- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
القاهرة: عالقة بين تأمين البحر الأحمر وتجنب تصورها كداعمة لإسرائيل
ومع الخسائر الاقتصادية، مازالت مصر مترددة في المشاركة في أي عمليات عسكرية مباشرة لردع الحوثيين. وترى القاهرة انه من باب أولى، العمل على إنهاء العمليات العسكرية في قطاع غزة، وإطلاق مسار لعملية سياسية، بدلا من فتح جبهة جديدة لتوسيع نطاق الصراع في الشرق الأوسط.
من الوهلة الأولى يصعب على المرء تخيل أن مصر، التي أغلقت البحر الأحمر بالكامل، إبان حرب أكتوبر 1973 مع إسرائيل، عندما فرضت حصارا بحريا عند المدخل الجنوبي للبحر الأحم، عند باب المندب، تكتفي الآن بدور المشاهد بينما تتعرض حركة الملاحة البحرية الدولية لوابل من صواريخ ومسيرات الحوثي.
وبينما يتولى الأسطول الخامس الأمريكي الآن، مهمة التصدي للحوثي لتأمين المجرى الملاحي الدولي، بالتعاون مع الأساطيل الحليفة في 40 دولة، أبدت القاهرة تشككا واضحا في الانضمام للتحالف الدولي "حارس الازدهار"، على الرغم من أن تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر هو بمثابة تهديد مباشر وصريح للأمن القومي المصري.
ولكن الحقيقة أن عدم مشاركة القاهرة في "حارس الازدهار" أو العمليات البحرية الدولية لتأمين المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي يمر به ما يقرب من 12 % من التجارة العالمية، راجع لحسابات شديدة التعقيد.
ليست هذه المرة الأولى التي يقوم فيها الحوثيون بزرع الفوضى حول مضيق باب المندب؛ وهي قضية متكررة تعود إلى محاولاتهم المستميتة للسيطرة على ميناء عدن أبان صراعهم مع الحكومة اليمنية والقوات الموالية لها قبل عدة سنوات. لكن هذه المرة، يدعى الحوثيين هجماتهم المتكررة على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، راجعة في الأصل للحرب الدائرة في غزة، وترى القاهرة أن خلط الملفات ببعضها البعض قد يطيل أمد الصراع في الشرق الأوسط، وقد يجعل الأمور اكثر تعقيدا، في المنطقة التي تبدو على حافة الهاوية.
الخسائر المصرية الناجمة عن عدم الاستقرار في البحر الأحمر
وعلى الرغم من الأثر العالمي السلبي لهجمات الحوثي على الملاحة الدولية بشكل عام، إلا أن القاهرة تعد الأكثر تضررا بشكل مباشر، فالبلاد، التي تمتلك أطول سواحل على البحر الأحمر، ( 1941 كم) وتشهد ازمه اقتصادية طاحنة فاقمت تبعاتها الحرب في غزة، تسببت هجمات الحوثيين في إضافة أعباء إضافية على البلاد فمن ناحية، تشكل هجمات الحوثي، تهديد مباشر للمدخل الجنوبي للملاحة المتجهة لقناة السويس (أحد أهم مصادر الدخل القومي للبلاد من العملات الأجنبية للبلاد في وقت تعاني فيه الدولة المصرية أصلا شحٌا كبيرا في وارداتها من الدولار، إذ كسر الدولار في السوق الموازية حاجز الـ ٦٠ جنيها)، وتسببت الهجمات الأخيرة للحوثي في انخفاض حركة الملاحة في قناة السويس بمقدار 30% مقارنة بنفس الفترة من العام السابق.
بجانب هذا فان تباطؤ حركة الملاحة في البحر الأحمر، يعني أيضا تباطؤ في حركة واردات البلاد، لاسيما الوقود والغذاء بجانب السلع الوسيطة اللازمة للصناعة، وبجانب هذه الخسائر، فحركة السياحة في البلاد التي تواجه ضغوطا كبيرة بسبب الحرب الدائرة في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، باتت تواجه ضغوطا إضافية، فالمنتجعات المصرية المطلة على البحر الأحمر وجنوب سيناء تأثرت بشدة بالحرب الدائرة في غزة، لكن سقوط حطام الصواريخ و المسيرات الحوثية فوق سيناء، بات يمثل كابوسا أخر لصناعة السياحة المترنحة جنوب سيناء، ومؤخرا سقط 6 من الأطباء المدنيين، مصابين بإصابات متنوعة عندما سقط حطام مُسيرة حوثية فوق نقطة إسعاف في مدينة طابا السياحية، جنوب سيناء.
