- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الجزائر: ما بين التغيير الجذري والإصلاح السطحي
منذ 22 شباط/فبراير، تشهد الجزائر أكبر حراك سياسي منذ استقلالها في العام 1962. فخلال الأشهر الأربعة الأخيرة، تمكن هذا الحراك الشعبي من فرض تغييرات كان معظم المحللون السياسيون سابقًا يعتقدون بأنها غير قابلة للتحقيق في دولة مثل الجزائر.
شكلت استقالة بوتفليقة بعد عشرين عامًا من حكم البلاد في الواقع حدثًا بارزًا في الحياة السياسية المعاصرة في الجزائر. ولكن الأسابيع القليلة الماضية أظهرت أن استقالته لم تكن سوى بداية سلسلة أحداث سياسية غير متوقعة، إذ خلقت مناخًا سياسيًا أكثر تعقيدًا كما اتضح اليوم.
وعلى الرغم من دخول التظاهرات في الجزائر شهرها الخامس، ستحتاج البلاد، بحسب توقعات كثر، إلى المزيد من الوقت لإرساء الاستقرار، إما من خلال الانتخابات، كما ينص الدستور، أو الإجماع حول فترة انتقالية سياسية، كما تطالب بعض القوى الاجتماعية والسياسية. يُعزى هذا الغموض السياسي إلى ركود من جانب المؤسسة العسكرية وعدم تنظيم لدى المتظاهرين. فهم دوافع الطرفين بشكل أوضح سيساعد على بلورة ما يجب توقعه خلال الأسابيع القليلة المقبلة في السياسة الجزائرية.
تعطش النظام إلى انتخابات عاجلة
بعد استقالة بوتفليقة، انجرّ النظام السياسي الجزائري بعجلة إلى وضع خارج عن سيطرته. بالنسبة إلى القيادة العسكرية، وهي صاحبة السلطة الفعلية في الجزائر، كشفت استقالة الرئيس السابق عن "الصندوق الأسود" الحاكم ووضعت هذه القيادة في مواجهة مباشرة مع المتظاهرين في الشارع. لذلك، دعا رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، مرارًا إلى إجراء انتخابات رئاسية بأسرع وقت ممكن. فالقيادة العسكرية في الجزائر معتادة على الحكم من خلف الكواليس وتتطلع بالتالي بلهفة لفرض واجهة مدنية كالعادة خلال الانتخابات المقبلة.
بالنسبة إلى الطغمة العسكرية، يُعدّ تنظيم الانتخابات الاستراتيجية الوحيدة التي قد تسمح للنظام القديم بإعادة تعزيز سلطته. ولتجنب التغيرات المحتملة الخارجة عن سيطرتها، أقرت القيادة العسكرية سلسلة من الإصلاحات الرمزية ولكن غير الأساسية. ونتيجة لذلك، شهدت الجزائر سلسلة اعتقالات لمسؤولين سابقين رفيعي المستوى من الجهازين العسكري والمدني على خلفية تهم متعلقة بالفساد والأمن خلال الشهر الماضي، بمن فيهم كثر من رموز إدارة بوتفليقة. وكان الهدف من الاعتقالات تهدئة الحراك الشعبي في الجزائر وكسب ثقته مع تفكيك جناح بوتفليقة. ولكن عدة لاعبين سياسيين واجتماعيين اعتبروا الاعتقالات "سياسية" و"تعسفية".
إن عدم ثقة المتظاهرين بالمؤسسة الحاكمة الجزائرية أفشل هذه المحاولات ومحاولات أخرى لفرض خارطة طريق النظام نحو الانتقال في الجزائر. فقد حاول قايد صالح أيضًا أن يقسم الحراك الشعبي عبر خطوط إيديولوجية وإثنية عبر التذكير بالهوية الأمازيغية واعتبار العلم الأمازيغي تهديدًا للوحدة الوطنية. ولكن خطابه اعتُبر على نطاق واسع عنصريًا ومهينًا لأحد أبرز رموز الهوية الجزائرية. وبالرغم من الجهود الدعائية، ما زال المتظاهرون غير مقتنعين بخارطة طريق القيادة العسكرية الحاكمة ويخشون أن تسمح الانتخابات، من دون أي تغيير منهجي سابق، ببساطة للنظام القديم بإعادة التكون بحلّة جديدة.
