- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3459
القسوة مع مصر لن تنفع
كانت العلاقات الأمريكية-المصرية تتأرجح لبعض الوقت بفضل الخلافات العميقة حول مجموعة واسعة من القضايا. وفي السابق، حاولت واشنطن ربط أموال المساعدات الخارجية بحل بعض القضايا الأكثر إثارة للجدل، إلّا أن هذه الجهود أثبتت أنها غير مجدية إلى حدّ كبير. وبالنظر إلى التركيز المكثف للإدارة الأمريكية الجديدة على حقوق الإنسان وتسلّم مصر طائرات "سوخوي-35"، فقد تضطر واشنطن إلى إعادة معايرة نهجها.
عندما أقر الكونغرس الأمريكي "قانون تفويض الدفاع الوطني" في كانون الثاني/يناير، تضمن القانون بنداً يقضي بالحدّ بشكل كبير من المساعدة العسكرية الأمريكية المقدمة إلى مصر ما لم تحسّن البلاد سجلها في مجال حقوق الإنسان بشكل كبير. وبناء على توجيهات الكونغرس، اتخذت إدارة بايدن خطوة غير مسبوقة بتوقيعها على بيان "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة الصادر في 12 آذار/مارس والذي يُعرب عن القلق العميق لـ "المجلس" إزاء "مسار حقوق الإنسان في مصر". وفي الوقت نفسه تقريباً، أفادت بعض التقارير أن القاهرة تلقّت من روسيا خمس طائرات مقاتلة متطورة من طراز "سوخوي-35"، وهي أول عملية تسليم في دفعة تضم 24 طائرة كان قد تم شراؤها في عام 2018.
ومجتمعة، تسلّط هذه التطورات الضوء على التحديات المتزايدة للعلاقات الأمريكية مع الدولة العربية الأكبر من حيث عدد السكان. وعلى الرغم من أن مصر لا تزال شريكاً حيوياً للسلام وحليفاً رئيسياً من خارج حلف "الناتو"، إلا أن العلاقات الأمريكية-المصرية كانت تتأرجح لبعض الوقت بفضل الخلافات العميقة حول مجموعة واسعة من القضايا. وفي السابق، حاولت واشنطن استخدام مزيج من الدبلوماسية الهادئة، والتصريحات العلنية، وربط أموال المساعدات الخارجية بحل بعض القضايا الأكثر إثارة للجدل، إلّا أن هذه الجهود أثبتت أنها غير مجدية إلى حدّ كبير، ولم يكن المسار واعداً حتى في ظل عدم التدخل نسبياً خلال عهد إدارة ترامب. وبالنظر إلى التركيز المكثف للإدارة الأمريكية الجديدة على حقوق الإنسان وتسلّم [مصر] طائرات "سوخوي-35" - وهي خطوة تخضع للعقوبات - فقد تضطر واشنطن إلى إعادة معايرة نهجها.
تذكُّر المصالح الأمريكية الأساسية
لدى الولايات المتحدة قائمة طويلة من المصالح مع مصر، وعلى رأسها الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل من عام 1979، والتي تبقى حجر الزاوية للاستقرار في المنطقة. وتُعد الصداقة مع مصر أمراً بالغ الأهمية للمتطلبات العسكرية الأمريكية. وعلى وجه الخصوص، يُعتبر توفير القاهرة للحقوق المنتظمة للتحليق الجوي وأولوية الوصول إلى قناة السويس في أوقات الأزمات أمران لا غنى عنهما لكي تحافظ الولايات المتحدة على وضع القوة المرن والسريع الاستجابة في البحر الأحمر والخليج العربي ومناطق أخرى. وقد أدّت العلاقة العسكرية الوثيقة بين الدولتين - المدعومة بـ "التمويل العسكري الخارجي" - إلى جعل واشنطن المزوّد المفضل (وإن لم يكن الوحيد) للعتاد العسكري لمصر، وهو دور منع في الآونة الأخيرة روسيا والصين من التوغل بصورة أكبر في المنطقة.
