- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الفلسطينيون غير مستعدين للسلام مع إسرائيل، لكنّ ذلك لا يلغي احتمال عقد اتفاقية سلام
يخلص دانيال بوليسار في مقالةٍ له تحت عنوان "هل يرغب الفلسطينيون بحلّ الدولتين؟" نُشرت على موقع "موزايك" إلى أنّ الجمهور الفلسطيني لا يرغب في الواقع بمثل هذا الحل. وعلى العكس من ذلك، يدعم الفلسطينيون، بأغلبية كبيرة ومتماسكة الحل الأقصى لدولة فلسطينية "من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط". (وحول ما إذا كان الإسرائيليون يرغبون بحل الدولتين، وإذا كان الأمر كذلك، ففي ظل أي شروط، فهذه بالطبع مسألة منفصلة).
وإذا قبلنا باستنتاج بوليسار، فما هي التداعيات السياسية بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يأملون في التوصل إلى حل الدولتين؟ أولاً، هل يعتمد تحقيق ذلك الهدف، كما يشير بوليسار، على "السياسات التي تسعى إلى الحد من الدعم الشعبي الفلسطيني الحاسم لدولةٍ تشمل الحد الأقصى [من الأراضي]"، أم أنّه يمكن تحقيق الهدف على الرغم من الآراء العامة السلبية؟ ثانياً، إذا كان الأخير هو الحال، فهل يكفي عقد اتفاقية سلام انتقالية بحتة بين الطرفين، أم يجب على أي اتفاق من هذا القبيل أن ينص على تحوّل التصورات العامة القائمة ؟
أعتزم في ما يلي تناول هذه الأسئلة الواحد تلو الآخر. لكن قبل البدء بذلك، أودّ أن أُشير إلى أنّ مقالة بوليسار مقنعةٌ وغنية ببيانات استطلاعية مفصّلة ومدروسة بدقّة من مجموعة واسعة من استطلاعات الرأي الموثوقة. ولذلك، على ناقد هذا العمل أن يكون أيضاً على دراية تامة في فنّ وعلم الدراسات الاقتصادية (للحصول على مثال جزئي، إنظر رد ديفيد بولوك على مقال بوليسار السابق في "موزايك" بعنوان، "ماذا يريد الفلسطينيون؟"). أمّا أنا، فأودّ من خلال هذا المقال أن أُوضح نقطةً عامة مختلفة - ألا وهي أنّ الرأي العام والسلوك السياسي ليسا متطابقين.
ففي قضيتين أساسيتين على الأقل في ساحة العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية - اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أثناء فترة رئاسة ياسر عرفات في عام 1993، وفك الارتباط الإسرائيلي عن غزة في عام 2005 - تبنّى الجمهور الفلسطيني تطوراتٍ سياسية بعيدةً كل البعد عن آرائه القصوى. وقد يعني هذا الواقع وحده أنّ السياسات التي تقدّم وعوداً موثوقة بالتغيير الإيجابي الملموس قد تشكّل محفزات أقوى من آراء المرء المقبولة من وجهة نظرية. وفي حين أنّ الأحداث الماضية نادراً ما تعطينا لمحةً مؤكّدة عن المستقبل، توصي هاتان الحالتان على الأقل بتوخي الحذر قبل التنبؤ تلقائياً حول السلوك الفعلي بناءً على نتائج استطلاعات الرأي.
لننظر في الحالتين التي تمّ فيهما التوصل إلى سلام "فعلي" بين إسرائيل ودولتين مجاورتين معاديتين سابقاً: مصر في عام 1979 والأردن في عام 1994. لقد استمرت العلاقات الدبلوماسية بعد مرور عقود على إبرام اتفاقيتي السلام، على الرغم من المراحل المضطربة وأحداث الاختبار الخطيرة أحياناً. إلّا أنّه حتى في الوقت الحالي، لا تزال هناك صعوبة في إيجاد أكثر من حفنة من الأفراد في أي من هاتين الدولتين العربيتين اللذين ينظرون إلى إسرائيل بشكل إيجابي. بل على العكس من ذلك، إن المشاعر المعادية لإسرائيل، وحتى في بعض الحالات المعادية للسامية بصورة صريحة، لا تزال منتشرة على نطاق واسع بين الشعوب والنخب على حد سواء. وإذا كان استعداد الجمهور للسلام شرطاً مسبقاً للتوصل إلى اتفاق ناجح، فلم يكن من الممكن أن يتم التوقيع على أي من الاتفاقين، المصري أو الأردني.
ولم يكن رأي الشعب المصري أو الأردني بإسرائيل هو الذي أمكن التوصل إلى هاتين الاتفاقيتين، بل رأي هذين الشعبين بقادتهم. فقد تمتّع كل من الرئيس المصري أنور السادات والعاهل الأردني الملك حسين بالشرعية الشعبية الكافية (لا ينبغي الخلط بينها وبين الشرعية الانتخابية) لإقناع جماهيرهما أثناء اتخاذهما قراراتٍ لا تحظى بشعبية والتي اعتبراها ضرورية لمصالحهما الوطنية.
ولذلك، فعند تقدير احتمالات التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين، ينبغي أن نأخذ في عين الاعتبار مجموعةً أخرى من الاستطلاعات: وهي تلك التي تدرس وجهة نظر الرأي العام الفلسطيني بقادته. وهنا الصورة قاتمة، إذ تواجه القيادة الفلسطينية نقصاً حاداً في شرعيتها. ولا يعود ذلك فقط لفشلها في تحقيق نتائج فيما يتعلق بعملية السلام مع إسرائيل، بل أيضاً إلى سجلها المتمثل في سوء الحوكمة والإدارة، والفساد وقبضتها المُحكمة للغاية على المجال السياسي. وإذا بقيت هذه القضايا الشرعية دون معالجة، فلن يتمكّن أي زعيم من إبرام اتفاقية سلام - مهما كانت شروط الاتفاق. ومن ناحية أخرى، يمكن لزعيم فلسطيني له قدر كاف من الشرعية، أن يفعل ما فعله السادات وحسين.
وينقلنا هذا إلى السؤال الثاني المتعلق بمضمون ودور الاتفاق الفعلي بين الدولتين. فهل يجب أن يعالج اتفاق كهذا تصورات الشعب السلبية وأن ينشئ آليات لتحويلها؟
بالكاد تكون هذه المسألة جديدة. فبصرف النظر عن التصريحات الوردية، والمفعمة أحياناً بالإيجابية الصادرة عن القادة المحليين والدوليين فيما يخص نزعة شعبهم لتحقيق السلام، لطالما افترضت المفاوضات الواقعية، على الأقل ضمناً، أنّه من الضروري أن تعالج اتفاقيات السلام عناصر السرد الوطني والرأي العام غير المتوافقة مع المصالحة الحقيقية.
إلّا أنّ المفاوضات حول احتمال حل الدولتين تُظهر محدودية هذه المقاربة. ففي الجولات المتعاقبة للمحادثات المتمحورة حول هذه المسألة، أثقل المشاركون الإسرائيليون والفلسطينيون (وهنا أشمل نفسي كمستشار للجانب الفلسطيني) عملية التفاوض بشكلٍ متكرر بمحاولاتٍ سامية للتوصل إلى تفاهمٍ مشترك حول مسائل جدلية تاريخياً على غرار ما حصل عام 1948، وأي جانب له ارتباط أقوى بالقدس، وما شابه ذلك. وكما هو الحال مع مسائل الماضي، فهو الأمر مع قضايا المستقبل: فقد تسببت محاولات مثيرة للإعجاب لكن غير مجدية لبلورة اقتراحات تطلعية للعلاقات الاقتصادية والثقافية وتلك الخاصة بالمجتمع المدني بين الجانبين بإعاقة عمل المتفاوضين. وقد فشلنا في كلا المحاولتين، وقد أدّى هذين الفشلين إلى تعميق الشكوك المتبادلة بين الجانبين. فالتطرّق لهذه المسائل بدلاً من تسهيل التوصل إلى اتفاق قد أضاف المزيد من نقاط الخلاف وشكل عبئاً إضافياً على المفاوضات المعقدة أساساً.
وهنا أيضاً، توفّر معاهدتيْ السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن بعض التوجيهات. فقد كانت هاتان المعاهدتان الانتقاليتان صفقتين تهدفان إلى حلّ الخلافات الفعلية ومعالجة المصالح والمخاوف الأساسية للجانبين، ووضع حدٍ لحالة الحرب. ولم تكن هناك أي أوهام بأنّ الهدف من كل اتفاقية أن تكون تحويلية على المستوى الاجتماعي. وقد يكون ذلك أحد الأسباب التي جعلت تحقيقهما أكثر سهولة ممّا أثبته حل الدولتين الصعب المنال.