ردًا على ذلك، عاد النظام الجزائري إلى آلياته القمعية السابقة. فخلال الأيام القليلة الماضية، وُضع عدة ناشطين ومتظاهرين سلميين في الحجز الاحتياطي. وحتى بالمقارنة مع حكم بوتفليقة، مع كافة قيوده المتعلقة بحقوق الإنسان وحرية التعبير، تبدو الإجراءات الحالية للسلطات الجزائرية أكثر تعسفية واستبدادية. ويبدو أن الجزائر تشهد اليوم إعادة إنتاج ديكتاتورية عسكرية.
بالإضافة إلى ذلك ، شهدت الجزائر تغييرات على مستوى قيادة أجهزتها الأمنية حيث قام الرئيس المؤقت، بن صالح، بانهاء مهام أربعة قادة للمناطق العسكرية، قائد الدرك الوطني ومدير أكاديمية شرشال العسكرية. بالنسبة للعديد من المراقبين، فإن هذه الخطوة، المثيرة للجدل إلى حد كبير بالنظر إلى أن ولاية بن صالح الدستورية انتهت في 9 يوليو، تهدف إلى تركيز السلطة في أيدي قايد صالح وتحييد أي معارضة محتملة داخل القيادة العسكرية.
مطالب المتظاهرين والسعي وراء الإجماع
بالمقابل، يطالب الحراك الشعبي في الجزائر بإستقالة النخب الحاكمة من حقبة بوتفليقة بشكل كامل، بما أن المتظاهرين يعتبرون جميع الذين خدموا أجندات بوتفليقة خلال السنوات العشرين الماضية مسؤولين عن الأزمة الراهنة. ومع أن بوتفليقة شكّل حتمًا عنصرًا بارزًا من النظام السياسي الفاسد، فهو ليس الوحيد الذي يتحمل المسؤولية.
إن الكثير من الجزائريين واثقون بأن النظام السياسي كما هو حاليًا هو فاسد وغير شرعي بالأساس -خصوصا وأن عهدة الرئيس المؤقت انتهت يوم 9 تموز/يوليو-، وبالتالي هو غير قادر على المشاركة في أي إصلاحات جدية. رد اللاعبون السياسيون والاجتماعيون على ذلك عبر عقد عدة اجتماعات خلال الأسابيع القليلة الماضية، وتمحورت المحادثات حول مبادرتين.
تمت المبادرة الأولى في 15 حزيران/يونيو على شكل مؤتمر شامل للمجتمع المدني. فقد اجتمعت أربعون منظمة وجمعية ونقابة مختلفة تقريبًا لمناقشة الأزمة السياسية، وخلُص المؤتمر إلى ضرورة تخصيص فترة انتقالية من سنة واحدة قبل توجه البلاد للانتخابات. وخلال هذه الفترة الانتقالية، أقر المؤتمر أنه يجب على شخصية أو هيئة تحظى بالإجماع أن تتولى قيادة البلاد فيما تؤسس هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات المستقبلية.
في حين أن المنصة السياسية التي انبثقت عن هذه المبادرة جديرة بالثناء، تفتقر الهيئة لتوصيات بشأن التدابير العملية التي يجب اتخاذها لضمان انتقال سلمي وسلس للسلطة. بالإضافة إلى ذلك، بعد عشرين عامًا قام خلالها بوتفليقة بتفكيك المنظمات المجتمعية، يحتاج المجتمع المدني إلى المزيد من الوقت لإعادة تنظيم نفسه بحيث يصبح بديلًا فعليًا للقيادة التقليدية. وفيما اعتُبر المؤتمر بذاته منصة حوار بارزة خلال هذه الأوقات الدقيقة في الجزائر، صعّب الوضع الحالي غير المنظم للمجتمع المدني على المشاركين، الذين نادرًا ما كانوا يعملون بشكل جماعي، التوصل إلى إجماع. تتطلب هذه الأزمة السياسية ثقة متبادلة بين مختلف جهات المجتمع المدني. بالرغم من أن هذه المبادرة تشكل نقطة انطلاق جيدة، سيؤدي تنظيم المجتمع المدني إلى بناء جسور بين جهاته المتنوعة، ما يسهل عملية بناء الثقة.
