- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3606
العلاقات الفرنسية - التركية: تحوّل من خصوم إلى أصدقاء؟
عززت حرب أوكرانيا إلى حد كبير التعاون الدبلوماسي والعسكري بين تركيا وفرنسا، إلّا أنه يجب التزام الحذر في التعامل مع الخلافات المستمرة بشأن سوريا وليبيا وقضايا البحر المتوسط، إذا كان لهذا التقارب أن يستمر.
في الشهر الماضي، فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجميع بإعلانه عن خطة "فرنسية - يونانية - تركية" مشتركة لضمان وصول دعم إنساني إلى مدينة ماريوبول الأوكرانية المحاصرة. وعلى الرغم من العراقيل الروسية التي حالت في نهاية المطاف دون تبلور العملية، إلا أن المبادرة أشارت إلى تغيير في نبرة العلاقات الفرنسية - التركية بعد سنوات من التوترات. ومن خلال تثبيت الشعور بـ "الواقع الروسي" على مستوى حلف "الناتو"، أعادت الحرب الدائرة في أوكرانيا إحياء تعاون أنقرة مع باريس. إلا أن الحفاظ على هذا التقارب سيشكل تحدياً نظراً إلى انعدام الثقة القائم منذ فترة طويلة بين البلدين والخلافات بينهما.
علاقة صعبة
على مدى العقد الماضي، تعارضت المصالح الفرنسية والتركية في أزمات متعددة شهدتها المنطقة. وحين انضمت فرنسا إلى الحملة الدولية لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» في شمال سوريا اعتباراً من عام 2014، عارضت تركيا التعاون العسكري للتحالف مع «وحدات حماية الشعب» الكردية. وكان غضب أنقرة نابعاً من واقع أن هذه الجماعة السورية تتفرّع من «حزب العمال الكردستاني» - عدو تركيا اللدود المتمرد على أراضيها والكيان المصنف إرهابياً من قبل الولايات المتحدة و"الاتحاد الأوروبي". ومنذ ذلك الحين، هاجمت القوات التركية ووكلاؤها هذه «الوحدات» في عدة مناسبات، مما أثار اعتراضات باريس.
وبالمثل، اعترضت فرنسا على اثنتين من الخطوات العسكرية التي اتخذتها أنقرة في أماكن أخرى في المنطقة ولا سيما إرسال جنودها ومرتزقة من السوريين إلى ليبيا، ونشر سفن تابعة للبحرية في شرق البحر المتوسط، في تحدٍ للحقوق السيادية اليونانية والقبرصية المعلنة. ومع ذلك، دافع المسؤولون الأتراك عن هذين المسعيين. فقد زعموا أن جلّ ما فعلوه في ليبيا هو تقديم الدعم للحكومة المعترف بها دولياً، وأنهم كانوا يمارسون حقهم في شرق البحر المتوسط في التصدي لأنشطة يعتبرونها انتهاكاً لحدود تركيا البحرية المزعومة وعلى سيادتها.
وبلغ الخلاف ذروته في تشرين الأول/أكتوبر 2020 بعد اغتيال المدرس الفرنسي صامويل باتي على يد متطرف جهادي، وقد أحيت هذه المأساة الجدل حول النموذج "العلماني" الذي يوجّه الكثير من عمليات صنع السياسات المحلية في فرنسا. ووصفت أنقرة هذا النموذج بالسبب الرئيسي وراء مقتل باتي واستياء المسلمين الواسع النطاق في البلاد، حتى أنها دعت إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية. أما القشة التي قصمت ظهر البعير، فكانت تشكيك الرئيس رجب طيب أردوغان بـ"الصحة العقلية" لماكرون، مما دفع بفرنسا إلى استدعاء سفيرها.
وناهيك عن تأثير هذه الخلافات عل الطرفيْن، فقد أضرّت بشدة بتماسك حلف "الناتو". على سبيل المثال، بعد دخول القوات التركية إلى شمال سوريا في إطار "عملية نبع السلام" التي شنتها في تشرين الأول/أكتوبر 2019 ضد «وحدات حماية الشعب»، نعى ماكرون "الموت الدماغي" لحلف "الناتو"، مشيراً إلى عجز أنقرة عن تنسيق هذا القرار الاستراتيجي المهم مع الحلف. وفي تموز/يوليو 2020، دفع حادث بحري عدائي بين فرقاطة فرنسية وسفن تابعة للبحرية التركية قبالة ساحل ليبيا إلى قيام باريس بتعليق مساهمتها في "عملية الحرس البحري" التي ينفذها حلف "الناتو" في البحر المتوسط.
وفي غضون ذلك، تفاقمت التوترات بين تركيا ودول أعضاء أخرى في حلف "الناتو". ففي واشنطن، أسفر شراء أنقرة لمنظومة الصواريخ الروسية "أس-400" عن عقوبات فرضها الكونغرس الأمريكي وعن طرد تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة من طراز "أف-35". وفي "الناتو"، هددت أنقرة برفض الخطط الدفاعية المخصصة لدول البلطيق وبولندا ما لم يصنّف الحلف القوات الكردية في سوريا على أنها كيانات إرهابية (إلّا أنها رفعت هذا "الفيتو" في النهاية).
إحياء التعاون بسبب أوكرانيا
على الرغم من ظهور الدلائل الأولية على التقارب الفرنسي التركي خلال "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" الذي عُقد في آب/أغسطس 2021، إلا أن غزو أوكرانيا سرّع الموضوع. فسرعان ما اتخذت حكومتا البلديْن إجراءات صارمة لمواجهة روسيا وتعزيز وحدة "الناتو". وأقدمت باريس على زيادة مساهمتها العسكرية بشكل ملحوظ في قوات الردع والدفاع لدى الحلف، كما تزعمت ردّ أوروبا السريع كرئيسة لـ "مجلس الاتحاد الأوروبي". وبالمثل، وقف المسؤولون في أنقرة إلى جانب أوكرانيا على الرغم من علاقات بلادهم الوثيقة مع موسكو - فقد أدانت تركيا الغزو، وعززت مساعدتها العسكرية لكييف (على وجه الخصوص من خلال تسليم طائرات بدون طيار من طراز "بيرقدار تي بي 2")، واتخذت الخطوة التاريخية بإغلاق مضائقها جزئياً أمام السفن الحربية الروسية.
وقد رافق هذه الخطوات تنسيق دبلوماسي وعسكري طيلة فترة الحرب. فقد اجتمع ماكرون وأردوغان على هامش قمة "الناتو" في آذار/مارس، وكان وزراء الدفاع والخارجية في البلدين على اتصال وثيق. وفي آذار/مارس أيضاً، زار مسؤولو الدفاع الفرنسيون أنقرة لمناقشة سبل تعزيز العلاقات الدفاعية، في حين أجرت السفن الفرنسية والتركية مناورة مشتركة في شرق البحر المتوسط من أجل "تعزيز التعاون بين القوات البحرية المتحالفة للبلدين".
وجاء استعداد باريس وأنقرة لوضع مشاكلهما الماضية جانباً والتركيز على وحدة حلف "الناتو" نتيجة التحول الجذري في العلاقات بين روسيا والحلف. وتعتبر فرنسا على وجه الخصوص أن دور تركيا أساسياً لتحقيق الاستقرار في البحر الأسود، وأشادت بقرار أنقرة بتنفيذ "اتفاقية مونترو". كما تدعم باريس جهود الوساطة التركية بين روسيا وأوكرانيا. ومن جانبها، تقدر أنقرة الالتزام الفرنسي القوي بالموقف العسكري لحلف "الناتو" (بما في ذلك في البحر الأسود) وحشدها للدعم الإنساني لأوكرانيا.
يُذكر أن لأردوغان أسباباً داخلية قوية لتبني هذا التقارب أيضاً. فمنذ عام 2018، أدّت المشاكل الاقتصادية في البلاد إلى تقليص قاعدته السياسية، وبالتالي، وجّهت الكثير من قراراته السياسية. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها منذ سنوات طويلة لتغيير هوية تركيا من علمانية وأوروبية إلى إسلامية وشرق أوسطية، إلّا أن اقتصاد بلاده لا يزال مرتبطاً بأوروبا بفضل "الاتحاد الجمركي" بين تركيا و"الاتحاد الأوروبي" القائم منذ عام 1996. وبناءً على ذلك، يرغب أردوغان في أن تطبق فرنسا وغيرها من الجهات الفاعلة الرئيسية في "الاتحاد الأوروبي" تدابير ترسّخ "الاتحاد الجمركي" - أو على الأقل أن توافق على تدابير مستقبلية - قبل دورة الانتخابات في تركيا عام 2023. فمن وجهة نظره، إن تعزيز التجارة والاستثمار أمر حاسم لإعادة بناء قاعدته وتحسين حظوظه الهشة في الانتخابات.
هل التقارب مستدام؟
إذا استمر هذا التقارب، فقد يساعد فرنسا وتركيا على مواجهة التحديات المشتركة مع تعزيز مكانة حلف "الناتو" في منطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط. ففي سوريا على سبيل المثال، تحتل الآن باريس وأنقرة مكانة تخوّلهما تعزيز الحوار بينهما بشأن المساعدات الإنسانية والمصير السياسي للأكراد خارج «وحدات حماية الشعب». وفي ليبيا، يبدو أنهما تتشاركان أهداف الترويج للانتخابات ومنع نشوء فراغ آخر في السلطة؛ وإذا ما تحسنت علاقاتهما بشكل أكبر، فقد تتمكنان من النظر في المزيد من القضايا الأكثر خطورة مثل تفكيك الميليشيات. وفي منطقة البحر المتوسط، قد يؤدي تبديد التوترات الفرنسية التركية إلى تحسين تبادل المعلومات بين العمليات البحرية لـ "الاتحاد الأوروبي" وحلف "الناتو"، بدءاً بعمليتيْ "إيريني" و"الحرس البحري". وهذا بدوره يمكن أن يمنح الحلف مكانة أكثر قوة وتماسكاً على جانبه الجنوبي الشرقي في وجه الوجود العسكري الروسي المتزايد.
وإلى جانب المبادرات الإقليمية، قد تكون أنقرة وباريس أيضاً في وضع أفضل لإقامة تعاون ثنائي أوسع نطاقاً. ويُعدّ الدفاع الصاروخي مساراً واضحاً يمكن سلوكه - فإحياء برنامج شراء منظومة "سامب-تي" (منظومة صواريخ أرض-جو تُطلق من قاعدة أرضية) يمكن أن يمنح تركيا بدائل عن منظومة "أس-400" المثيرة للجدل، من بين مزايا أخرى. ووقعت أنقرة عقداً في عام 2018 للإنتاج المشترك لهذه المنظومة مع الكونسورتيوم الفرنسي-الإيطالي "يوروسام"، إلا أنه تمّ وقف العملية لاحقاً بسبب خلافات سياسية مع باريس في أعقاب "عملية نبع السلام" التركية.
ومع ذلك، يمكن لعوامل أخرى أن تعرقل هذا التقارب. ففي 24 نيسان/أبريل، يعود الناخبون الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المحتدمة، وقد تؤدي النتائج إلى تغيرات في السياسة الخارجية، ولا سيما إذا خسر ماكرون. ففي سوريا، لا تزال باريس تعتبر الأكراد بمثابة شركاء رئيسيين لمنع عودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي ليبيا، اتهم مسؤولون فرنسيون تركيا بمواصلة انتهاك التزاماتها بعدم التدخل. إلا أن أنقرة تعتبر وجودها العسكري في ليبيا مشروعاً وتشك في أن فرنسا متحيّزة ضد الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس. واستناداً إلى هذه النظرة التي تختلف حولها باريس، لا يزال الفرنسيون يفضلون الفصائل المتمركزة في طبرق، والتي كانت متحالفة مع قوات الجنرال خليفة حفتر المدعومة من روسيا. وانتقدت أنقرة الشراكة الأمنية المتنامية بين فرنسا واليونان.
الخاتمة
في الوقت الحالي، تدعم السلطات العليا في فرنسا وتركيا التقارب على ضوء الحرب في أوكرانيا وغيرها من التطورات، لذلك على واشنطن تشجيع هذا الاتجاه رغم العراقيل الكبيرة. وسيشكّل الدعم الأمريكي المنفصل للمصالحة الناشئة بين حليفيْن رئيسييْن في "الناتو" خياراً ذكياً في عصر تناقس القوى العظمى، مما يعزز الجبهة الموحدة ضمن المجتمع عبر الأطلسي.
لويس دوجيت-جروس هو زميل زائر في معهد واشنطن ودبلوماسي في "الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية". بيير موركوس هو زميل زائر في "برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" والنائب السابق لرئيس قسم "الشؤون الاستراتيجية والأمن السيبراني" في السلك الدبلوماسي الفرنسي. سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن. الآراء الواردة في هذا المقال شخصية بحتة.