ذكريات مريرة
ومع كل هذه الخسائر، مازالت القاهرة مترددة في المشاركة في أي عمليات عسكرية مباشرة لردع الحوثيين ولا يرجع ذلك في الأساس لغيابها عن المبادرات الأمنية في البحر الأحمر. في السنوات الأخيرة قامت مصر بتحديث و تطوير سلاح البحرية وأسست أسطول الجنوب لحماية الأمن والمصالح المصرية في البحر الأحمر، ووفقا لجوبال فاير باور، تمتلك مصر أقوى سلاح بحري لدول البحر الأحمر، وساهمت القاهرة في الجهود الدولية لتامين الملاحة بالبحر الأحمر بالمشاركة في قوة المهام المشتركة 153عام 2022، بل وتولت قيادتها خلال وقت سابق.
وفى حين كانت قوة العمل المشتركة تركز على مكافحة أعمال التهريب والقرصنة والتصدي للأنشطة غير المشروعة في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، تأسس تحالف "حارس الازدهار" للرد على تهديدات الحوثين واستهدافهم للسفن الإسرائيلية والأمريكية والسفن الأخرى كرد من الجماعة المدعومة من قبل ايران على الحرب الدائرة في غزة وجزء من إعلانهم الحرب على إسرائيل، وبالتالي فأن المشاركة المصرية في مثل هذا التحالف تعد تدخل مصري مباشر ضد الحوثيين وهو امر ترفضه مصر.
إن أي مشاركة مصرية في الجهود الدولية البحرية لتأمين المجرى الملاحي الدولي، سوف ينظر له باعتباره دعم غير مباشر لإسرائيل في عملياتها العسكرية في غزة، وترى القاهرة انه من باب أولى، العمل على إنهاء العمليات العسكرية في قطاع غزة، وإطلاق مسار لعملية سياسية، بدلا من فتح جبهة جديدة لتوسيع نطاق الصراع في الشرق الأوسط.
في الواقع، هذا الشعور بعدم الارتياح من المشاركة العسكرية النشطة في اليمن طويل الأمد كان قائما منذ فترة طويلة. فمن ناحية تتجنب مصر باستمرار التدخل عسكريا بأي شكل في الحرب الأهلية اليمنية وتفضل الحل الدبلوماسي، حتى مع اطلاق عملية عاصفة الحزم السعودية، شاركت مصر بقوات بحرية لتامين المجرى الملاحي دون التدخل في أعمال قتالية مباشرة في اليمن، وربما يمكن أن نعزو ذلك للنتائج المأسوية، والذكريات المريرة الناتجة عن التدخل المصري في اليمن في ستينات القرن الماضي والتي كانت احد أسباب انهاك القوة العسكرية المصرية وهزيمتها في حرب 1967، واليوم في وسط كل هذه الاضطرابات الإقليمية ترى القاهرة أن تلتزم الحذر، وهي محقة.
وقد قال لنا مسؤولون مصريون، أن المشاركة المصرية في تحالف البحر الأحمر في هذا التوقيت سيترجم كانحياز ودعم عسكري غير مباشر لإسرائيل في حرب غزة في ظل حالة غضب شعبي عارم في مصر والدول العربية نتيجة ارتفاع عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين، بعد أن وصل عدد الضحايا إلى 25 الف والمصابين على 60 ألف، وهو اكبر من أي عمليات إسرائيلية سابقة ضد الفلسطينيين.
وكما أوضح لنا عدد من المسؤولين المصريين، أن موقف القاهرة في هذا الصدد هو رفض التكتيكات العسكرية الإسرائيلية في غزة، التي تسببت في سقوط عدد مهول من الضحايا من المدنيين ونزوح مئات الألاف، بجانب التعنت الإسرائيلي في إدخال المساعدات لغزة مما فاقم من الأزمة الإنسانية، وتعمل مصر على تهدئة الصراع والانخراط في جهود الوساطة للأفراج عن المختطفين الإسرائيليين وتامين دخول اكبر قدر من المساعدات.
وانطلاقا من هذا الموقف، ترى القاهرة أن توسيع رقعة العمل العسكري بالدخول في مواجهة مع الحوثيين في اليمن سيزيد من تعقد الأمر، كما انه يمثل تهديد لمصداقية مصر كوسيط أمين يعمل على الوصول للتهدئة وتحرير المختطفين.
ويضيف المسؤولين المصريين، انه من الأوقع والأقل تكلفة للولايات المتحدة وإسرائيل، ولدول المنطقة والعالم، أن تسعى واشنطن لوقف الحرب وإنهاء الحصار عن سكان غزة، والتوصل لحل دبلوماسي وسياسي يؤدي في نهاية المطاف لدولة فلسطينية، لأغلاق دائرة العنف إلى الأبد، بدلا من الحشد العسكري، جنوب البحر الأحمر، وزيادة أمد العمليات العسكرية في المنطقة.
وبطبيعة الحال ترى القاهرة ضرورة إنهاء الحرب والوصول لتهدئة بسرعة وذلك للحد من الأزمة الإنسانية المتفاقمة على الحدود المصرية والتي تشكل وضعا قابل للانفجار في أي لحظة خاصة في ظل الاقتراحات التي قدمتها قطاعات معينة من الحكومة الإسرائيلية، والتي طالبت بتهجير سكان غزة لسيناء، وهو ما رفضته القاهرة بشدة مراراً وتكراراً. تحاول مصر وقف الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها جراء الحرب بالإضافة للوضع المشتعل على كافة حدود البلاد سواء في السودان أو ليبيا. ومن ثم فان توسيع دائرة القتال يعني بالضرورة إطالة أمد الصراع لاسيما أن التواجد العسكري الأمريكي والبريطاني المكثف في جنوب البحر الأحمر منذ بداية الحرب في غزة لم يشكل عامل ردع للحوثيين الذين اطلقوا مسيرات و صواريخ باليستية بالفعل على إسرائيل.
التناغم مع الموقف الإقليمي
قد لا يتمكن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، من تأمين المدخل الجنوبي للبحر الأحمر بدون أي مشاركة فعالة لدول البحر الأحمر نفسها، والتي تحاول أن تناي بنفسها من الدخول في صراع إضافي، قد يزيد من الأمور تعقيدا.
لم تشارك أي دولة عربية في التحالف البحري، سوى البحرين، التي انضمت رسميا للتحالف والتي تضم مقر قيادة الأسطول الخامس الأمريكي. واللافت أن السعودية والإمارات لم تشارك في التحالف، بالرغم من خضوهما حربا سابقة ضد الحوثيين. تمتلك المملكة العربية السعودية 1811 كم على ساحل البحر الأحمر، وتتمسك بفرص السلام في اليمن، مع تزايد احتمالات التوافق الكبرى بين المملكة العربية السعودية والحوثيين، ضمن التفاهمات (السعودية – الإيرانية) الأكبر.
ومن الجدير بالذكر أن نائب الأدميرال، براد كوبر، قائد القوات البحرية الأمريكية في القيادة المركزية والأسطول الخامس الأمريكي والقوات البحرية المشتركة، سبق وأشار خلال إحاطة صحفية افتراضية، شاركنا فيها، بأن بعض الدول انضمت لتحالف "حارس الازدهار" لكن بشكل غير معلن.
وحاليا وبعد تشكيل التحالف فان الحوثيين مستمرين في هجماتهم رغم الغارات الامريكية الانتقامية وهو ما ينذر بتصاعد الصراع في تلك المنطقة ومن ثم مزيد من عدم الاستقرار لحركة الملاحة في البحر الأحمر وربما فتح جبهات صراع أخرى في جميع أنحاء المنطقة. وبالنظر إلى تأكل الردع الأمريكي في الشرق الأوسط عامة، وضعف أداء الإدارة الامريكية في إدارة الصراعات في المنطقة، ومحاولتها استرضاء ايران وهو ما ثبت فشله بالفعل، وادى لتقوية ايران ووكلائها في المنطقة لمرحلة اصبح فيها العمل العسكري بهذا الشكل محدود الأثر، الأمر الذي يشير إلى إمكانية أن يتحول الصراع في البحر الأحمر، لحلقة جديدة من جولات الصراعات الطويلة التي يشهدها الشرق الأوسط، والتي من الممكن أن تنتهي لا بحسم لصالح قوى الحرية والديمقراطية، بل بخلق المزيد من التعاطف مع الجماعات الإرهابية في المنطقة، وانتشار اكبر لمشاعر العداء للغرب وللسامية.