في الحرب الكورية نوعاً ما، حاول عدو شرس محو حكومة حليفة من الوجود واحتلال البلاد بأكملها، لكن تحالفاً دولياً كانت فيه الإمارات القوة القتالية الرئيسية منعه وأوقفه في منتصف الطريق. وبسبب فخر الإمارات بهذا الإنجاز فإن ذلك قد جعلهم غير مستعدين للاعتراف بأنهم ينسحبون الآن في الواقع. وكما تعلمتُ في العراق في الفترة 2009-2011، حالما تخبر السكان المحليين أنك ستغادر، تكون قد رحلت بالفعل أساساً بالنسبة لهم. لا أحد يصغي إليك بعدها لأنك لست باقياً.
إنها العبرة الأخيرة التي ستتعلمها الإمارات في اليمن: تبقى صورة القوى المتدخلة ماثلة في الأذهان عن كيفية مغادرتها ومتى حدث ذلك، وما الذي تركته وراءها، وما أنجزته أثناء وجودها أيضاً. وإذا تمكنَتْ الإمارات من إثبات قدرتها على توجيه دفة الأحداث ببراعة وحزم، في وقت يكون فيه حضورها خافتاً، فقد تنحسر المخاوف. ولكن إذا ترك رحيل الإمارات فراغاً كبيراً، كما يبدو مرجحاً، فقد يشهد هذا العام انهياراً كاملاً لسلطة حكومة الرئيس هادي المدعومة من الأمم المتحدة في جنوب اليمن، كما تنذر به الانتفاضات الكبرى المناهضة لهادي في عدن منذ 7 آب/أغسطس. وفي محافظات مثل شبوة وحضرموت، من المرجح أن تنجز القوات المحلية عملية الطرد الحازمة والبطيئة لقوات هادي من حقول النفط الرئيسية. وقد تنهار عملية السلام بقيادة الأمم المتحدة وكذلك قرارات الأمم المتحدة التي تعزز الدعم العسكري بقيادة السعودية لهادي. وسوف تميل كفة الميزان العسكري لصالح الحوثيين، مما يسمح لهم بإبقاء السعودية في صراع طريقه مسدود في الشمال، مع إعادة تدريجية لنفوذهم في وسط اليمن. وسواء كان ذلك عادلاً أو غير عادل، يرتبط تسارع وتيرة العديد من هذه التطورات بإعلان الإمارات في مطلع تموز/يوليو 2019 عن سحب جيشها.
مايكل نايتس هو زميل "ليفر" في معهد واشنطن، وقد قضى وقتاً طويلاً ملحقاً مع قوات الإمارات في اليمن. وقد نُشرت هذه المقالة في الأصل على موقع "لوفير" الإلكتروني.
"لوفير"