- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3910
العلاقات الإسرائيلية التركية توشك على القطيعة
على الرغم من الوساطة الأمريكية، قد تؤدي عملية اغتيال أحد قادة "حماس" في طهران إلى تصلب موقف أنقرة ضد إسرائيل وتحفيز سلسلة فتاكة من الأعمال الانتقامية على المستويين الدبلوماسي والاقتصادي.
لأسباب سياسية وشخصية، قد يمثل مقتل زعيم "حماس" إسماعيل هنية قبل حوالي اسبوعين نقطة تحول في علاقات تركيا مع إسرائيل. فبالإضافة إلى العلاقة التي تربط أنقرة بـ"حماس" ودعمها لها منذ ما يقرب من عشرين عاماً، كان الرئيس رجب طيب أردوغان يعرف هنية جيداً، وكان يعامله كأحد أفراد أسرته ويؤمّن له الحماية. وفي الواقع، كان أردوغان قد دعا هنية لإلقاء كلمة أمام البرلمان التركي قبل وقت قصير من مقتله، مما تسبب بصدمة وحرج مضاعفين نتيجة اغتياله المفاجئ. ومن هنا، من شبه المؤكد أن أردوغان سيتعامل مع عملية الاغتيال كإهانة شخصية ويطلب من بيروقراطيه تشديد موقف الحكومة تجاه إسرائيل. وسوف يدعم صناع القرار الأتراك في السياسة الخارجية والشعب التركي هذا التحول، لأن العديد منهم اعتبروا بالفعل أن الحملة الإسرائيلية ضد "حماس" في قطاع غزة هي في غير محلها، وتم تنفيذها بشكل سيء، وتشوبها وصمة عار متمثلة بالإصابات في صفوف المدنيين.
وكخطوة عقابية أولى، انضمت تركيا إلى قضية "محكمة العدل الدولية" التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 7 آب/أغسطس، بهدف محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في غزة. وعلى الرغم من أن تقرير أنقرة لـ "محكمة العدل الدولية" تجنب الالتزام بقبول حكم المحكمة النهائي على أنه ملزم وفقاً لبعض التقارير، إلّا أن هذه الخطوة الدبلوماسية رفيعة المستوى تشكل إشارة إلى أن إجراءات تركية أخرى ستُتخذ عما قريب، مع تداعيات محتملة على السياسة الأمريكية والعلاقات الإسرائيلية التركية على حد سواء.
عقدين من العلاقات مع "حماس"
أجرى أردوغان للمرة الأولى اتصالات رسمية مع "حماس" في وقت مبكر من فترة حكمه الطويلة كرئيس لتركيا، حيث دعا زعيم الحركة آنذاك خالد مشعل لزيارة أنقرة في عام 2006. وفي ذلك الوقت، كانت تركيا تتمتع بعلاقات ممتازة مع إسرائيل، ترجع جذورها إلى اعترافها بالدولة اليهودية عام 1949 (على مدى عقود، كانت تركيا الصديق الوحيد لإسرائيل في دولة ذات أغلبية مسلمة). وشهدت العلاقات أيضاً نمواً كبيراً خلال التسعينيات، شملت زيادة كبيرة في السياحة الإسرائيلية إلى تركيا، واتفاقيات تجارة حرة متنوعة، وزيارات رفيعة المستوى، وتعاون استخباراتي وعسكري وثيق.
لكن هذه العلاقات القوية لم تُترجم إلى موقف مناهض للفلسطينيين، فمن منظور تاريخي، دعمت تركيا القضية الفلسطينية حتى في الوقت الذي طوّرت فيه علاقات جيدة مع إسرائيل. على سبيل المثال، أقامت علاقات رسمية مع "منظمة التحرير الفلسطينية" في أواخر السبعينيات وكانت من أوائل الدول التي اعترفت بـ "دولة فلسطين" في المنفى في عام 1988. كما دعمت أنقرة السلطة الفلسطينية بعد تأسيسها كجزء من "اتفاقية أوسلو" للسلام في التسعينات.
وقد شهدت هذه الديناميكية تحولاً ملحوظاً بعد مطلع القرن، مما يرجع جزئياً إلى الاشتباكات العسكرية المتعددة بين إسرائيل و"حماس"، ولكن أيضاً إلى واقع أن أردوغان أعطى الأولوية للعلاقات مع الحركة على حساب الفصائل الفلسطينية الأخرى، بما في ذلك "فتح"، الحزب الرئيسي في السلطة الفلسطينية. فبخلاف إسرائيل والولايات المتحدة والعديد من الحكومات الأخرى، لا تَعتبر أنقرة "حماس" جماعة إرهابية غير شرعية، بل صوتاً شرعياً للشعب الفلسطيني ولاعباً رئيسياً في النضال ضد إسرائيل. وبالتالي، بدأت أنقرة باستضافة مسؤولي "حماس"، بشكل شبه سري في البداية ثم بشكل علني (على الرغم من امتناعها عن استضافة كبار قادة الحركة).