ولدى الولايات المتحدة أيضاً مصلحة قوية في الاستقرار الداخلي لمصر. ولضمان هذه الغاية، زَوّدت واشنطن القاهرة بمروحيات هجومية والتدريب اللازم لمساعدتها في حملتها المستمرة منذ سنوات ضد الجهاديين السنّة في شبه جزيرة سيناء - على الرغم من أن عدد المدنيين الذين قتلوا في جهود مكافحة الإرهاب هذه، المقدّر بشكل متحفظ بأكثر من 1000، أمر مثير للقلق. ومن الناحية الاقتصادية، دعمت واشنطن الجهود الدولية التي ساعدت مصر على تحقيق نمو باهر على مدى العقد الماضي، لكن استمرار البطالة ومعدل الفقر الذي يحوم حول 30 في المائة لا يزالان يثيران القلق. وإذا استمرت هذه المشاكل أو تصاعدت، فقد تؤدي إلى تقلبات داخلية متزايدة تهدد معاهدة السلام مع إسرائيل، أو حتى إثارة أزمة هجرة أخرى لأوروبا.
وتشكّل التقلبات الأوسع نطاقاً في المنطقة مصدر قلق أيضاً. وعلى الرغم من أن مصر ضبطت نفسها بحكمة عندما أرسلت تركيا والإمارات وقوى أخرى قوات إلى ليبيا، إلا أن الأزمة المتفاقمة بشأن سد النهضة الإثيوبي تلوح في الأفق في العديد من السيناريوهات المحتملة للصراع.
مضايقات متزايدة
إن اللامبالاة الدورية للقاهرة برفاهية المواطنين الأمريكيين، الذين يقيمون في مصر والبالغ عددهم 82,000 شخص، تقف على رأس قائمة المضايقات الثنائية بين واشنطن والقاهرة. ففي عام 2020، وعلى الرغم من تدخل نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو [خلال إدارة ترامب]، رفضت القاهرة في البداية إطلاق سراح ثلاثة مواطنين أمريكيين كانوا محتجزين خطأً. وقد توفي أحد هؤلاء السجناء، ولم يتم الإفراج عن الاثنين الآخرين إلا بعد أن ذكر مقال في مجلة "فورين بوليسي" أن وزارة الخارجية الأمريكية قد تقطع ما يصل إلى 300 مليون دولار من المساعدات [إلى مصر]. وتنتشر ممارسة الاحتجاز غير المشروع للمواطنين الأمريكيين إلى درجة أنه في عام 2019، قامت وزارة الخارجية الأمريكية بمراجعة توجيهاتها للمسافرين على النحو التالي: "الجنسية الأمريكية لا توفر الحماية من الاعتقال أو القبض من قبل السلطات المصرية، وقد يتعرض الأفراد المحتجزون لاستجوابات مطوّلة واحتجاز لفترة طويلة".
وفي قضية أخرى حظيت بدعاية كبيرة، واصلت القاهرة اعتقال أقارب المواطن الأمريكي محمد سلطان، الذي رفع دعوى قضائية أمام محكمة أمريكية ضد رئيس وزراء مصري سابق ادّعى فيها أنه لعب دوراً في تعذيبه أثناء سجنه بين عامي 2013 و 2015. وتم الإفراج عن هؤلاء الأقارب العام الماضي بعد أن حذر وزير الخارجية الأمريكي بومبيو القاهرة علناً بأن عليها "وقف المضايقات غير المبررة للمواطنين الأمريكيين وعائلاتهم"، لكن تم اعتقال العديد منهم مجدداً في الآونة الأخيرة.
