- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3324
المحاصيل الوافرة: واردات الحبوب والصدمات الجيوسياسية في إيران
لم ينفكّ المسؤولون الإيرانيون يؤكدون توفّر السلع الأساسية في المرافئ والمخازن الاحتياطية بهدف التخفيف من حدة الذعر مع تفشي الوباء العالمي الناجم عن فيروس كورونا، في حين صرّح الرئيس حسن روحاني بكل ثقة أن الأغذية الأساسية متوفرة بكثرة. وفي الواقع، تحتل الأغذية مدخول طهران الصافي أكثر من أي أمر آخر، نظراً إلى مزيج المحن التي تعانيها، من مرض "كوفيد-19" إلى العقوبات الأمريكية الساحقة وإلى تضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي.
ولكن بالرغم من ازدياد إنتاج الحبوب، لا تزال البلاد بحاجة إلى الاستيراد من الخارج لتلبية الاستهلاك المحلي وتعبئة المخازن، في حين أن قدرتها الأوسع نطاقاً على التعامل مع الصدمات المحتملة في الإمدادات محدودة بسبب مجموعة من التحديات الداخلية والجيوسياسية. ومن أجل تكوين صورة أوضح لهذا الوضع، يكفي النظر إلى خمسة واردات رئيسية هي: القمح والأرز اللذان يعتبران المواد الغذائية الأساسية في إيران، والشعير والذرة اللذان تستخدمهما إيران بشكل رئيسي كعلف، وبالتالي لإنتاج الألبان والأجبان والبيض واللحوم، ومختلف البذور الزيتية لأغراض الطهي، والمأكولات الغنية بالبروتين المستخدمة كعلف، والاستخدامات الصناعية التي تعتبر أقل شيوعاً.
ملء أهراءات الدولة
يُعد القمح أهم محصول في إيران، حيث تستحوذ زراعته على قرابة نصف المساحات المزروعة في البلاد ويؤمّن 70 في المائة من إنتاج الحبوب في إيران. وخلال السنة المالية 2019/2020، بلغ الإنتاج المحلي 14 مليون طن والطلب المحلي 12 مليون طن. وأصبحت البلاد مكتفية ذاتياً بشكل متزايد في هذا المجال منذ عام 2016، ومع ذلك لا تزال تستورد كميات منخفضة نسبياً من القمح، وبشكل رئيسي من روسيا وكازاخستان والاتحاد الأوروبي. غير أن المزارعين الإيرانيين يترددون أحياناً في بيع القمح الذي يزرعونه للحكومة وفق السعر الأدنى الحالي المضمون (والبالغ 2500 تومان للكيلوغرام، أو ما يقرب من 500 دولار للطن)، ويفضّلون تكديسه أو بيعه بأسعار أفضل كعلف لمربّيي الماشية. ولذلك، تضطر الدولة إلى الاستيراد لتغطية النقص الحاصل. ومن أصل الـ 14 مليون طن التي أُنتجت خلال السنة المالية الماضية، اشترت الدولة 8,8 مليون فقط، وتنوي شراء 10,5 مليون طن هذا العام. وفي الوقت نفسه، وافقت على استيراد 3 ملايين طن خلال كانون الثاني/يناير.
ومن ناحية الأرز، أنتجت إيران محصولاً وافراً بلغ 2,9 مليون طن في السنة المالية 2019/2020، ومعظمه مزروع في محافظتَي غيلان ومازندران الغنيتَين بالأمطار. ومع ذلك، لا يزال الاستهلاك المحلي في الظروف الأقل استثنائيةً يتطلب حوالي مليون طن إضافي سنوياً، ولذلك يستمر الاستيراد، في المقام الأول من الهند، مع كميات أصغر من باكستان وتايلاند وتركيا والإمارات العربية المتحدة. ومن أجل حماية مزارعيها، تفرض طهران حظراً على الاستيراد أو تعريفات باهظة خلال موسم حصاد الأرز السنوي (آب/أغسطس - تشرين الأول/أكتوبر).
أما الشعير، فهو ثاني أكبر محصول في إيران من حيث المساحة المزروعة، حيث بلغ منتوجه 3,6 مليون طن خلال السنة المالية 2019/2020. ولكن فيما يتعلق بالشعير أيضاً، يستدعي الطلب المحلي استيراد ثلاثة ملايين طن إضافية، وبشكل رئيسي من كازاخستان وروسيا وأوكرانيا و "الاتحاد الأوروبي". في المقابل، يعتبر إنتاج الذرة أقل شحّاً، لذلك تستورد منه إيران ما يقرب من 10 ملايين طن سنوياً، معظمها من البرازيل، بالإضافة إلى كميات ضئيلة من الأرجنتين وأوكرانيا وحتى الولايات المتحدة. ووفقاً لبعض التقارير ارتفعت واردات الأعلاف (الذرة والشعير ووجبة فول الصويا) بنسبة 16٪ خلال السنة المالية الماضية، ويبلغ الطلب المحلي الحالي عليها 21 مليون طن.
كما تزرع إيران البذور الزيتية، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى استيراد أكثر من 90٪ من معدل الطلب على الزيوت النباتية (حوالي 1.5 مليون طن)، وخاصة فول الصويا وعباد الشمس والنخيل. ويتم استيراد حبوب الصويا، التي تعتبر المحصول الرئيسي للبذور الزيتية، من البرازيل بالدرجة الكبرى، على الرغم من أن الشحنات من الولايات المتحدة ارتفعت إلى ما يقرب من 900,000 طن في أكتوبر 2018 بعد أن رفعت الصين الرسوم الجمركية على فول الصويا الأمريكي. وقد استوردت إيران نحو 2,3 مليون طن من حبوب الصويا خلال السنة المالية 2019/2020، كما تستورد أكثر من نصف علف الصويا ونحو خُمسَي استهلاكها من زيت الصويا.
ووفقاً لتوقعات مشتركة بين "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" و "منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة"، ستستمر إيران في استيراد 656,000 طن من القمح في عام 2028، إلى جانب 1.4 مليون طن من الأرز و 10.3 مليون طن من الذرة. و 4 ملايين طن من الحبوب الخشنة الأخرى بما فيها الشعير و 2.7 مليون طن من فول الصويا و 282 ألف طن من البذور الزيتية الأخرى و 1.7 مليون طن من الزيوت النباتية. وبعبارة أخرى، ربما يكون الاكتفاء الذاتي الحقيقي على بعد سنوات من الآن.
بدائل غير مؤكدة
تُعد روسيا وكازاخستان والهند وأوكرانيا والبرازيل والأرجنتين والاتحاد الأوروبي الدول المزوّدة الرئيسية لإيران لهذه الواردات. وتُصدّر روسيا ما يقرب من خُمس القمح في العالم. ويشمل المصدّرون الرئيسيون الآخرون "الاتحاد الأوروبي" والولايات المتحدة وكندا وأوكرانيا والأرجنتين وأستراليا. وتتمتع روسيا وكازاخستان، كونهما عضوين في "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، بنظام تجاري تفضيلي مع إيران، يتضمن اتفاقية ثلاثية أمدها خمس سنوات لبيع القمح إلى الجمهورية الإسلامية (مُعد للمطاحن الإيرانية الخاصة التي لا يُسمح لها بالاعتماد على المخزونات المحلية، لإنتاج الدقيق من أجل إعادة تصديره). وتمثل الهند ربع صادرات الأرز في العالم، تليها تايلاند وفيتنام وباكستان والصين والولايات المتحدة وميانمار. وتشكل صادرات الذرة الأمريكية 27 ٪ من الإجمالي العالمي، تليها البرازيل والأرجنتين وأوكرانيا، مع أحجام أصغر من روسيا و"الاتحاد الأوروبي". وأكبر مصدري الشعير هم "الاتحاد الأوروبي" وأوكرانيا وأستراليا وروسيا والأرجنتين وكندا وكازاخستان. والمصدرون الرئيسيون لفول الصويا هم البرازيل والولايات المتحدة والأرجنتين وباراغواي وكندا. والدول الثلاثة الأولى هي أيضاً المصدرة الرئيسية لزيت فول الصويا والدقيق. أما بالنسبة لصادرات البذور الزيتية الأخرى، فإن أوكرانيا وروسيا تتصدران منتجات عباد الشمس وإندونيسيا وماليزيا منتجات زيت النخيل وكندا منتجات البذور.
ويعتمد اختيار إيران لمصادر وارداتها على العديد من العوامل، من بينها أسعار السلع الأساسية، وتكاليف الشحن، وأسعار النفط، والعوائق التجارية (مثل ضوابط التصدير)، وتوافر آليات الدفع الصالحة (على سبيل المثال، لتجنب العقوبات الأمريكية)، والأفضليات السياسية، والأحداث الجيوسياسية. على سبيل المثال، أدّى الوباء العالمي إلى تفكيك سلاسل الإمداد - كما أدّت تدابير الإغلاق الهائلة التي فرضتها الهند إلى تعطيل صادرات الأرز في نيسان/أبريل، في حين حظّرتها فيتنام وميانمار وفرضت عليها قيود أيضاً، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار. وبالمثل، دفع فيروس "كوفيد-19" كازاخستان وروسيا وأوكرانيا إلى تقييد صادراتها من الذرة والشعير والقمح.
كما أثرت التوترات مع الولايات المتحدة على إمدادات الحبوب الإيرانية. ففي تموز/يوليو 2019، أدى مجرد خطر العقوبات الأمريكية إلى دفع شركة النفط الوطنية البرازيلية لفترة وجيزة إلى رفض حقوق الناقلات الإيرانية - التي كانت تقايض اليوريا بالذرة - بإعادة التزود بالوقود محلياً. وردّاً على ذلك، هددت طهران بوقف استيراد الذرة والصويا ولحوم البقر من البرازيل. وبعد بضعة أشهر، اضطرت عشرين سفينة على الأقل تحمل أكثر من مليون طن من الحبوب إلى التوقف عن العمل خارج الموانئ الإيرانية بسبب قضايا الدفع.
ومن الناحية العملية، لا تسري العقوبات الأمريكية على تجارة المواد الغذائية، ولكن العديد من الشركات الأجنبية تجد أن القواعد مربكة، خاصة في المعاملات المالية، وبالتالي تُفضل تجنب التعامل مع إيران تماماً. وفي الشهر الماضي، ذكرت وكالة "رويترز" أن صعوبات الدفع المتعلقة بالعقوبات دفعت طهران إلى تفضيل المؤسسات التجارية الأصغر والعقود الخاصة المباشرة على مناقصات الشراء الحكومية، مع قيام البنوك في الصين وروسيا وكوريا الجنوبية بتمويل هذه المعاملات المعقدة بشكل متزايد. ووفقاً لبعض التقارير فشل "البنك المركزي الإيراني" في تخصيص العملات الأجنبية المدعومة لاستيراد الأعلاف والزيوت النباتية في الأسابيع الأخيرة، مما تسبب في نقص في هذه المنتجات الزراعية.
ونشأت توترات ثنائية منفصلة مع قوى تصدير زراعية مثل كندا وأوكرانيا، بما في ذلك خلال إسقاط طائرة ركاب أوكرانية في كانون الثاني/يناير تحمل العديد من المواطنين الكنديين الإيرانيين. وفي أيار/مايو، تسبب هجوم إلكتروني استهدف منشآت ميناء بندر عباس في ازدحام الشحن البحري والبري الذي استمر لعدة أيام، مما زاد من خطر التأخير في الواردات الأساسية (يُنسب الهجوم إلى إسرائيل، على الأرجح رداً على العمليات السيبرانية الإيرانية ضد البنية التحتية لشبكة المياه الإسرائيلية).