أما المبادرة الثانية فكانت المنتدى الذي عُقد في 6 تموز/يوليو لوضع أسس حوار شامل بين معظم الجهات السياسية والاجتماعية. بخلاف المبادرة الأولى، أثار منتدى الحوار الوطني مخاوف نظرًا لمشاركة رموز سابقة من النظام السياسي فيه. أعرب عدة ناشطين عن قلقهم من إمكانية أن يقضي المنتدى على الحراك الشعبي ويجدد النظام القديم. وفيما جرى نقاش موجز حول بعض القضايا الأساسية، كإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، يبدو أن الخطابات تبنت بشكل أساسي النبرة ذاتها كموقف رئيس الدولة الجزائرية المؤقت، عبد القادر بن صالح. تم التشديد على الحوار المفتوح، ولكن لم تُعرض شروط واضحة أو عملية للمضي قدمًا. من غير المرجح أن ينطلق أي شكل من أشكال الحوار دون تنازلات كبرى من النظام السياسي الجزائري. وتتضمن بعض هذه الشروط تنحي الرموز المتبقية من النظام ورفع القيود المختلفة عن الإعلام والمجتمع المدني وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، بالإضافة إلى احترام حق الجزائريين في حرية التجمع.
إلى جانب هذه المبادرات الرئيسية، أُطلقت عدة دعوات وخارطات طريق خلال الأشهر القليلة الماضية، ولكن اللاعبين السياسيين والاجتماعيين ما زالوا يفتقرون للأدوات الضرورية لتحويل الحراك الشعبي إلى هيئة منظمة. فالافتقار للقيادة والرؤية لا يترك للحراك الشعبي عدة خيارات وأدى إلى دعوات للعصيان المدني كحل أخير. وفيما يدرك معظم المتظاهرين تمامًا مخاطر استمرار الفترة الانتقالية، بدأ الحراك يشهد بصورة متزايدة شكلًا من أشكال التطرف السلمي. وبات المتظاهرون يعتبرون أن تنحي رئيس الدولة والحكومة كشروط أساسية لانتخابات عادلة.
الطريق نحو الأمام
فيما لا يزال هذا المأزق السياسي يلوح في أفق الحياة في الجزائر، مترافقًا بانعدام الاستقرار الإقليمي على طول الحدود الجزائرية، يُعتبر انتقال السلطة السلمي والسلس أكثر أهمية من أي وقت مضى. ولكن نجاح هذا الانتقال يتوقف على عاملين بارزين: حراك شعبي أكثر تنظيمًا وحوار بين النظام السياسي والمتظاهرين.
من السذاجة الاعتقاد بأن الحراك الشعبي، بشكله الحالي غير المنظم، يمكن أن يشكل بديلًا على القيادة السياسية القائمة. بالرغم من قدرته على الحشد واستعداده لدفع النظام للقيام بالمزيد من التنازلات، ما زال الحراك غير قادر على إنتاج بنى مؤسساتية واضحة. فأي محاولة لدفع النظام السياسي الحالي إلى التنحي من دون توفير بديل لن تؤدي سوى إلى فراغ خطر في السلطة. بدأ بعض الناشطين في الحراك يدركون الحاجة الملحة لتنظيم المتظاهرين ودعم المطالب الشعبية ضمن خارطة طريق واضحة، وبراغماتية، ولكن بناء بديل يستوجب توفير الشروط الملائمة واللوجستية لانعقاد مناقشات مثمرة.
بالإضافة إلى المحادثات ضمن الحراك الشعبي بذاته، ستحصل حتمًا جولة أخرى من الحوار بين الحكام والمتظاهرين في مرحلة معينة. ففي خطابه الأخير، أعاد الرئيس الجزائري المؤقت بن صالح التأكيد على التزام النظام بالحوار المفتوح والشامل، بقيادة شخصيات مستقلة، ما يقود إلى انتخابات رئاسية بأسرع وقت ممكن. ولكن المتظاهرين يعتبرون أن إمكانية إجراء هذا الحوار مشروطة بإطلاق سراح السجناء السياسيين وتنحي القيادة المتبقية من حقبة بوتفليقة. فضلًا عن ذلك، أعربت المؤسسة العسكرية مرارًا عن عدم استعدادها للمشاركة في أي حوار، كما ألمحت إلى أن المجلس العسكري الحاكم تبنى آلية "الحكم من خلف الكواليس". ولإجراء أي حوار ناجح، لا بد من أن يلتزم المجلس العسكري الحاكم بالبقاء على حياد سياسيًا حتى من خلف الكواليس. ولكن فهم الانخراط التاريخي للمؤسسة العسكرية الجزائرية في الشؤون السياسية يبين أنه من غير المرجح أن تشارك القيادة العسكرية في حوار مباشر ورسمي مع الحراك الشعبي ما لم يتوصل الأخير إلى مستوى تنظيمي عالٍ ويتمكن من توفير بديل. ولا يمكن إلا لميزان قوى جديد فعلي أن يدفع القيادة العسكرية إلى الحوار.