ثم هناك قضية أبريل كورلي الأمريكية التي كانت لسوء حظها ضمن مجموعة سياحية تعرّضت للقصف خطأ من قبل مروحيات عسكرية مصرية عام 2015. وبعد مرور ست سنوات على الحادثة، لم تقرّ القاهرة بعد رزمة تعويضات منطقية لكورلي، التي أصبحت تعاني من عجز دائم وكانت الناجية الوحيدة من ذلك القصف.
كما أن معاملة مصر لمواطنيها هي مثار خلاف شديد. فهنا، لا يشكل الافتقار إلى الحكم الديمقراطي أو الانتخابات الحرة (على الرغم من أهمية هذه القضايا) الموضوع الأكثر إلحاحاً، بل العدد الهائل من المعتقلين السياسيين، الذي يقدر ما بين 60,000-110,000. وليس جميع هؤلاء السجناء بأي حال من الأحوال إرهابيين أو متطرفين متشددين - وفي الواقع، كثير منهم منتقدون ليبراليون للحكومة، أو صحفيون مرموقون، أو أعضاء في مجتمع "المثليات والمثليين جنسياً ومزدوجي الجنس ومغايري الهوية الجنسية والمنحرفين جنسياً"، وهم هدف متكرر لمضايقات الحكومة.
وحتى الشراكة العسكرية التي كانت قوية ذات مرة تعرضت للتعكر مؤخراً بسبب شراء مصر لطائرات "سوخوي-35". وتدّعي القاهرة أنها اضطرت لشراء الطائرة من روسيا لأن واشنطن لن تبيعها أفضل الطائرات من طراز "إف -35". لكن في الحقيقة، رفضت السلطات المصرية بدائل موثوقة لطائرات "إف -35" التي تلبي متطلباتها العسكرية، وبدلاً من ذلك استمرت في اتفاقها مع موسكو حتى بعد تحذيرها مراراً وتكراراً من العواقب. وحالما تستلم القاهرة الطائرات الروسية، فقد تكون قد فتحت نفسها للعقوبات بموجب "قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات".
الكونغرس يقيّم التطورات
على الرغم من أن سجل حقوق الإنسان في مصر قد جذب انتباه الكونغرس الأمريكي منذ فترة طويلة، إلا أن "قانون تفويض الدفاع الوطني" الجديد حفز جهداً تشريعياً غير مسبوق لتغيير هذا السجل من خلال اشتراط المساعدة العسكرية الأمريكية. وقد خصص الكونغرس 1.3 مليار دولار من صندوق "التمويل العسكري الخارجي" لمصر لعام 2021، لكنه نص على حجز 300 مليون دولار في انتظار تصديق وزير الخارجية الأمريكي على "اتخاذ القاهرة خطوات مستمرة وفعالة" على عدة جبهات، مثل تعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان؛ وحماية حرية التعبير؛ ومحاسبة قوات الأمن على الانتهاكات، والقتل خارج نطاق القضاء، والاختفاء القسري؛ وإتاحة المجال لوصول المسؤولين الأمريكيين المكلفين بمراقبة التطورات في سيناء. ويتطلب بند آخر قيام وزير الخارجية الأمريكي بتحديد ما إذا كانت مضايقات القاهرة للأمريكيين وعائلاتهم تشكل "نمطاً من أعمال الترهيب" التي قد تستلزم تعليق المساعدة العسكرية بما يتفق مع "قانون مراقبة تصدير الأسلحة".
ما هو الأسلوب الذي قد يكون ناجحاً مع مصر؟
بعد سنوات عديدة من النداءات المحبطة والمتجاهلة بشأن هذه القضايا، فإن وضع شروط على الأموال هو موضوع يرضي بلا شك الكثيرين في واشنطن وخارجها. والسؤال المطروح على صانعي السياسة في الولايات المتحدة هو ما إذا كان تقليص 300 مليون دولار في نطاق "التمويل العسكري الخارجي" - وربما أكثر من ذلك إذا تم فرض عقوبات بموجب "قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات" - سيكون له تأثير إيجابي على سلوك مصر.
