- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
«العلوي في المجتمع» السوري: صمتان مدويان في «إعلان وثيقة إصلاح هوياتي»
الوثيقة الصادرة عن «مجموعة الابتدار العلوي» والتي تداولتها الصحف العالمية، مع اعتبار كاتبيها من أعيان الطائفة العلوية السورية، هي وثيقة تاريخية، بغضّ النظر عن أبعادها السياسية. وهي إذ تقتضي التفاعل معها بما يظهر إيحابياتها، ويطالب كاتبيها بمتابعة النظر بما هو أقل إيجابية فيها، فإنها بشكل خاص تتطلب المساءلة حول حالتين من الصمت المدوي في طياتها، الأولى بشأن الآخر، والثانية بشأن الذات.
أما الصمت الأول، فقد اجتهدت الصحافة العالمية بمحاولة إنكاره، إذ سعت في استقراء بذور خلاف داخل هذه الوثيقة بين النظام السوري والطائفة العلوية، والتي تشكل الركيزة الأولى له في حشد شبابها ورجالها لمعاركه. وأقرب ما يكون إلى النجاح في هذا الصدد هو في إبراز عبارة «فبقية السوريين يبتدرون بالانتفاض، قوة الغضب المحق». إلا أن هذه العبارة تكاد أن تكون استطرادية. وقد وردت وحسب في سياق توصيف حال العلويين إذ تتابع الوثيقة «أما العلويون، فيبتدرون بالإصلاح الهوياتي، قوة سلطة الضمير الجماعي».
والواقع هو أن هذه الوثيقة، إذ تتطرق نظرياً وتاريخياً إلى حال الدولة السورية، لا تبدو معنية بمساءلة الحاضر أو الماضي القريب، بل باستثناء هذه الإشارة العرضية، تقع بكاملها خارج سياق الحدث السوري ظاهراً، رغم أن هذا الحدث كان دون شك الدافع إلى تشكيلها. وتغييب هذا السياق، بما ينضوي عليه من مآسي تستدعي الرفع، يحسب على الوثيقة، إذ يتعارض مع روح المصارحة والمصالحة، مع الذات والآخر، والتي يبدو أن النص يسعى إليها.
والمسألة هنا ليست لاستثمار بوادر خلاف بين النظام وحاضنته، فالخلاف قائم وإن لم يكن معلناً. حيث أن القِيَم التي يجاهر بها مؤلفو الوثيقة لا تتيح المجال للوقوف في صف النظام، بما ارتكبه من جرائم وأرساه من مظلوميات وأثاره من غرائزيات، وهذا حتى لو كان عموم السوريين السنة من التكفيريين القتلة، وهم ليسوا كذلك بتوصيف الوثيقة نفسها.
وكي لا يكون سرد المبادئ استدعاءاً غير معني بالتطبيق بما يعرّضه للاتهام بالتوظيف، فإنه لا يمكن الفصل بين الولاء للحق والبراء من الباطل. النظام مجرم، برئيسه وأفراده ومؤسساته، ولا بد من عدالة وعقاب للجرائم التي ارتكبت بحق الإنسان والوطن والإنسانية. وهذه لا محالة نقطة انطلاق أولية في مقاربة الحالة السورية اليوم من حيث القِيَم، وإن تخلّفت السياسة وصائغوها لأغراض فن الواقع عن المجاهرة باليقين.
وفي حين أن توريط النظام للطوائف والعشائر والشرائح المدينية في الجرائم التي اقتضاها بقاؤه لم ينطلق من قناعة طائفية أو ولاء عقائدي، إلا أن الواقع هو أنه ترغيباً وترهيباً قد زجّ بنسبة مرتفعة من السوريين العلويين في أفعاله مؤسِّساً لوصف يجعل من الانتفاضة على الظلم والظالم حرباً سنية علوية، وهو وصف قاصر ومجحف دون شك، غير أنه وجد رواجاً في الأوساط السنية والعلوية كما في غيرها، واستقدم للانتفاضة بعد انتقالها إلى المرحلة المسلحة من المقاتلين السنة من خارج سوريا أعداداً كبيرة، استنزفت طاقتها وحرّفت مسارها، بغضّ النظر عن النوايا، ما يشكل نجاحاً للنظام، تجسّد في إطالة أمد المأساة وتأجيل السقوط المحتوم.
فوثيقة «الإصلاح الهوياتي» تعتمد الإنكار الضمني في شأن الطبيعة الطائفية للمقتلة في سوريا من جانبيها، فلا هي تتطرق إلى عمق التوريط للسوريين العلويين في جرائم النظام، ولا هي تولي مخاوف العلويين حقّها من مواطنيهم السنة وليس فقط من المجاهدين المهاجرين، ساعة استحقاق سقوط النظام. ورغم الفائدة التي قد تكون مرجوة من هذا التصوير، لجهة التحضير لصلح مدني اجتماعي، إلا أنه يناقض التجربة المعاشة خلال الأعوام الماضية وهو بالتالي ليس قادراً أن يترسخ، بل من شأنه وحسب أن يطلق مرحلة تكاذب يزدوج فيها الخطاب بين عام يزعم الصلح وخاص يعبّئ لانفجار لاحق.
بوسع كاتبي الوثيقة أن يتجاوزوا أوجه النقد السابقة من خلال الإشارة إلى الجمهور المقصود بوثيقتهم، فليس هو عموم السوريين أو غيرهم، بل العلويون تحديداً. فالمصالحة الوطنية، بما فيها الإفصاح عن كافة المخاوف والمظالم، هي مسألة لزمن لاحق، فيما اللحظة الآنية هي لتوضيح الهوية.
ولكن الوثيقة تتعسّف في سعيها إلى تأطير الهوية. فالعلويون، من منظورها، ليسوا طائفة واحدة وحسب، بل العلوية هي كذلك مذهب عقدي واحد. فلا اعتبار بالتالي للتعدد والخلاف وعدم الانتظام في الإطار الذي تقرّره الوثيقة. والمسألة ليست فقط مسألة ملحدين ولادينيين وعلمانيين من الذين يحصّنون الدين بالخاص، بل هي تحديداً أصحاب القناعات والاعتقادات الدينية العلوية غير المتوافقة مع التعميم الاختزالي التي تشهره الوثيقة. فوفق هذا التعميم، العلوية هي النهج الثالث في الإسلام، إزاء السنية التي تشكل النهج الفقهي النقلي، والشيعية التي تجسد النهج الفقهي العقلي. فالعلوية سرّانية عرفانية غير مقيّدة بالفقهية.
وفي هذا التصوير تسطيحات متداخلة. فالعوالم الفكرية السنية والشيعية وكذلك العلوية، بعيدة كل البعد عن إمكانية إخضاعها لاختزالات مجحفة كهذه. ومصطلح السنة اليوم يقابله ما عرف في صدر الإسلام باسم الجمهور. فحصر السنية بالفقه النقلي قد يروق لبعض علماء السلفية، ولكن هؤلاء، بغضّ النظر عن قناعاتهم الذاتية، ليسوا أوصياء على السنية المُعاشة، ولا حتى على السلفية المعاشة، فهذه من خلال التزكية تلتقي من حيث تدري أو لا تدري مع الصوفية. ولا بد هنا من التنويه أن الظاهرة العرفانية الأعرق والأوسع والأكثر انتشاراً وتشعباً في السياق الإسلامي هي تحديداً الصوفية ذات الحاضنة السنية. فالوثيقة، إذ تدين ابن تيمية في فتواه، تلتزم تعريف بعض من يجاري ابن تيمية في حصر المعيارية السنية بالمنهج السلفي الفقهي النقلي، في حين أن بلاد الشام كانت ولا تزال شاهدة على ثراء التجربة الدينية السنية الفقهية وغير الفقهية وتعددها، من الأوزاعي إلى أبو العلاء المعرّي وابن عربي. وكذلك حال العالم الفكري الشيعي، حيث الأخبارية والأصولية والشيخية والكشفية وولاية الفقيه محطات، والعرفان كما الاجتهاد أداة منهجية. وكأن الوثيقة، لإبراز التعارض، تقرر الغلبة لمحطة وأداة على حساب غيرها.
على أن الاختزال الأكثر شدّة هو ما يطال العلوية نفسها. فرغم إعلان الوثيقة أن الإصلاح الهوياتي المقصود لا يهدف إلى إصلاح ديني، فإن التصور الديني الذي تسقطه الوثيقة على العلوية، تشذيباً وتهذيباً، إهمالاً وإلصاقاً، هو فعل تشكيل ديني صريح. ومن حقّ المفكرين طبعاً أن يستخلصوا ما يعتبرونه جوهر إيمان مذهبهم وأن يعيدوا صياغته بلغة جديدة، ثم أن يتابعوا انسجامه مع السجل التاريخي، بإلقاء الضوء على ما اتفق وحجبه عمّا اختلف. إلا أن الصدق مع الذات يتطلب الإقرار عندها بأن هذا فعل إصلاح ديني وليس متابعة استقرائية بحتة.
والباطنية في سعيها لتبين المستور، كما التصوف أو العرفان في الطريق إلى الحقيقة، والفقه في الذهاب إلى الشريعة، والعقيدة في الكلام إلى التوحيد، والحديث في الرواية إلى السنة، من المناهج الأصيلة في الموروث الإسلامي، وإن نعتها أبو حامد الغزالي وابن تيمية بشرّ النعوت. وجميع هذه المناهج مبنية حتماً على الرصيد الإنساني المشترك في السعي إلى كنه المعنى. فلا حرج من اعتماد تسمية السلف لمنهجه، ولا حاجة لاستدعاء مصطلحات مستحدثة من وحي التجربة الغربية، وهو ما تفعله الوثيقة في تكرار الإشارة إلى السرّانية، وكأن السلف كان قاصراً في تعبيره، أو في صياغته للمفاهيم.
إشارتان مقتضبتان تتوجبان هنا، الأولى أن موضوع السرّانية هذا تدحرج في ثقافة المنشأ، أي الغرب، من الغموض والاحترام، إلى الشبهة والإسقاط، فلا حاجة لتحميل مقام المكزون السنجاري مثلاً، أعباء هذا المصطلح وتبعاته. والثانية هي أنه ثمة تجربة مشابهة لدى بعض النخبة الفكرية في طائفة أخرى، هي الطائفة الدرزية اللبنانية، في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته للتواصل مع ما بدا وكأنه من المشترك الباطني الإنساني. غير أن هذه التجربة لم تنتج الإصلاح الديني، ولا ارتقت بالمعتقد إلى مرتبة المشهود الإنساني، ولا هي حصّنت الطائفة إزاء ما شهدته لاحقاً من قطعيات، بل لربما أسّست لها عن غير عمد.
ولكن الأهم، لجهة التنبيه إلى الاخترال المجحف، هو أن أصل العلوية، في مسمياتها السابقة قد يكون باطنياً وفق قراءة النخبة الفكرية، إلا أن ذلك لا يعني لزاماً أن العلويين اليوم في ممارستهم لدينهم باطنيين، أو سرانيين، أو عرفانيين. فالمناهج الدينية مادة النخبة. أما العموم، وإن سلّموا نظرياً بأحقية النخبة في منهجها، فهم بحكم الواقع ليسوا منهجيين بل تعبديين. وعامة العلويين، كما عامة غيرهم، تعتمد قدراً من الشعائرية التعبدية، هي أقل بالنسبة لمعظمهم، وأقداراً من المعتقدات حول العلاقة بين العابد والمعبود يجتهد رجال الدين في اعتراض تحولاتها المتحققة على كل حال.
وللطائفة العلوية خصوصية دون شك من خلال الصياغة الدينية التي شاءت ضمّها إلى الشيعية الإمامية الجعفرية، والتي نالت تأييد حافظ الأسد بعد أعوام قليلة من استيلائه على الحكم عام ١٩٧٠. ففعل الصياغة هذا، رغم قطعيته، لم يكن معدوم الأسس. إذ في أعقاب ظاهرة سلمان المرشد، والتي صدعّت الطائفة، كان ثمة توجه لدى بعض رجال الدين العلويين إلى إكساب الطائفة مقومات شعائرية وفقهية أوسع، والمنهل في هذه وتلك، لضمان التمايز وتثبيت المشروعية، كان الشيعية. وصدر من رجال الدين العلويين على مرّ العقود التأكيد تلو التأكيد على أصالة التشيع العلوي. وكانت خاتمة بيان موسّع وقّع عليه ثمانون من رجال الدين العلويين في سوريا ولبنان ونشر في نهاية الستينات من القرن الماضي، بعد إدراج العقيدة العلوية في الإطار الشيعي بكامل تفاصيله أن «تسمية الشيعي والعلوي تشير إلى مدلول واحد وإلى فئة واحدة هي الفئة الجعفرية الإمامية الأثنا عشرية».
وهنا الصمت المدوي الآخر في هذه وثيقة الإصلاح الهوياتي. إذ هي لا تتطرق إلى هذا الجانب من التاريخ الديني العلوي المعاصر. فإذا كان هذا الجهد التشييعي غير صادق جملة وتفصيلاً، فالكلام عن الإعلان عن الذات «خالصين من التقية» لا يقتضي إهماله، بل يلزم تبيان أسبابه. وما هو أرجح في اقترابه من الحقيقة هو أن الجهد التشييعي لم يكن كاذباً، ولكنه لم يستقطب جميع العلويين، ولا سيما منهم من جسّر ضعف الشعائرية العلوية باتجاه لادينية عملية، وإن حاولت أن تتقمص العلمانية دون أن تتخلى في معظم الأحوال عن الطائفية أو الحس الطائفي.
فبصمتها المزدوج وبمشروعها الديني غير المصرّح به، لا تبدو الوثيقة لقارئها من خارج الطائفة العلوية على أنها دعوة إصلاح للهوية الجماعية في سياق سوري، بل سجال داخل الجماعة حول الهوية بين طرحين مكتومين، الأول يدرج العلوية تحت المظلة الشيعية، ويستفيد من دعم مؤسسات رسمية ومن حضور إيراني متعاظم، ويعتمد على مقولة المقاومة للبقاء عند رأس هرم السلطة، والآخر يسعى إلى تجاوز الإثقال الذي يلقيه هذا الإدراج، والمتجسد خاصة بالتبعية والمعارك المفتوحة والتي استنزفت الطائفة بقدر يفوق سائر مكونات المجتمع السوري، وذلك من خلال الارتقاء إلى ندية مع السنة والشيعة جهاراً، والتعويل على علمانية السياسة لتجنب فخ التهميش.
هذا السجال قائم لتوّه في محافل التواصل الاجتماعي بين أصوات داخل الطائفة العلوية تزايد على طرح الوثيقة بالحديث عن العلوية كدين سوري تام مستقل، علماني في سياساته، وبين أصوات أخرى صادقة في توقها لشعائرية جديدة تجد البعض منها في الطقوس الشيعية.
وقبل بحث حال «العلوي في المجتمع»، فإن التوضيح مطلوب حول «المجتمع العلوي» نفسه، فهذا المجتمع، شأنه شأن «المجتمعات» السنية والمسيحية والدرزية والإسماعيلية والإمامية وغيرها في سوريا، ليس قابلاً للتأحيد. ولكنها جميعاً، معاً، على تعدديتها واختلافاتها الداخلية، قابلة تلقائياً للتوحيد في إطار يضع الإنسان السوري، بخصوصيته الفردية، كالقيمة الأولى في البحث السياسي والمجتمعي عن المعنى. أما كنه المعنى الديني ومفهوم الإلوهية على أساس المناهج المتنوعة، فموضوع بوسع السوريين أن يتفقوا أن يبقوا فيه كما كانوا على مدى العصور، على خلاف لا يفسد الوئام.
الإعلان، بالمطلق، ورغم كل التعليقات، خطوة إلى الأمام. تحية صادقة لكاتبيه.
حسن منيمنة هو مساهم في تحرير "منتدى فكرة". وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"