ما الذي يجب توقعه؟
مع دخول الدولة الشهر الخامس من التظاهرات، من الواضح أن الانتقال إلى قيادة جديدة بات محتمًا. ما زالت نتيجة هذا الانتقال غير واضحة، ولكن ثلاثة سيناريوهات رئيسية هي الأكثر ترجيحًا.
إذا استطاع المتظاهرون تعلّم كيفية تنظيم أنفسهم، سيتمتع الحراك الشعبي بالطاقة والبنية الشرعية. في هذه الحالة، سيُضطر النظام السياسي إلى الجلوس والتفاوض على شروط تنحيه في مرحلة معينة. وستتضمن هذه الشروط بلا شك استقالة حرس النظام الجزائري القديم وإصلاح الجهاز الأمني بحزم لضمان تفكيك الطغمة العسكرية وإلزام المؤسسة الأمنية بواجباتها الدستورية. يُعدّ هذا السيناريو إيجابيًا، ولكنه الخيار الأكثر ترجيحًا لمنع البلاد من الانجرار إلى الحكم الاستبدادي أو التصعيد العنيف.
وإذا لم يستطع المتظاهرون تنظيم أنفسهم بشكل فعال، من المرجح أن تتمكن القيادة العسكرية من فرض مرشحها الرئاسي ورؤيتها للسياسة الجزائرية. ومع أن هذا السيناريو قد يؤمن درجة معينة من الاستقرار على المدى القصير، سيحول هذا الوضع دون تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تحتاجها البلاد بشدة. وستعود الجزائر إلى استقرار مزيف سينتهي بانتفاضة قد تكتسي طابعًا عنيفًا وفوضى عارمة. ولن يؤدي السماح للنظام بالتجدد سوى إلى تأخير تنفيذ الإصلاحات الضرورية للغاية التي ستتطلب في النهاية كلفة أعلى بكثير.
إذا لم يتمكن الحراك الشعبي ولا النظام السياسي من تحقيق هدفه النهائي وتعزيز سلطته، ستدخل الجزائر في فراغ دستوري وسياسي أسوأ من الوضع الحالي. وقد تؤدي فترة انتقالية طويلة من دون إعادة تنظيم هادفة في نهاية المطاف إلى تمرد عنيف وفوضوي. وفي ظل الوضع المتأزم في ليبيا والساحل، قد يتيح الفراغ الدستوري والسياسي وضعف الجهاز الأمني الوطني للمجموعات المسلحة إمكانية الوصول بسهولة نسبيًا إلى البلاد. كما ستسعى عدة قوى خارجية، خصوصًا الحليف الاستراتيجي التاريخي، روسيا، أيضًا إلى حماية مصالحها ودعمها. وسيحوّل ذلك البلاد إلى حلبة سباق جديدة للقوى الدولية والإقليمية.
ربما تشهد الجزائر اليوم اللحظة الأكثر حسمًا في السنوات الخمسين الأخيرة من تاريخها. فالبلاد أمام فرصة ذهبية لإحداث تغيير جذري ولكن أيضًا أمام خطر فعلي متمثل بفترة فوضى سياسية مطولة. فالوضع في الجزائر يجب ألا يكون مدعاة قلق للشعب الجزائري فحسب، بل أيضًا للدول المجاورة ولأي قوى دولية ذات مصالح كبرى في المنطقة. هناك أيضًا حاجة ملحة للتوافق على خارطة طريق تحظى بإجماع وتلبي مطالب المتظاهرين وفقًا لإطار زمني واقعي. ولا بد من منح الجيل الشاب فرصة الحكم، على ألا يهدد ذلك ديمومة مؤسسات الدولة. تستوجب التحديات التي تتربص بالجزائر داخليًا وخارجيًا على حد سواء تغيير نظام الحوكمة عوضًا عن إصلاح واجهته المدنية وإعادة تدويرها. فالمجلس العسكري الحاكم غير قادر بطبيعته على إحلال السلام وإرساء الاستقرار في الجزائر على المدى الطويل.