وعلى الرغم من التوترات، واصلت الولايات المتحدة بيع إيران كميات مختلفة من الأرز والذرة والقمح وفول الصويا، وإن كان ذلك بكميات أقل بكثير مما كانت عليه قبل الثورة. ففي عام 2008، أدّى الجفاف إلى إرغام طهران على استيراد ما يقرب من 7 ملايين طن من القمح، جاء 1.8 مليون طن منها (بقيمة 536 مليون دولار) من الولايات المتحدة - وهي أول عملية شراء يقوم بها النظام من عدوه اللدود منذ عقود. واشترت إيران القمح الأمريكي ثانية في عام 2012، وهذه المرة بقيمة 89.2 مليون دولار وفقاً لبيانات "مرصد التعقيد الاقتصادي".
وفي الوقت نفسه، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لإيران. ومن المفارقات أنه على الرغم من أن الصين هي أكبر منتج للقمح والأرز وزيت فول الصويا /الدقيق، وثاني أكبر منتج للذرة في العالم، إلا أن هوامش صادرات بكين ضئيلة في ا يخص معظم هذه المواد الأساسية، وذلك بسبب شراهة الطلب العالمي.
الخاتمة
على الرغم من أن الزراعة تساهم بأكثر من عُشر "الناتج المحلي الإجمالي" في إيران وتوظّف خمس القوى العاملة فيها، إلا أنها لا تزال رهينةً للتقلبات المتكررة، التي تشمل غزو الجراد والزلازل والجفاف والفيضانات. ولم تؤدي الجهود المحمومة لبناء السدود لأغراض الري سوى إلى تفاقم المشاكل البيئية مثل التصحّر والتملّح، على الرغم من أن إصرار إيران على الاكتفاء الذاتي الزراعي يضع ضغوطاً لا تُحتمل على احتياطيات المياه الجوفية.
وفي الوقت نفسه، أدت العقوبات الأمريكية، إلى إعاقة أو تقليل استخدام القنوات المصرفية العادية وخطابات الاعتماد بين إيران وشركائها التجاريين، مما أجبرها على الاعتماد على المقايضة وآليات دفع التجارة الإنسانية. وقد تعرقل مخاطر العقوبات دون قصد قدرة البلاد على الوصول إلى مستلزمات وتقنيات التعزيز الزراعي اللازمة لتحسين غلة المحاصيل المحلية. وقد أدى الوباء العالمي الناتج عن فيروس كورونا إلى تفاقم هذه المشاكل من خلال الكشف عن مخاطر اختلال إمدادات المواد الغذائية.
وفي غياب الاكتفاء الذاتي والاستقرار الجيوسياسي، حريٌّ حتى بالحكومات التي تملك احتياطيات كبيرة أن تنوّع سلّة إمداداتها من الحبوب، أو على الأقل أن تتمكن من القيام بذلك في غضون مهلة قصيرة. ومع ذلك، ففي طهران، يُعتبر السلاح أكثر جاذبيةً من الغذاء عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالميزانية وصياغة السياسة الخارجية. وهذه الذهنية تجعل البلاد عرضةً لصدمات كبيرة في الإمدادات، ونقص الغذاء، وارتفاع الأسعار والتي يمكن أن تخلّف آثاراً لا تقل أهميةً عن آثار الحروب.
كيفن ليم، هو باحث دكتوراه في "كلية العلوم السياسية والحكومة والشؤون الدولية" في "جامعة تل أبيب"، ومساهم في شؤون "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" لمُزوِّد المعلومات العالمي "آي.إج.إس. ماركيت" (IHS Markit).