وقبل فترة طويلة من الحرب الحالية في غزة، كانت كل دورة من القتال في القطاع تؤدي إلى تقويض حسن النية التركية تجاه إسرائيل، بينما كانت جهود أنقرة لمساعدة "حماس" تثير غضب إسرائيل بشكل متزايد. ونتيجة ذلك، تراجعت العلاقات الثنائية تدريجياً من كونها ممتازة إلى شبه مقطوعة. واتسعت الفجوة لتصبح هوة في عام 2010، بعد أن أبحر "أسطول دولي" من السفن المملوكة للقطاع الخاص من تركيا بهدف إنهاء الحصار الإسرائيلي على غزة الخاضعة لسيطرة "حماس". وعندما صعدت قوات الكوماندوز الإسرائيلية على متن السفن، اندلعت اشتباكات وقُتل ثمانية مواطنين أتراك، إلى جانب مواطن يحمل جنسية مزدوجة أمريكية تركية. ثم قطع البلدان بعد ذلك علاقاتهما الدبلوماسية، والتي لم تتم استعادتها بالكامل حتى كانون الأول/ديسمبر 2022 بعد سنوات من الوساطة الأمريكية. وفي إطار عملية إعادة الضبط هذه، التزمت تركيا بالحد من وجود "حماس" على أراضيها، ولكن الحرب الحالية في غزة واغتيال هنية يهددان بتقويض كل هذا التقدم ودفع العلاقة إلى قعر الهاوية. وستلاقي واشنطن هذه المرة صعوبة في انتشالها من قعر الهاوية.
إجراءات أنقرة العقابية المحتملة
اتخذت تركيا إجراءات مختلفة ضد إسرائيل منذ بدء الحملة العسكرية على غزة في العام الماضي، ومن المتوقع أن تكثف هذه الإجراءات في أعقاب حادثة هنية. وعلى الصعيد الدبلوماسي، انضم أردوغان إلى مسؤولين آخرين في توجيه خطاب قاسٍ إلى إسرائيل طوال الحرب، بما في ذلك بيان صدر في 13 أيار/مايو يتهمها بارتكاب إبادة جماعية. وعلى الصعيد الاقتصادي، أصدرت أنقرة مجموعة من القيود التجارية في 9 نيسان/إبريل، ثم حظرت جميع أنشطة الاستيراد والتصدير مع إسرائيل في 2 أيار/مايو، معلنةً أن المقاطعة ستستمر إلى حين "يتم تأمين وقف دائم لإطلاق النار ومساعدات إنسانية في غزة".
ورداً على مقتل هنية، بإمكان تركيا توسيع مجموعة أدواتها ضد إسرائيل بعدة طرق:
عرقلة التعاون مع حلف شمال الأطلسي. بالإضافة إلى الانضمام إلى قضية "محكمة العدل الدولية"، من المرجح أن تفرض تركيا وقفاً كاملاً لتعاون "الناتو" مع إسرائيل. ويتطلب التحالف موافقة الأعضاء بالإجماع على جميع القرارات، لذلك تمكنت أنقرة وفقاً لبعض التقارير من الاعتراض على أشكال التعاون المختلفة منذ بدء حرب غزة (مثل الاجتماعات والتدريبات المشتركة). وعلى الرغم من أنها لم تصل إلى حد الوقف الكامل للتعاون وسمحت بتمرير بعض التدابير الرمزية (مثل البيانات المشتركة حول هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر)، قد تقرر الآن استخدام حق النقض بشكل دائم ضد جميع المبادرات ذات الصلة بإسرائيل في المستقبل.
العقوبات التجارية والقيود على المجال الجوي. بإمكان أنقرة أن تتشدد في مقاطعة 2 أيار/مايو، مما يسد الثغرة التي سمحت للعديد من الشركات التركية باستخدام دول ثالثة (مثل اليونان) لمواصلة التجارة مع إسرائيل. وبإمكانها أيضاً أن تقطع تدفقات الطاقة من ميناء جيهان على البحر الأبيض المتوسط، حيث يتم حالياً شحن النفط الذي يتم نقله من أذربيجان عبر خط أنابيب إلى إسرائيل. وأخيراً وليس آخراً، قد تفكر تركيا في إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات التجارية المتجهة من إسرائيل وإليها.
الخيارات "النووية". يمكن أن تكون الإجراءات المحتملة الأخرى خطيرة بما يكفي لقطع العلاقة إلى أجل غير مسمى. على سبيل المثال، يرسو أسطول جديد في إسطنبول منذ أشهر بانتظار الحصول على إذن بالإبحار إلى غزة وتقويض الحصار الإسرائيلي. بإمكان تركيا أن تقرر منحه الضوء الأخضر. ونظراً لأن القطاع يُعتبر حالياً منطقة حرب ناشطة، فمن المؤكد أن إسرائيل ستواجه هذا الأسطول عسكرياً، مما قد يؤدي على الأرجح إلى تكرار المواجهة القاتلة التي وقعت عام 2010 أو إلى ما هو أسوأ من ذلك. ويمكن أن تشمل الخيارات "النووية" الأخرى استضافة القيادة العليا لـ"حماس" بشكل علني ورسمي أو تعليق العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
خيارات إسرائيل
تتمثل إحدى الديناميكيات المهمة التي قد تحد من الانتقام التركي برغبة أردوغان في الاضطلاع بدور في غزة "في اليوم التالي". فأنقرة تحرص على المشاركة في إعادة إعمار القطاع، وفهم السياسة الفلسطينية، والتوسط في حل طويل الأمد للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، لمساعدة الشعب الفلسطيني وترسيخ مكانتها كقوة إقليمية. وبالتالي، إذا أرسلت إسرائيل إشارات من خلال وسطاء إقليميين (مثل الإمارات العربية المتحدة) مفادها أن تركيا قد تلعب دوراً في تشكيل مستقبل غزة، قد يتردد أردوغان في تطبيق العقوبات الاقتصادية الأقسى أو الخيارات "النووية" المذكورة أعلاه.
ولكن حتى في هذا السيناريو، ستواصل تركيا انتقاد إسرائيل دولياً، وقد تبدي القدس عدم استعدادها لتحمل المزيد من التوبيخ الدبلوماسي من دون الرد. على سبيل المثال، قد تقرر انتقاد أنقرة بدورها، بقوة وثبات، أو اتخاذ إجراءات تهدد المصالح التركية في شرق البحر الأبيض المتوسط، مثل تدعيم تحالفها مع اليونان، مما قد يثير غضب أردوغان لدرجة أنه قد يلجأ إلى فرض عقوبات أعمق في النهاية، من بين خيارات جدية أخرى. ومن شأن هذا التصعيد بدوره أن يؤدي إلى مشاكل في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، خاصةً في الكونغرس الأمريكي، حيث تكون الأصوات المؤيدة لليونان والمؤيدة لإسرائيل أقوى تقليدياً من الأصوات المؤيدة لتركيا. ومن شبه المؤكد أن هذه التطورات مجتمعةً ستنقل العلاقة بين إسرائيل وتركيا إلى ما بعد نقطة الإصلاح.
ولا تملك الولايات المتحدة سوى القليل من الأدوات المباشرة والفعالة بشكل فوري لمنع حدوث قطيعة بين إسرائيل وتركيا، لكنها بحاجة إلى استعراض المجموعة الكاملة للأدوات نظراً للعواقب متعددة الجوانب الخطيرة المحتملة. ويكمن أحد الخيارات في التشاور مع الإمارات العربية المتحدة، وهي حليف كل من إسرائيل وتركيا ويمكنها تقديم المشورة لهما لتجنب الخطوات التي قد تدمر العلاقات المتبادلة بينهما. ويقوم خيار آخر على تخصيص مساحة مسبقاً للمنظمات غير الحكومية التركية التي تم التدقيق فيها للمشاركة في إعادة إعمار غزة في نهاية المطاف، من خلال العمل مع إسرائيل وأصحاب المصلحة الآخرين مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر والاتحاد الأوروبي.
يجب على إدارة بايدن أيضاً تعزيز الرسائل بين مسؤوليها على مستوى مجلس الوزراء ونظرائهم الأتراك والإسرائيليين. على سبيل المثال، عليهم أن يطلبوا من المسؤولين الإسرائيليين الامتناع عن التصريحات العامة التحريضية من الناحية السياسية مثل التغريدة الأخيرة لوزير الخارجية يسرائيل كاتس، التي وصف فيها أردوغان بأنه "ديكتاتور معادٍ للسامية" وحاول على ما يبدو تأجيج المنافسة بين الرئيس ومعارضته المحلية، وهي استراتيجية من شأنها أن تخلق ردود فعل عكسية لدى الجمهور التركي الحساس عن حق تجاه التدخل الأجنبي في سياساته. وبعد القطيعة السابقة في عام 2010، استغرق إعادة بناء العلاقات بين إسرائيل وتركيا من قبل الإدارات الأمريكية المتعددة أكثر من عقد من الزمن، ولذلك يجب على واشنطن أن تفعل ما في وسعها للحفاظ على السلام بين حليفين أساسيين.
الدكتور سونر چاغاپتاي هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "بايير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن.