- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
المجتمع المدني العراقي الى أين؟
مع تراجع الفرص المتاحة للحصول على تمويل دولي بشكل متزايد، يواجه المجتمع المدني العراقي خيارات صعبة بشأن المستقبل.
خلال العقدين الماضيين منذ سقوط نظام "البعث" في العراق، استُثمرت جهود وأموال وموارد طائلة لتعزيز المجتمع المدني العراقي. والآن، توجد مئات المنظمات التي تركز على تعزيز المبادرات الديمقراطية، وتمكين المرأة اقتصاديًا، والدفاع عن حقوق الأقليات. ومع ذلك، تواجه هذه الجهود تحديات داخلية ودولية تهدد بتقليص التمويل وصرف الاهتمام الدولي عن العراق، مما يعرض المجتمع المدني لخطر حقيقي.
منذ عام 2020 تراجعت المشاريع والمنح الدولية التي تُقدم للمجتمع المدني العراقي، وتزامنت ثلاثة أمور مع بعض لتجعل الوضع أكثر صعوبة وهي على التوالي: انتشار فايروس كوفيد 19 وانغلاق الدول على نفسها ومشاكلها وانشغالها بشؤونها الداخلية في محاولة لتعافي اقتصادها. الحرب الروسية الأوكرانية وتوجه الدعم الأوربي والأمريكي لدعم الوضع في أوكرانيا.
الإعلان عن الاحتياطي النقدي (100 مليار دولار أمريكي) واحتياط الذهب العراقي (130 طنًا) على لسان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، واستمرار ارتفاع أسعار النفط عالميا، مع بقاء العراق في مصاف الدول الأولى في الفساد والأخيرة في معدلات الشفافية، دفع الدول المانحة والمنظمات الدولية للتأكيد على أن العراق لديه موارد كافية لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية إذا توفرت الرغبة في ذلك.
قبل سنوات، كان هناك تخفيض تدريجي في عدد المنح المقدمة لإقليم كردستان العراق، وكانت الكثير من هذه المنح بالأصل تستهدف النازحين والمهجرين . كما تم تضمين المجتمعات المحلية المستضيفة في هذه المشاريع لتبرير العمل في الإقليم وتقليل نسبة التوتر المحتمل في حال إهمال هذه المجتمعات من فوائد هذه المنح ولخلق جو من التناغم بين هذه الشرائح. وبشكل عام، اتسمت هذه المشاريع بالطابع الإغاثي أكثر من كونها ذات طابع تنموي.
علاوة على ذلك يشكل التراجع المستمر في حجم المساعدات الدولية أحد أبرز التحديات التي يواجهها المجتمع المدني العراقي حاليًا، حيث يُعد صندوق الدعم الإنساني العراقي (IHF) ، الذي يُديره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) ، من أكبر الهيئات الدولية المعنية بدعم المجتمع المدني، كما يلعب دورًا محوريًا في توفير التمويل المباشر وتنسيق الجهود بين المنظمات غير الحكومية . ومع ذلك، واجه الصندوق تحديات تمويلية كبيرة، حيث لم يتم تأمين سوى جزء صغير من الموارد اللازمة لعام 2024. ويؤثر هذا النقص على جهود الاستجابة الإنسانية والدعم الحيوي للسكان النازحين . وأفادت خدمة التتبع المالي أن العراق تلقى ما مجموعه 62 مليون دولار من التمويل الإنساني لعام 2024، وهو ما يمثل 29.1% فقط من احتياجات التمويل المخطط لها. وبالطبع، يعكس هذا قضية أوسع تتمثل في تراجع الدعم المالي الدولي. وفي عام 2024، سلطت المنظمة الدولية للهجرة الضوء على وجود فجوات كبيرة في تمويل الجهود الإنسانية في العراق. على سبيل المثال، تطلبت خطة الاستجابة لأزمة العراق التابعة للمنظمة الدولية للهجرة 6.8 مليون دولار، لكنها لم تحصل سوى على 488,190 دولارًا، مما ترك فجوة تمويلية كبيرة تبلغ 93%. يؤثر هذا النقص على مجالات حيوية مختلفة تشمل مراقبة النزوح، وتقييم تغير المناخ، ودمج النازحين داخليًا.
وبعيدا عن كل الجدل حول التمويل الدولي - و كما ورد في مقال سابق، ثمة من يعبرون عن انزعاجهم من اعتماد المجتمع المدني العراقي على التمويل الدولي، مدعين أن العديد من المنظمات أصبحت خاضعة لأجندات خارجية. ورغم تلك الانتقادات، يبقى التمويل الدولي رئة المنظمات غير الحكومية في العراق وفي كثير من دول المنطقة حيث أن انقطاع المنح الدولية سيخنق المجتمع المدني العراقي وسيكون له نتائج كارثية ستغير من وجه وتوجهات المجتمع المدني العراقي تماما وتنسف كل الجهود التي حاولت خلق هذا القطاع المهم في المسار الديمقراطي. وكما يقال: لاديمقراطية دون مجتمع مدني ولا مجتمع مدني دون ديمقراطية.
تلعب المنظمات غير الحكومية دوراً بالغ الأهمية، لدرجة أن هذا المصطلح يكاد يُعتبر مرادفًا للمجتمع المدني في عراق ما بعد البعث. في الوقت الحالي، تشكل هذه المنظمات جزءًا لا يتجزأ من مختلف جوانب المجتمع المدني، بدءًا من التخطيط الأولي، مرورًا بجمع التبرعات، وصولاً إلى التنفيذ النهائي. ومن ثم، يُبرز هذا الدور التأثير الواسع الذي تمارسه المنظمات غير الحكومية على عملية صنع القرار وصياغة العقود الاجتماعية. هناك سبعة مستويات يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تشارك بها من اجل التأثير في المجتمع وهي التالي: 1) تقديم الخدمات المباشرة. 2) نشر الوعي. 3) بناء القدرات. 4) حماية المجموعات. 5) حملات المناصرة. 6) مراقبة الأداء الحكومي. 7) المشاركة في علمية صنع القرار.
المفارقة أن الحاجة للتمويل وكميته تقل كلما ارتفعنا في المستويات من المستوى الأول الى المستوى السابع، لكن تأثيره على المجتمع يزداد أكثر. من المهم القول أن كل هذه التدخلات المتنوعة ساهمت بشكل كبير في دحض الأفكار المتطرفة ونشر القيم الديمقراطية والأفكار المدنية، وروح التسامح، وتثبيت الحقوق والدفاع عنها. ومن ثم، فإن التخلي عن المجتمع المدني دون تأسيس لمصادر تمويل محلية بديلة تضمن استمرارية عمل المنظمات غير الحكومية، من شأنه أن يعرّض المجموعات التطوعية والأنشطة المدنية للخطر.
من الصعب التخلي عن منظمات المجتمع المدني، إذ أن غيابها سيكون له آثار كارثية على المجتمع العراقي. كان من الواضح أن الدعم الدولي كان سينتهي في يوم ما أو في الأقل سيتغير شكله واليات تدخله، وكان من الأولى التمهيد لهذه المرحلة بالتدريج . حاليًا، هناك استراتيجيتان قد تساهمان في إنقاذ المجتمع المدني العراقي من حافة الانهيار:
أولا: تطوير ديناميات مجتمعية محلية تشجع على العمل الخيري وتضمن استمراريته دون الاعتماد على الدعم الخارجي. إلى جانب ذلك، ينبغي تعزيز قدرات المجتمع المدني في ما يتعلق بتنويع مصادر التمويل والدعم، مع توعية المجتمع المحلي بأهمية دور المجتمع المدني والأنشطة المدنية بشكل عام في دعم العملية الديمقراطية وضمان استدامتها.
ثانيا: الإبقاء على خطوط التواصل بين المنظمات الدولية والمنظمات المحلية. فقد لا تبقى المؤسسات الدولية بكوادرها ومكاتبها لكن من الضروري أن يبقى الوضع العراقي تحت الرادار وان يستمر التواصل بين المنظمات الدولية والمحلية والنشطاء من الطرفين لدراسة الوضع وتقديم الحلول ويصبحوا شركاء في العمل. وهذا ما يفعله التدخل الصيني والروسي في بعض الدول، حيث يوفر تخطيط بعيد المدى واليات متنوعة للدعم وفق سياسة "قليل دائم خير من كثير منقطع". وتتناقض هذه السياسة مع تلك التي اعتمدها المانحون الأمريكيون والأوروبيون في كثير من الأحيان، حيث كانوا يقدمون أحيانًا تمويلات طائلة لمشاريع قصيرة المدى، مما يفتح الباب للفساد دون قصد.
تنطوي الجهود المذكورة أعلاه على إمكانية تنشيط المجتمع المدني، ولكن للأسف لا تزال هناك عقبات سياسية كبيرة قائمة إذ أن المسار الديمقراطي العراقي تحكمه الأحزاب السياسية الكبيرة، وهي بمجملها أحزاب أيديولوجية أو قومية وقليل جدا منها مشاريعية، والتي بوصولها للسلطة باسم التوافق والمحاصصة سخرت الكثير من أليات الفساد لكي تزيد من رصيدها المالي. وتُضيق من دائرة المصالح أكثر لكي تصبح الأحزاب نفسها أداة للاستيلاء على المال العام لصالح أشخاص متنفذين داخل هذه الأحزاب. لقد أصبحت الحكومة البقرة الحلوب لهذه الأحزاب ولهؤلاء الأشخاص الذين استولوا على السلطة، وأيضا على القطاع الخاص. ومن خلال استمالة القطاع الخاص، يمكن للعناصر الحزبية والمسؤولين الفاسدين منع المنظمات غير الحكومية بشكل فعال من الحصول على تمويل خارج أجهزة الدولة.
يشكل تغلغل الدولة في القطاع الخاص جزء من عملية توطيد أوسع للسلطة من قبل الحكومة في بغداد، حيث أصبح المشهد السياسي في العراق يتجه أكثر نحو المركزية ويبتعد شيئا فشيئا عن فكرة اللامركزية. كما أن المناطق التي كانت تتمتع سابقاً بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي - مثل إقليم كردستان العراق - ترى الآن استقلالها يتآكل تدريجياً.
بعد سقوط نظام البعث في عام 2003 مباشرة، عارض العديد من الفاعلين السياسيين النظام الفيدرالي اللامركزي الذي تم تطبيقه. 11. وحالياً، هناك توجه جاد وواضح في مواقف، وتصريحات الكثيرين لمراجعة مفهوم الفيدرالية مع إدراك صعوبتها لأنها مثبتة في الدستور.
مع جفاف الكثير من مصادر التمويل الخارجي وغياب التمويل الداخلي بشكل شبه كامل، تواجه العديد من منظمات المجتمع المدني خطر الاندثار وما سيبقي منها ستكون المنظمات التي لها مسالك سلسة مع الأطراف التي تمتلك النفوذ والسيولة المالية وأغلبهم من الطبقة السياسية أو تحديدا الأحزاب السياسية المتنفذة ومن هم قريبون منهم. من جانب أخر فان السياسيون أنفسهم أصبحوا يفتتحون منظمات خاصة بهم ويوفرون لها التمويل. كل هذا سيؤثر على استقلالية المنظمات غير الحكومية وستكون مستقطبة للأحزاب السياسية أو أشخاصها المتنفذين وسينفذون أجنداتهم بالضرورة، أو ستكون مستقطبة للمصالح التجارية. وبالتالي هي أيضا - بشكل مباشر أو غير مباشر- لن تمثل بالضرورة رؤية ورسالة المنظمة والأهداف المدنية التي تأسست لأجلها وسيكون التركيز في اغلبه معني بتقديم الخدمات المباشرة والمعونات لاستقطاب الجماهير لتوجيههم انتخابيا. وحتى لو نشطوا في تحريك الشارع وحملات المناصرة والمدافعة فسيكون لأجل خدمة طرف على طرف وليس بالضرورة قضية حقوقية أو مناصرة مدنية تضمن حقوق المواطن وتعزز ثقافة الديمقراطية. في مثل هذه الظروف، لن يتحرك المجتمع المدني للمشاركة في صنع القرار أو أن يكون شريكًا في التنمية، لأنه حينها لن يمثل المواطن، بل سيمثل أجندات الأحزاب السياسية أو واجهاتها بطريقة أو بأخرى. بدورها، تتحمل منظمات المجتمع المدني العراقي جزءا من العتب، إذ فشلت أغلبها في اتخاذ إجراءات جريئة وفي أن تصبح قوة مؤثرة تُقدم صورا ملهمة للنجاح والتغيير والضغط والتأثير في صناعة القرار. وفي حين كان لبعض هذه المنظمات تأثيرا في مجالات معينة، إلا أن المجتمع المدني الممثل بالمنظمات غير الحكومية لم يصبح قوياً، ونشطاً، ومؤثراً، وفعالاً. وللمنظمات الدولية نصيب في هذا العتب ، حيث استثمرت أموالها في منظمات غير فعالة، وتعاملت مع المنظمات المحلية كمتعاقد تنفيذي وليس كشركاء، وكان هناك ضعف في المتابعة وتقييم مؤشرات نجاح المشاريع، وركزت على المشاريع قصيرة المدى وليس المشاريع الاستراتيجية طويلة المدى ، علاوة على ضعف التنسيق بين المانحين والعاملين. وأحيانا كانت قصص فساد منظمات المجتمع المدني وبعضها دولي، أيضا تؤثر سلبا في تكريس تلك الصورة السلبية عن المنظمات والمجتمع المدني والنشطاء عموما.
تقوم المجتمعات الديمقراطية الحديثة وتلك المتجهة نحو الديمقراطية على ثلاث قطاعات: القطاع العام، القطاع الخاص، المجتمع المدني كل منها مستقل بذاته، وهذا لا يعني عدم وجود تنسيق وتعاون، بل شراكة. لكن في المحصلة يبدو أن لدينا قطاع خاص ضعيف ومستقطب سياسيا، ومجتمع مدني مستقل سيخنق قريبا، وما سيتبقى منه سيكون مستقطبا أيضا.، فالساحة ستفرغ للأحزاب السياسية التي تستولي على القطاع العام بعقلية تتجه نحر المركزية لا يردعها رادع. هل ستتمكن تلك القوى الحزبية من بسط نفوذها بشكل كامل وتحكم تحت ستار النظام الديمقراطي؟ أم أن هذه النسخة الديمقراطية لم تعد صالحة – أو لم تكن بالأساس صالحة - ونحن بحاجة لنسخة أخرى أكثر فاعلية؟