بعد عدة أشهر من الهدوء النسبي، عاد الشجار القطري مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر ليحتدّ مجدداً بسبب سلسلة من التطورات السريعة، وهي:
· في الحادي عشر من كانون الثاني/يناير، أفادت وكالة الأنباء القطرية بأن حكومة الدوحة رفعت شكوى للأمم المتحدة مفادها أن طائرة مقاتلة إماراتية خرقت الأجواء القطرية لفترة وجيزة في الواحد والعشرين من كانون الأول/ديسمبر.
· في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير، أكّدت قطر أن طائرة نقل عسكرية تابعة لدولة الإمارات حلّقت عبر مجالھا الجوي في طريقها إلى البحرين بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير.
· في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير، ادعى أحد الشيوخ القطريين غير المهمين ويدعى عبدالله بن علي آل ثاني أنه محتجز رغماً عن إرادته في العاصمة الإماراتية أبوظبي. ويشار إلى أن الشيخ عبدالله كان قد التقى خلال شهر آب/أغسطس الماضي بقادة سعوديين في خطوة فُسّرت على أن الرياض تعتبره البديل المفضّل عن حاكم قطر الأمير تميم بن حمد آل ثاني، فإذا بقطر تندد بخطوته هذه، مما دفعه إلى اللجوء إلى المنفى في الإمارات.
· في الخامس عشر من كانون الثاني/يناير، أفادت وكالة أنباء الإمارات أن حكومة أبوظبي تقدمت بشكوى إلى الأمم المتحدة بعد أن اقتربت مقاتلات قطرية من طائرتين تجاريتين إماراتيين كانتا تستعدان للهبوط في البحرين.
· في السابع عشر من كانون الثاني/يناير، أفادت بعض التقارير أن الشيخ المنفي عبدالله سافر إلى الكويت للخضوع لفحوصات طبية في مستشفى عسكري، ما كذّب ادعاءه بأنه عاجز عن مغادرة الإمارات.
لقد اندلعت الأزمة الدبلوماسية الأولية في أيار/مايو 2017 حين زُعم أن وكالة الأنباء القطرية تعرضت للاختراق من قبل قراصنة استخدموها وغيرها من قنوات الدولة الإعلامية لإرسال تقرير خاطئ يقتبس عن الأمير حمد قوله: "لا يوجد سبب وراء عداء العرب لإيران". ومن خلال تجاهلها للانكار القطري النافي لهذه الأقوال، قطعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر رسمياً علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة بعد اسبوعين من ذلك، وفرضت حصاراً اقتصادياً على قطر، وحظرت تحليق الطائرات المدنية القطرية في أجوائها. ثم أعلنت عن لائحة تضمنت ثلاثة عشر مطلباً كشروط مسبقة لاستئناف العلاقات، ومن بينها كبح تمويل الإرهابيين، ووقف البث العدائي لشبكة تلفزيون "الجزيرة" القطرية، والحد من الروابط مع إيران.
لكن صحيفة "واشنطن بوست" أفادت خلال شهر تموز/يوليو بأن الأمارات قد خططت لحادثة الاختراق التي وقعت في أيار/مايو، ومع ذلك استمر الخلاف الدبلوماسي على ما هو عليه. وعلى الرغم من أن السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة وصف تقرير الصحيفة بأنه "كاذب"، إلا أن أهم المعلومات التي توصل إليها التقرير نُسبت إلى مسؤولي المخابرات الأمريكية الذين لم يُكشف عن هويتهم، ومنذ ذلك الحين أقرّ الدبلوماسيون من مختلف أنحاء الخليج بدقة هذه المعلومات.
الغموض غير البناء
تُعزى الأحداث الأخيرة جزئياً إلى الترتيبات المزعزعة لحركة المرور الجوية في الخليج. فالطائرات المدنية المتجهة شرقاً على طول ساحل الخليج الجنوبي تخضع أولاً لسيطرة البحرين قبل أن تسلَّم إدارتها إلى الإمارات. أما قطر فليست معنية بها، ولذلك اضطرت طائراتها إلى التحليق شمالاً فوق المنطقة الخاضعة للسيطرة الإيرانية منذ أن مُنع المراقبون البحرينيون والإماراتيون من التحكم بها. وفي الوقت نفسه، تواصل الطائرات المدنية البحرينية والإماراتية عبور الأجواء القطرية (في أيلول/سبتمبر، راقب كاتب هذه المقالة شاشة رحلة "طيران الخليج" البحرينية التي كان يستقلّها ولاحظ أن الطائرة كانت تحلّق فوق شمال قطر في طريقها إلى أبوظبي. ويؤكّد موقع flightaware.com هذه الخصائص الغريبة وغيرها في ما يخص طرق المرور الخليجية).
