- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2608
الحد من أعمال التوغل في «المنطقة (أ)»: الخطوة التالية للتنسيق الأمني بين الإسرائيلين والفلسطينيين
وفقاً لتقارير وسائل الإعلام، يسير المسؤولون الأمنيون الفلسطينيون والإسرائيليون ببطء نحو تفاهمات أمنية جديدة من شأنها أن تحد من عمليات "جيش الدفاع الإسرائيلي" في أجزاء من «المنطقة (أ)» في الضفة الغربية. ولا تنحصر أهمية هذه المناقشات على كونها تسلط الضوء على مجال من المجالات القليلة المتبقية في إطار التعاون الثنائي النشط فحسب، بل تشير إلى وجود نهج جديد يبشر بالخير في ظل غياب المفاوضات السياسية الرسمية.
الخلفية
شمل "الاتفاق المؤقت لعام 1995 بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة" (المعروف باسم "اتفاقية أوسلو الثانية") تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق. وأقر الاتفاق بقاء «المنطقة (ج)»، التي تشكل حوالي 60 في المائة من الأراضي، تحت السيطرة المدنية والعسكرية الإسرائيلية الكاملة. أما «المنطقة (ب)»، التي تغطي حوالي 20 في المائة من الضفة الغربية وتتكون في معظمها من المناطق المدنية الريفية الفلسطينية، فقد أقر الاتفاق بأن تتولى السلطات الفلسطينية الشؤون المدنية والنظام العام فيها في حين تحتفظ إسرائيل بمسؤولية أمنية شاملة. أما المساحة الباقية والتي تبلغ 20 في المائة، فقد سُميت بـ «المنطقة (أ)»، وضمت المدن الفلسطينية وتم وضعها تحت السيطرة المدنية والأمنية للسلطة الفلسطينية. كما نصت "اتفاقية أوسلو" على آليات للتعاون الأمني، من بينها إنشاء لجان ثنائية رفيعة المستوى، وتسيير دوريات مشتركة.
وظلت هذه الترتيبات سارية المفعول حتى اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000، حين توقف التعاون بين قوات الأمن الفلسطينية والإسرائيلية وأخذت تشتبك على نحو منتظم. وخلال "عملية السور الواقي" عام 2002، دخل "جيش الدفاع الإسرائيلي" إلى كل أرجاء «المنطقة (أ)» تقريباً. ومنذ ذلك الحين عاد الجيش وانتشر إلى حد كبير خارج المنطقة، لكنه يستمر في تنفيذ عمليات متكررة في المدن الفلسطينية، والتي غالباً ما يُشار إليها باسم "التوغلات". من جهتهم، يعتبر الفلسطينيون هذه العمليات خرقاً غير مبرر لـ "اتفاقية أوسلو"، في حين تصر إسرائيل على أن هناك أهداف أمنية حساسة، محددة وملحة من وراء هذه العمليات.
إحياء التعاون الأمني
مع انتهاء الانتفاضة الثانية، شرعت السلطة الفلسطينية بإعادة بناء أجهزتها الأمنية وإصلاحها. وبدأت هذه الجهود تثبت فعاليتها عندما تولى رئيس الوزراء سلام فياض منصبه في عام 2007 بعد الاستيلاء العنيف لحركة «حماس» على قطاع غزة. وكان تعميق التعاون مع "الجيش الإسرائيلي" ووضعه في إطار مهني من الركائز الأساسية للقطاع الأمني الجديد في السلطة الفلسطينية. ولدعم هذه العملية، أنشأت واشنطن "مكتب المنسق الأمني الأمريكي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية". وسهل هذا "المكتب" استئناف التعاون مع إسرائيل، بالإضافة إلى المساعدة في تدريب القوات الفلسطينية الجديدة. يُذكر أن "الجيش الإسرائيلي" كان مشككاً في البداية في جدوى التعاون، لكنه تبنّاه في وقت لاحق ويقر حالياً باستمرار فائدته.
وفي حين كانت عملية إعادة فرض القانون والنظام التي نتجت عن الإصلاح الأمني شعبية في صفوف الجمهور الفلسطيني، إلا أن الجانب التعاوني مع الإسرائيليين لم يتمتع بالشعبية نفسها. فقد اتُهم أفراد الأمن الفلسطينيين بالتعاون مع إسرائيل والتواطؤ معها، وقد كان مشهد الضباط الفلسطينيين يقفون متفرجين بينما كانت القوات الإسرائيلية تدخل مدنهم الدليل الأكثر وضوحاً على هذا العجز.
ولكن حتى مع وصول الاجتماعات السياسية إلى انقطاع شبه كامل بعد انهيار المفاوضات المباشرة في عام 2014، تم تكثيف التعاون الأمني لأنه يخدم مصالح الطرفين. ومنذ ذلك الحين، كانت إسرائيل قادرة على الحد من أنشطتها في الضفة الغربية فيما زادت السلطة الفلسطينية من نشاطاتها هناك. وفي بيان لمجلس الوزراء في 6 نيسان/إبريل، ورد أن قائد المنطقة الوسطى في "الجيش الإسرائيلي" الجنرال روني نوما أشار إلى أن القوات الفلسطينية تتولى الآن إدارة حوالي 35 في المائة من القضايا الأمنية في المنطقة، بعد أن كانت تتولى 15 في المائة منها قبل بضعة أشهر. كما لدى إسرائيل المزيد من الحوافز للحد من رد فعلها على أرض الواقع تجاه مختلف المشاكل (على سبيل المثال، التوترات الدبلوماسية المستمرة والموجة الحالية من الطعن)، ولدعم التدابير التي تسهّل المشاريع الاقتصادية الفلسطينية، وزيادة عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، وتوسيع مجال عمليات القوات الفلسطينية. ومن جانبها، ليست هناك مصلحة للسلطة الفلسطينية بالسماح للوضع الأمني بالتدهور، لأن عدم الاستقرار على نطاق واسع يمكن أن يهدد بقاءها ذاته.
وعلى الرغم من هذه الاعتبارات، قرر "المجلس المركزي" لمنظمة التحرير الفلسطينية في آذار/ مارس 2015 أنه لا بد من قطع التعاون الأمني بسبب المعارضة الشعبية المتزايدة له. وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية لم تنفذ هذا القرار، إلا أنها تواجه ضغوطاً سياسية هائلة لتنفيذه. وعلى وجه التحديد، إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقادة الأجهزة الأمنية لديه، لطالما اعتبروا التوغلات على أنها من العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى تآكل مصداقية القوات الفلسطينية على الصعيد الداخلي. إن الاقتراح الحالي للحد من هذه الممارسة نشأ من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وركز في البداية على مرحلة تجريبية محتملة في رام الله وأريحا من شأنها أن تتوسع تدريجياً لتشمل باقي أنحاء «المنطقة (أ)». وقد تطور نطاق التدابير المقترحة مع استمرار المحادثات، ولكن يجب على الأطراف أن تعالج عدداً من التحديات قبل أن تصبح التفاهمات سياسة متّبعة.
الصلة بين السياسة والأمن
تعود جذور الاقتراح القائم على الحد تدريجياً من العمليات الإسرائيلية إلى تقييم "الجيش الإسرائيلي" المهني الذي يقول إنه يمكن للقوات الفلسطينية أن تتحمل بثقة المسؤولية الكاملة في بعض الأجزاء من «المنطقة (أ)»، على الرغم من أن المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين يؤكدون على أن السلطة الفلسطينية غير قادرة حتى الآن على السيطرة على المنطقة بأكملها. كما يكمن الدافع وراء هذا القرار في فهم "الجيش الإسرائيلي" لفكرة أن نظراءه الفلسطينيين يحتاجون إلى بعض الإشارات التي تدل على التقدم من أجل تعزيز موقفهم في الداخل ومواجهة منتقديهم. ومن شأن تنفيذ التدابير المقترحة معالجة إحدى القضايا الرئيسية التي تؤدي إلى تراجع الدعم الشعبي الفلسطيني للتعاون الأمني.
وعلى الرغم من أن المبادرة للمحادثات الجارية قد جاءت من القيادة الأمنية المهنية، إلا أنه لم يكن من الممكن الشروع بهذه المحادثات من دون مباركة القيادة السياسية، بما فيها رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين. والأمر مماثل من الجانب الفلسطيني، ففي حين تجري المحادثات من قبل مسؤولي الأمن، لم يكن من الممكن الشروع بها من دون مباركة الرئيس عباس. بيد أن إضفاء الطابع الرسمي على التدابير المقترحة في اتفاق يتم التوصل إليه عبر التفاوض سيزيد من التحديات السياسية.
وفي إسرائيل على سبيل المثال، من المرجح أن يعتبر بعض أعضاء الائتلاف الحاكم الحالي أن اتفاق كهذا يقوم على "الاستعانة بمصادر خارجية من أجل أمن إسرائيل" (كما صرّح الوزير نفتالي بنت مؤخراً) أو يقدم "تنازلات" من دون مقابل. أما من الجانب الفلسطيني، فإن الضعف السياسي للسلطة الفلسطينية يجعلها عرضة لاتهامات داخلية بالتنازلات المفرطة لصالح إسرائيل. إضافة إلى ذلك، يستعد الفلسطينيون لمرحلة ما بعد عباس، فيما يحاول الطامحون المرجحون للرئاسة إثبات تشددهم. وفي وسط هذا الجو المشحون بالتوتر، سيشعر المسؤولون الفلسطينيون بغضاضة إن قبلوا رسمياً بأي ترتيبات لا تقوم على التنفيذ الكامل لما نصت عليه "اتفاقية أوسلو" حول نظام أمن «المنطقة (أ)»، بما أن القبول بأقل من ذلك سيُعتبر قبولاً بحق "الجيش الإسرائيلي" بتنفيذ عمليات في تلك المنطقة. وبالتالي، يكمن التحدي في كيفية عزل القضايا الأمنية عن الاعتبارات السياسية قدر المستطاع.