وإذا كان التاريخ أي دليل، فإن الإجابة هي لا. أولاً، لم تعد قيمة المساعدة الأمريكية كما كانت عليه من قبل: ففي عام 1978، شكلت المساعدات الأمريكية ما يقرب من 6.4٪ من "الناتج المحلي الإجمالي" لمصر، لكنها اليوم أقل من نصف في المائة. ثانياً، تنظر الحكومة المصرية إلى جميع خصومها السياسيين - سواء كانوا إسلاميين أم ليبراليين - على أنهم يشكّلون تهديداً وجودياً وتَعتبر الإجراءات الأمنية الصارمة أمراً مهماً لبقائها في الحكم. ثالثاً، قد تعتقد مصر الآن أنها تستطيع شراء المزيد من أسلحتها من دول أخرى بدلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة. وفي النهاية، قد لا تضمن روسيا والصين مبيعات عسكرية، لكنهما لا تطرحان أسئلة حول حقوق الإنسان أيضاً. رابعاً، يُظهر سجل العَقدين الماضيين نجاحات عرضية ولكن القليل من الأدلة على أن الشرطية والتهديدات الأمريكية تؤدي إلى تغييرات مستدامة في السياسة المصرية. بعبارة أخرى، مهما كانت مطالب واشنطن شرعية وقانونية، إلّا أن هناك احتمال كبير بأن تكون غير فعالة - وستزيد من تآكل العلاقة خلال سير الأحداث.
وفي هذه الحالة، قد ترغب واشنطن في التوقف وإعادة النظر في خياراتها قبل تنفيذ العقوبات وشروط المساعدة التي لا تملك أملاً يذكر في تحقيق الغرض المقصود منها. وقد يكون المسار الأكثر حكمة هو خفض التوقعات، واتخاذ وجهة نظر أكثر صلابة في العلاقات الثنائية، والتركيز بشكل أضيق على المصالح الجوهرية. فمصر لم تعد القوة الإقليمية التي كانت عليها من قبل، لكنها لا تزال فاعلاً ذو شأن وشريكاً أمنياً مهماً. وعلى الرغم من التحديات الخطيرة، إلّا أن العلاقات الثنائية تواصل توفير فوائد مهمة وملموسة، بدءً من السماح بمنح تصاريح للتحليق الجوي وأولوية الوصول إلى القناة، وإلى الحد جزئياً من التجاوزات الروسية والصينية في زاوية محورية بين إفريقيا وآسيا.
وفي النهاية، يجب أن تكون المساعدات الأمريكية متناسبة مع قيمة العلاقة وأن تكون كافية لحماية المصالح الأمريكية. فخفض المساعدات بقيمة 300 مليون دولار - ولكن دون تنفيذ اقتطاعات أو عقوبات إضافية - من شأنه أن يرسل إشارة واضحة عن استياء واشنطن بينما يسمح في الوقت نفسه للعاصمتين بإدارة علاقاتهما وفق مصالحهما المتبادلة. وقد يثبت هذا التخفيض في التمويل أيضاً استدامته في الأذونات السنوية المستقبلية بعد عام 2021. لكن تقليصه بشكل أكبر قد يؤدي إلى ردود فعل عنيفة ومؤلمة تؤدي إلى انهزام ذاتي، مما يقوّض التعاون المصري بشأن المصالح الأساسية لواشنطن وأولوياتها المحددة (على سبيل المثال، إطلاق سراح المواطنين الأمريكيين المحتجزين خطأً؛ الحد من المزيد من مشتريات أنظمة الأسلحة الروسية الهامة). ولربما كانت العلاقة الثنائية في فترة من الفترات "استراتيجية"، إلّا أن واشنطن قد تضطر حالياً إلى الاكتفاء بأن تكون "مثمرة".
ديفيد شينكر هو زميل أقدم في معهد واشنطن وقد عاد مؤخراً إلى المعهد بعد أن شغل منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترامب.