- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الجزائر: ماذا بعد بالنسبة لبلد متغير؟
خلال الشهر الماضي، شهدت الجزائر أكبر احتجاجات في تاريخها الحديث، إذ اعترض الملايين على الولاية الخامسة للرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة. وتمثل تلك الاحتجاجات نقطة تحوّل بالنسبة إلى الكثير من الجزائريين حيث كانت ردة الفعل هذه متوقَّعة في ظل المشاكل الاجتماعية-الاقتصادية المتزايدة والمأزق السياسي الذي يمرّ به نظامٌ أصبح عاجزًا عن تجديد نُخَبه. ووجد آخرون أن الاحتجاجات هي علامة إنذار لحدوث تغييرٍ جذري في منطقةٍ تواجه أصلًا تحديات جدّيّة، لا سيما من ناحية الأمن. وعلى الرغم من أن كلا وجهتي النظر قد يكونان صحيحتين، إلا أن الكثير يعتمد على قدرة النظام الحالي على تشكيل مسار سياسي جديد بشكل فعال. وفي الوقت ذاته، يجب على المتظاهرين تجنب تصعيد الموقف إلى طريق لا رجعة فيه نحو عدم الاستقرار.
ما يتطلّبه الفهم الأفضل للوضع الراهن في الجزائر هو التحليل الدقيق للأحداث التي جرت خلال الأسابيع القليلة الماضية، سواء داخل الحكومة أو في الشارع. يمكن أن يوفّر تحليل هذين العامليْن بعض التلميحات عمّا يخبّئه مستقبل الجزائر، وأن يحدد المسار الذي قد تتخذه هذه الاحتجاجات.
إن فهم واستيعاب تأثير تلك الاحتجاجات يتطلب التأكيد على الأعداد الهائلة من المحتجين التي تمثّل كافة شرائح المجتمع الجزائري، فخلال الشهر الماضي، انضمّت إلى التحرك الشعبي عدة منظمات ونقابات وشخصيات كانت، حتى وقتٍ متأخر، تدعم بشدة ولاية بوتفليقة الخامسة، ودعت للتغيير.
ومع ذلك، فإن أهداف الاحتجاجات مازالت غامضة إلى حد ما، ولا تزال تفتقر إلى قيادة واضحة رغم أن ذلك قد يُضعف التحرك بحسب بعض الانتقادات. ما زالت النداءات التي تدعو إلى هذه الاحتجاجات تسري بشكلٍ أساسي على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ورغم إجراء عدة محادثات حول تعيين ممثلين رسميين عن الحراك للتفاوض رسميًّا مع النظام السياسي الجزائري، رُفِض هذا الاقتراح إلى حدٍ كبير. السبب الذي يكمن خلف هذا الرفض هو التخوف من أن تَفتح هذه الخطوة الأبواب أمام انقسام التحرك إيديولوجيا وإثنيا.
إن أهم ما يميز هذا الحراك هو قدرته على توحيد العناصر المختلفة في المجتمع الجزائري، غير أن هذه الوحدة تختفي حالما يدور الحديث حول مستقبل البلاد؛ فلا تتفق مختلف الأطراف على رؤية موحدة للتغيير. على الرغم من أن المحتجين يتفقون على ضرورة التغيير فإنهم غير أكيدين في ما يخص طبيعة هذا التغيير وآلياته.
لذلك، ما زال الحراك عاجزًا عن تأمين خارطة طريق واضحة تكون قابلة للتطبيق وعملية وتتمتع بتنظيم جيد لتفادي حدوث أي فراغ دستوري محتمل. يبدو أن هذه الاحتجاجات هي أداة سياسية جبّارة، لكنّها ليست فعلًا بديلًا مستداما للنظام القائم.
تنازلات بوتفليقة، "التغيير" التدريجي
وجدت جماعة بوتفليقة نفسها مجبَرةً على القيام ببعض التنازلات المهمة، والتي في حد ذاتها تبدو أنها ستؤدي إلى تحول سياسي تدريجي. في رسالةٍ موجَّهة إلى الأمّة الجزائرية، أعلن بوتفليقة رسميًّا أنه لن يسعى إلى إعادة انتخابه في أي انتخابات مستقبلية. وأُرجئت الانتخابات الرئاسية إلى تاريخٍ غير محدد، ما يعني بشكلٍ أساسي أنها الغيَت. كما قرر الرئيس بوتفليقة تشكيل جهاز مستقل يكون مسؤولًا عن تنظيم الانتخابات. ويمكن اعتبار ذلك من أكبر التنازلات التي أعطاها نظام بوتفليقة للمعارضة. فكانت المعارضة الجزائرية تدعو منذ سنوات إلى تنظيم الانتخابات بشكل مستقل عن مؤسسات الدولة لإنهاء ما تعتبره هذه المعارضة الحلقة المفرغة من التزوير.
شرع بوتفليقة أيضا في القيام بتعديل وزاري حيث عين نور الدين بدوي- صاحب الخبرة الفنّيّة الطويلة- كرئيس وزراء، إلى جانب تعيين رطان لعمامرة كنائبٍ لرئيس الوزراء. كما أعلن بوتفليقة عن بعض التغييرات السياسية الجذرية من خلال المؤتمر الوطني. ومع أن الجزائريين يعتبرون ذلك بمثابة نصف انتصارٍ، ما زالوا غير متيقنين من المستقبل السياسي لبلدهم. أعطى هذا الإعلان المحتجين الطاقة اللازمة لإكمال مسيراتهم.
تُثبت هذه القرارات الجديدة التي اتخذها بوتفليقة أن الضغط الشعبي يستطيع أن يدفع في النهاية النظام السياسي الجزائري "المتعنت" و"الصلب" إلى القيام بتنازلات غير مسبوقة. مع ذلك، تشير هذه التنازلات أن حكّام البلاد يتبعون سياسةً من "التغيير التدريجي": فرغم الضغط الشعبي، لن يخضعوا لكافة المطالب الشعبية دفعة واحدة.
على الرغم من التطمينات التي بثها بوتفليقة، يبدو أن الجزائريين يرفضون مقترحاته نظرا لأنهم لا يثقون في وعود النظام السياسي. علاوة على ذلك، رفضت المعارضة الجزائرية خارطة الطريق المقترحة ودعت إلى إنشاء "لجنة رئاسية" تقود البلاد خلال الفترة الانتقالية. مع ذلك، لا تمتلك المعارضة الثقل السياسي الكافي ولا الدعم الاجتماعي اللازم لتنفيذ خريطة الطريق الخاصة بها بشكل فعال. إن المعارضة ومقترحاتها تعتبران ضحية لانقساماتها الداخلية ونقص التنظيم، ولا يمكن أن تتولى قيادة الجزائر في هذه المرحلة.
أزمة الغموض السياسي
سلّط هذا التحرك الضوء على جيلٍ جديدٍ يتمتع فعلًا بالشجاعة والإبداع ويمارس تحريضًا محقًّا. غير أن صعود جيلٍ جديد يضع الجزائر أمام تحديات عظيمة. فقد تعرّض هذا الجيل الجديد للتهميش لسنواتٍ وهو يفتقر بالتالي إلى الأدوات الصحيحة التي تمكّنه من قيادة البلد في أوقاتٍ صعبة كهذه. رغم أنه ما من شكٍ في أن الشباب الجزائري سيشكّل حتمًا قوّةً كبيرةً للبلاد في المستقبل، يتطلّب الوضع اليوم حلولًا فوريةً ما زال التحرك الشاب بعيدًا عن تحقيقها.
بادئ ذي بدء، يبدو أن كلًّا من النظام السياسي الجزائري والمعارضة الرسمية عاجزان عن قيادة حركة الاحتجاجات الراهنة، عدا عن الفترة الانتقالية. ففي خلال الأسابيع الماضية، رفض الجزائريون ظهور شخصيات قديمة تنتمي للنظام السياسي واعترضوا على أي محاولات من المعارضة لاحتواء الحراك في سبيل تحقيق أجندتها الخاصة. يبدو أنه ما من معسكر محدد، سواء من النظام أو من المعارضة، قادر على استعادة ولاء الشعب وثقته. لذلك، تبقى الجزائر من دون بديلٍ واضحٍ وممنهجٍ تستطيع المضي قدمًا فيه.
إلى ذلك، يتّسم هذا المأزق السياسي بعجز "النخبة" المستقلة عن توفير أي خارطة طريق عملية للمستقبل. فمطالب رحيل النظام الحالي واضحة، لكنّ عدم قدرة نخبة الجزائر على بلورة هذه المطالب ضمن خطة سياسية قابلة للتنفيذ يزيد من غموض الفترة الانتقالية ومن صعوبتها. في الوقت الراهن، لا تقوم النخبة الجزائرية إلا باتباع خط المسيرات متأثرة بالجماهير، وهو ما يتناقض الدور التاريخي الطبيعي المفترض أن تلعبه هذه المجموعة كقوة تنوير.
التطلع إلى الأمام...
بغض النظر عمّا سيحدث لاحقًا، يمكن القول إن الجزائر تغيّرت بشكلٍ جوهري، حيث إن اعتماد الجيش الجزائري خطابًا أكثر دعمًا للتغيير هو بمثابة دليلٌ بحد ذاته على أن التغيير سيحدث حتمًا. كما تمثل التصريحات التي أدلى بها رئيس أركان الجيش الجزائري قايد صالح دليلا على تخلي الجيش عن بوتفليقة، حيث دعا إلى تطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري التي تسمح للمجلس الدستوري بإعلان أن بوتفليقة عاجز عن تولي الرئاسة وبالتالي ينبغي إعفاءه من منصبه. إن فهم كيفية عمل النظام السياسي الجزائري توحي بأن مثل هذا التحرك من الجيش جاء كحل أخير بسبب الجمود السياسي وهو ما يعنى أن قرار الإطاحة ببوتفليقة قد اتخذ بالفعل.
علاوةً على ذلك، يُثبِت واقع المساندة البطيئة لقاعدة الدعم التقليدية الخاصة ببوتفليقة – أي الأحزاب السياسية ومجتمع الأعمال والقوى الأجنبية – للحراك الشعبي أن الأمر مسألة وقت قبل مغادرة بوتفليقة للمشهد السياسي. ومن جهةٍ أخرى، يمكن أن يكون هذا التغيير السياسي الكبير في أكبر بلدٍ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كارثيًّا بالنسبة إلى الاستقرار والأمن الإقليمييْن. لذلك، من أجل إدارة هذا الاضطراب السياسي بشكلٍ مناسب، لا بد من أن يعير المرء انتباهًا خاصًّا إلى الأحداث والتغييرات اللاحقة المحتملة.
تبرز بالطبع حاجةٌ ماسّة إلى الحوار بين حكّام البلد والحراك من أجل التوصل إلى مصالحة حقيقية ومتينة بين الجزائريين. فانتقال قيادة البلاد من الجيل الثوري القديم (المولود قبل ثورة 1954) إلى الجيل الأصغر سنا (من مواليد استقلال الجزائر بعد عام 1962) لا ينبغي أن يقف عائقًا أمام سرعة الفترة الانتقالية واستقرارها، إذ أن مواصلة التنمية وإجراء الإصلاحات في الجزائر يعتمدان على هذه الفترة.
وكنتيجة لعملية انتقال السلطة بين هذه الأجيال، سيشهد العالَم صعود قادةٍ جدد وشبّان في الجزائر. ويتمتع هذا الجيل بذهنية مختلفة عن الذهنية الموجودة اليوم؛ ما سيؤدي على الأرجح إلى فتح أبواب جديدة أمام التعاون الدولي – التي طالما أغلقتها السياسات الحالية في الجزائر – في بلدٍ يشكو من الحاجة الماسة إلى تنويع اقتصاده.
إن التغيير السياسي والتحديات الاقتصادية المصاحبة لهذه الحقبة يعني أن عدة قوى عظمى وإقليمية ستحاول توسيع هيمنتها في منطقة شمال أفريقيا من خلال الجزائر. من بين هذه القوى، ستنافس الصين على الاستثمارات والمشاريع الجديدة لمساعدة الجزائر في أزمتها الاقتصادية. كذلك، ستتأكد روسيا، حليفة الجزائر التاريخية، من أن موقعها كـ "حليفة استراتيجية" ليس مهددًا وستحاول ردع القوى العظمى والإقليمية الأخرى من التدخل في شؤون الجزائر الداخلية. من الأمور المؤكّدة أن هذه الحقبة الجديدة هي فرصة ذهبية لكافة القوى حتى تتنافس على نفوذ طويل المدى في الجزائر وشمال أفريقيا والمتوسط.
في خضم تلك التطورات الأخيرة التي شهدت تدخل الجيش الجزائري في المشهد السياسي، يبدو أن تطبيق المادة 102 التي ستؤدى إلى شغور منصب الرئيس هو مسألة وقت فقط، حيث تشير تصريحات قايد صالح إلى أن الخطوات المقبلة سيتم التعامل معها وفقًا للدستور الجزائري، الذي ينص بوضوح على وجوب إجراء انتخابات رئاسية جديدة في أقل من ستة أشهر. ومع ذلك، لا يزال خيار الفترة الانتقالية يمثل استراتيجية محتملة لتجنب أي مأزق سياسي جديد، خاصة بالنظر إلى الدعوات العديدة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنادى برفض اقتراح صالح والتعهد بمواصلة الاحتجاجات حتى رحيل النظام بأكمله.
بغض النظر عن قرار بوتفليقة، فإن رحيله في ظل غياب إطار سياسي واضح أو بديل سوف يؤدي إلى حدوث فراغ مؤسساتي محتمل. في بلد مثل الجزائر وفي خضم الأزمة الأمنية الإقليمية، فإن الفراغ المؤسساتي يعني انهيار الدولة وتدميرها تلقائيا. في النهاية، قد يؤدي عدم وجود خطة لفترة ما بعد بوتفليقة إلى سيناريو آخر "لدولة فاشلة". لذلك، لا ينبغي أن يكون السؤال الأساسي اليوم هو رحيل بوتفليقة، لكن كيف سنضمن استقرار الجزائر بمجرد مغادرته.
إضافة إلى ذلك، يعتمد مستقبل الجزائر، كدولة ومجتمع، إلى حدٍ كبير على قدرة مختلف القوى السياسية والاجتماعية على التوصل إلى إجماع. من المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة جدلًا سياسيًّا وفكريًّا شديدا حول مسائل أساسية مثل الهوية الجزائرية والنظام السياسي والنموذج الاقتصادي والقضايا الاجتماعية.
من المؤكد أن بعض المجموعات المتشددة والمتطرفة ستحاول استغلال الحراك الشعبي والدعوة لإرساء نموذج اجتماعي محافظ. إن هذه الإصلاحات التي ستعرفها الجزائر، على كافة الأصعدة، قد تُبدّل بنية الدولة وتعيد تحديد شكل مؤسساتها وتدفع المجتمع باتجاه آفاقٍ جديدة. من الناحية الاقتصادية، مع أخذ الأزمة المالية الحالية في الاعتبار، ستُناقَش معظم، إن لم نقل كل، الحلول الواردة لإنقاذ اقتصاد البلد، حتى أنها ستُعتمَد بغض النظر عن مدى إمكانية اتسامها بالطابع الليبرالي.
وبصرف النظر عن التغييرات المستقبلية، فإن الجزائر التي يراها العالم اليوم، ليست هي الجزائر التي كنا نعرفها الشهر الماضي قبل اندلاع الاحتجاجات، حيث يمر هذا البلد بتغييرات كبيرة قد تشكّل إمّا أساس الاستقرار في منطقة شمال أفريقيا إذا تمت إدارة هذه التغييرات بالشكل الصحيح، وإما الوقود المغذي لنشوب نزاعٍ آخر. ورغم انتهاء حقبة بوتفليقة، سيتطلب النظام وقتًا للتغيير لأن تفككه الفوري سيؤدي إلى التدمير التلقائي للدولة الجزائرية. تستلزم هذه المرحلة المعالَجة الحذِرة إذ يبقى التصعيد، ولو أنه ليس فعلًا في مصلحة أحد، من السيناريوهات المخيفة، بل المحتملة.