تنسيق وليس مفاوضات
حتى الآن، سلكت الأطراف بعض الطرق لمجابهة هذه التحديات من خلال قصر المحادثات على التفاعلات بين المسؤولين الأمنيين حول القضايا الفنية التي تقع تحت مسؤولياتهم العملياتية. وبدلاً من سبل التفاوض التقليدية، تنظر الأطراف إلى المحادثات على أنها عبارة عن عمليات "تنسيق". وتحت هذا العنوان، يمكن للمسؤولين الأمنيين وضع اللمسات الأخيرة على طرق الحد من عمليات "الجيش الإسرائيلي" في بعض أجزاء «المنطقة (أ)» والبدء في تنفيذها من خلال تقديمها على أنها قرارات تنفيذية شبيهة بالاختيارات التي تتم في اتباع المسار العادي للتعاون الأمني.
وفي الوقت نفسه، يمكن للقادة السياسيين الحفاظ على مواقفهم التي يعربون عنها من خلال الخطابات حتى في خلال سير المناقشات الأمنية. إذ يمكن للسياسيين الإسرائيليين أن يصرحوا بدقة أن "الجيش الإسرائيلي" يحتفظ بحرية العمل في جميع أنحاء «المنطقة (أ)» ما لم يوافق المفاوضون رسمياً على خلاف ذلك، كما يمكنهم أن يستمروا في تقديم عدد كبير من المطالب الدبلوماسية من السلطة الفلسطينية. وبالمثل، يمكن للمسؤولين الفلسطينيين أن يدّعوا بدقة أنهم لا يزالون يرفضون أي تحرك إسرائيلي في «المنطقة (أ)» ويستمرون بتقديم مطالبهم الدبلوماسية الخاصة.
ومن ثم، ففي نهاية المطاف، تعتمد نتائج هذه العملية على مدى إمكانية إبقائها في المجال الأمني: فكلما قلّ عدد المطالب السياسية المدرجة في هذه العملية، كلما ازداد احتمال نجاحها. ومن شأن المطالبة باتفاق رسمي أن يشجع الجانبين على تحميل المفاوضين المزيد من المطالب السياسية التي من شأنها أن تحول دون قيام تنفيذ فعلي. وفي المقابل، إن التعامل مع المسألة على أنها مجموعة من التفاهمات العملياتية المنسقة ستسمح لكلا الجانبين بالحفاظ على وضعهما الحالي في مجال التعاون الفني، وتبديد أي اتهامات بالتنازلات المفرطة من خلال الإشارة بدقة إلى أنه لم يتم القيام بأي تنازلات رسمية.
وعلى الرغم من جميع الجهود التي تُبذل للحفاظ على الجانب الأمني بعيداً عن السياسة، إلا أن القادة السياسيين الفلسطينيين والإسرائيليين سيستمرون في مواجهة الضغوط الداخلية لاستخدام المحادثات الحالية كوسيلة للحصول على تنازلات دبلوماسية. ومن أجل المساعدة على تخفيف وطأة هذه الرياح السياسية على العملية، يمكن للولايات المتحدة أن تضطلع بدور أكبر في إحراز تقدم في المناقشات. فقد كان "مكتب المنسق الأمني الأمريكي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية" نشطاً بالفعل في تسهيل العملية بحكم علاقاته الواسعة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية والثقة التي يتمتع بها في أوساطها، ولكن تعزيز دوره الفريد قد يزيد إلى حد كبير من احتمالات النجاح. وبالإضافة إلى جهود "المكتب" على الأرض، قد تحتاج واشنطن إلى حث الجانبين على مواصلة تخفيف وطأة التدخل السياسي على المحادثات الأمنية. ومع ذلك، لا بد من ترك المحتوى المحدد للمحادثات، بما في ذلك وتيرة الترتيبات المقترحة ونطاقها الأولي، للأطراف [المعنية].
المحصلة
من شأن إطلاق عملية يحد بموجبها "الجيش الإسرائيلي" من عملياته في «المنطقة (أ)» وتحافظ السلطة الفلسطينية على الأمن فيها، أن يعزز موقف قوات الأمن الفلسطينية على الصعيد الداخلي ويلبّي الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية في الوقت نفسه. وبدوره، يمكن أن يؤدي ذلك إلى اتخاذ المزيد من الخطوات المنسقة في الضفة الغربية في المستقبل. وفي حين أنه لا يمكن لهذه الخطوات أن تؤدي بمفردها إلى التوصل إلى حل الدولتين، إلا أنه بإمكانها أن تقرّب الطرفين من هذا الهدف.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن، وكان قد شغل سابقاً العديد من المناصب الاستشارية مع السلطة الفلسطينية.