هذا وينطوي الحظر على قطر على جوانب مبهمة أخرى. فقبل ثلاثة أيام من كتابة هذه السطور، على سبيل المثال، اشترى كاتب المقال ريالات قطرية عند مركز تصريف العملات في مطار أبوظبي. ومع ذلك، لا ينبغي التقليل من شأن الانشقاقات الحاصلة في الخليج. ففي القسم المخصص للأطفال من "متحف اللوفر" الجديد في أبوظبي، تُعرض خريطة لجنوب الخليج لا تظهر فيها بتاتاً شبه الجزيرة القطرية - وهذا حذفٌ جغرافي ربما يتعارض مع موافقة فرنسا على السماح لأبوظبي باستخدام اسم اللوفر.
وفيما يتعلق بخطر التصعيد العسكري، فليس لقطر على الأرجح أي مصلحة فعلية في هذا السيناريو. إذ أن السعودية أغلقت الحدود البرية الوحيدة لقطر، وبذلك تدرك الدوحة أنها أصبحت اليوم مجرد جزيرة لا تملك الوسائل الموثوقة لتلبية احتياجاتها إلى ما لا نهاية. وفي حين وفّرت لها إيران طريقاً بديلاً لوارداتها الغذائية، إلّا أنّه لا يمكن ضمان أي تعاون إضافي مع طهران أبعد من ذلك. وكما قال دبلوماسي محلي، فإن الروابط السياسية بين قطر وإيران "غير ملحوظة".
هل تتولى الإمارت القيادة؟
يعتقد العديد من الدبلوماسيين في المنطقة أن مَن يوجّه دفة الأزمة ليس الجانب السعودي، بل الزعيم الإماراتي الفعلي ولي العهد الأمير محمد بن زايد. ووفقاً لدولة الإمارات، يواصل والد أمير قطر، حمد، الإضطلاع بدور رئيسي في عملية صنع القرار في البلاد رغم تنازله عن منصبه في عام 2013. إلا أن الدبلوماسيين المحليين ينفون هذه الفكرة نفياً قاطعاً ويصرحون أنهم لم يعودوا يتتبعون ما يعرف بـ "الأمير الأب".
أما من ناحية الافتراض السائد على نطاق واسع بأن الأزمة على وتيرة هادئة بدلاً من تأججها، فقد يكون التصعيد الأخير - سواء كان حقيقياً أم مجازياً - وسيلةً تعيد فيها الإمارات التأكيد على فكرتها بعد الإحراج الذي اعتراها بسبب قضية الشيخ القطري المنفي. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، اتهم رئيس الوزراء المصري السابق أحمد شفيق، أبوظبي أيضاً باحتجازه ضد إرادته بعد أن قضى بعض الوقت في المنفى الإماراتي، ولذلك فإن حساسية الإمارات بشأن هذه الأمور كانت قد وصلت حدتها من قبل.
الرد الأمريكي
يطرح هذا الوضع مشكلة أمام الولايات المتحدة، فيكاد يكون من المؤكد أنها على يقين بما حدث خلال حوادث المجال الجوي حتى لو رفضت حتى الآن التصريح عنها علناً. فمركز العمليات الجوية المشتركة في قاعدة العديد الجوية في قطر يملك شاشة ضخمة قادرة على عرض جميع حركة المرور الجوية من جنوب العراق إلى أفغانستان، ولا شك في أن الطاقم العسكري الأمريكي المؤلف من عشرة آلاف فرد والمنتشر في شبه الجزيرة القطرية يتحلى بإمكانيات تقنية أخرى تتيح له رصد كافة حركات الإقلاع والهبوط العسكرية في تلك المنطقة. وتدّعي الإمارات أن المقاتلات القطرية المعنية بالحادثة الأخيرة المتعلقة بالطائرتين التجاريتين أقلعت من قاعدة العُديد.
وفي الخامس عشر من كانون الثاني/يناير، أعلن البيت الأبيض أن الرئيس ترامب أجرى مكالمة هاتفية مع أمير قطر شكره فيها على جهود الدوحة "لمكافحة الإرهاب والتطرف بكافة أشكاله، بما في ذلك كونها واحدة من البلدان القليلة التي التزمت بمذكرة التفاهم الثنائية". لكن لم يُفَد عن أي حديث مماثل بين البيت الأبيض وقادة الإمارات - وهذا ليس بالأمر المستغرب نظراً إلى استياء واشنطن الظاهري من رفض الإماراتيين معالجة الأزمة الخليجية. ومن جانبهم، قد يشعر الإماراتيون بالامتعاض من اللهجة الودية التي استخدمها الرئيس الأمريكي حول قطر. ولكن في كافة الأحوال، يجب على واشنطن التنبه تماماً إلى الجوانب الشخصية التي تنطوي عليها الأزمة، بما فيها العداء الشديد الذي قد يتطلب التعامل الحذر لتجنب أي تصعيد إضافي.
سايمون هندرسون هو زميل "بيكر" ومدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن. وقد عاد لتوّه من رحلة بحثية إلى الإمارات وسلطنة عُمان وقطر.