إلّا أنّ هذا كلّه لا يعني أنّه بالتالي ينبغي علينا تجاهُل الرأي العام برمّته. إنني أتفق مع بوليسار: بـ "أن الآراء الفلسطينية حول حل الدولتين لها تداعيات كبيرة فيما يتعلق بالفترة الزمنية التي اتخذها القادة الفلسطينيين في المفاوضات مع إسرائيل، والتوقعات التي يجب على الإسرائيليين أن يتفاوضوا بموجبها ]و[ قدرة الوسطاء من طرفٍ ثالث كالولايات المتحدة على جمع الطرفين معاً". لكن في ضوء ما ذكرْتُه أعلاه، سوف أفسّر هذه النقطة بكلماتٍ مختلفة قليلاً: في حين أنّ الرأي العام لا يحدد إمكانية التوصل إلى حل الدولتين، فإن المواقف العامة ليست عديمة الصلة بهذه المسألة بأي حال من الأحوال.
ومن المنظور النفعي، كلّما كان رأي الشعب الفلسطيني بإسرائيل أكثر سلبية، وكلّما كانت مواقفه تجاه التنازلات الضرورية أكثر تشدداً، كلما كان أكثر صعوبة على القادة الفلسطينيين إقناع المجتمع المحلّي بالاتفاقية. وينطبق الشيء نفسه، بعد إجراء التعديلات الضرورية، بالنسبة لزعيم إسرائيلي أمام الرأي العام الإسرائيلي. ويبرز ذلك بشكل خاص في ضوء ندرة الشخصيات ذات الشأن الكبير جداً في الشرق الأوسط مثل أنور السادات ومناحيم بيغن، أو الملك حسين واسحق رابين. إلّا أنّ المنافع السياسية ليست أيضاً الاعتبار الوحيد، إذ يجب مواجهة بعض القضايا التي تم تحديدها في مقالة بوليسار، مثل إنكار الصلة اليهودية التاريخية بالقدس أو بالأرض بشكلٍ عام، لأنّ ذلك هو الأمر الصحيح من الناحية الواقعية والمناسب أخلاقياً.
وخلاصة القول، بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في مستقبلٍ لا ينجو فيه الفلسطينيون والإسرائيليون فحسب، بل يعيشون بازدهار أيضاً، فإن ما يحتاجون إليه، كما يكتب بوليسار، هو مقاربةٌ ترى أن المنافسة بينهما "ليست معركةً صفرية يحتكر فيها طرفٌ واحد كافة الحقوق، بل أنها نزاع تواجهت فيه مطالب محقّة وشرعية من كلا الجانبين ويجب حلّها". وتحقيقاً لهذه الغاية، يتعين على الجانبين، فضلاً على الجهات الفاعلة الدولية المعنية بالصراع، أن يستوعبوا [ويستلهموا فكرة] التعددية الأساسية المتأصلة في هذه المنطقة الغنية بالتاريخ والثقافة والأعراق والأديان، ويعتمدوا سياسات تشجّع احترام السيرتين الصالحتين لكلا الجانبين.
ومن المهم في هذا الصدد بشكلٍ خاص أن يتم دعم المبادرات العديدة التي تشجّع التفاعل الشعبي بين الجانبين، على أن يكون هذا الدعم مادياً وسياسياً على حد سواء. ويتعين على المجتمع الدولي أيضاً مساءلة الجانبين ليس فقط عن حوادث التحريض الصارخ، بل أيضاً عن السياسات والتوجهات التي تؤخّر أو تعاقب مثل هذا التعاون الشعبي، سواء كان ذلك وجهة نظر "مناهضة التطبيع" التي أصبحت تهيمن مؤخراً على الخطاب الفلسطيني أو عملية نزع الشرعية الحالية عن المنظمات غير الحكومية ذات التمويل الأجنبي في إسرائيل.
فكيف يمكننا تقييم هذه الضرورات المختلفة؟ يشكّل تصحيح التصورات الخاطئة لدى الجمهور، ومكافحة التحريض، وتشجيع ثقافة السلام، وتعزيز التفاهم والتعايش، والتوق إلى تحقيق سلامٍ دافئ، أهداف جديرة بالسعي إلى تحقيقها في حد ذاتها. ولكن، أكرر، سيكون من الخطأ الإستنتاج أنّه لا يمكن تحقيق حل الدولتين إلا إذا تغيّرت المواقف الجماهيرية. وبوجه خاص في خضمّ صراعٍ مستمر، ستُلقي مثل هذا المقاربة عبئاً على العملية الدبلوماسية بوضعها طلبات قد يكون من المستحيل الوفاء بها. وفي حين يجب أن يبقى السلام الدافئ الهدف الأساسي، إلا أن السلام البارد والمعيب أفضل بدرجة لا تقدر مقارنة بانعدام السلام على الإطلاق.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن، وخدم سابقاً في مناصب استشارية مختلفة مع السلطة الفلسطينية.
"موزايك"