- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2707
السنة اللبنانيون المثقلون بالمشاكل بحاجة إلى دعم
بينما ينصبّ تركيز العالَم على سوريا، لم يحظ لبنان بالكثير من الاهتمام، إلّا أنّ التغيّرات في الوضع السّياسي الرّاهن والمتجمّد في البلاد قد يُعيدها قريباً إلى العناوين. وأهمّ ما يمكن التّحدّث عنه هو اتّفاق متوقَّع بين القادة البرلمانيين الشيعة والسّنّة والمسيحيّين لانتخاب ميشال عون - الشريك المثير للجدل في التحالف مع «حزب الله» الشيعي المدعوم من إيران، والقائد السّابق لـ "القوات المسلّحة اللبنانية" ("الجيش اللبناني") - كرئيس جديد للبلاد. وما زال منصب الرّئاسة المخصص للمسيحيين شاغراً منذ أيار/مايو 2014، وهو منصب شرفي إلى حدٍّ كبير، ولكن له أهمية رمزية.
ومع هذا، فما يحتمل أن تكون أهم من كل ذلك هي التطورات داخل المجتمع اللّبناني السنّي المعتدل والموالي للغرب تاريخيّاً. فمنذ اغتيال رئيس الحكومة السابق والزعيم السني رفيق الحريري في عام 2005 - وهي جريمة نسبتها "الأمم المتحدة" إلى سوريا و «حزب الله» - اتّحد السّنّة في لبنان وراء ابنه سعد، رئيس الكتلة النيابية "14 آذار". ولكن يبدو أن عدة عوامل تساهم في إضعاف مكانة سعد الحريري في مجتمعه، من بينها المصاعب المالية الشخصية، والمشاكل في إقناع شركاء تحالفه بانتخاب عون، وبروز زعماء بدلاء. وقد أصبح تهميشه المستمر يهدّد بتقسيم السّنّة وتعزيز مكانة إيران في دولة أخرى في الشرق الأوسط.
الصدع الذي واجهه الحريري
قبل وبعد اغتيال رفيق الحريري، ساعدت الولايات المتحدة لبنان في جهوده لإنهاء الاحتلال العسكري السوري الذي دام خمسة عشر عاماً؛ ففي أعقاب سلسلة من الاحتجاجات الكبرى، سحبت دمشق قوّاتها أخيراً في نيسان/أبريل 2005. وبعد ذلك، بدأت واشنطن تقدّم مساعدة عسكرية سنوية لـ "الجيش اللبناني" قدرها 70 مليون دولار، وازداد هذا الدعم في النهاية ليصل إلى 150 مليون دولار. كما قدّمت الدعم الدبلوماسي إلى تحالف "14 آذار" في نضاله ضد «حزب الله» واستمرار التدخل السوري. غير أن هذا الدعم السياسي تراجع في عام 2007، بعد أن دعت إدارة بوش مسؤولين سوريين للمشاركة في مؤتمر السلام الفلسطيني- الإسرائيلي في أنابوليس. ومع تلاشي سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بعزل سوريا، أعاد «حزب الله» إثبات وجوده في بيروت، فاقتحم العاصمة في أيار/مايو 2008.
وعندما تولت إدارة أوباما السلطة، أطلقت فوراً مبادرة لإشراك نظام بشار الأسد، الأمر الذي دفع إلى حدوث تغييرات في سياسة الشركاء الإقليميين. والأمر الأكثر لفتاً للانتباه هو سعي المملكة العربية السعودية إلى إصلاح علاقاتها مع سوريا، حتى أنها أرغمت الحريري على دفن الأحقاد [القائمة بينه وبين الرئيس السوري] وعقد اجتماع مهين مع الأسد في دمشق عام 2009. وبعد ذلك بعامين، تمت الإطاحة بالحريري من منصبه كرئيس للوزراء، فغادر لبنان وعاش في المنفى لمدة دامت ما يقرب من خمس سنوات.
سحب الاستثمارات السعودية
في غياب الحريري، تزعزعت العلاقات في تحالف "14 آذار" وأصبحت الخلافات الداخلية علنية، وتراجع تمويل الأجهزة الحزبية. وفي كانون الأول/ديسمبر 2013، اغتيل محمد شطح، الشخصية السنية البارزة والخبير الاستراتيجي القيادي في التحالف (لا يزال «حزب الله» ودمشق المشتبهان الرئيسيان في ذلك الاغتيال). وفي غضون ذلك، وبينما ازداد التدخل العسكري لـ «حزب الله» في الحرب الأهلية في سوريا ونما خطر الانتشار الإرهابي في لبنان، قررت وزارة الداخلية، بقيادة النائب عن تحالف "14 آذار" نهاد المشنوق، البدء بالتعاون مع الحزب حول القضايا الأمنية.
ومع تعاون السّنّة في لبنان مع «حزب الله» لحماية البلاد من الجهاديين السّنّة في سوريا، كان شريك الحزب الشيعي في الإئتلاف - أي "التيار الوطني الحر" التابع لعون - منشغلاً في إهانة المملكة العربية السعودية دبلوماسياً. ففي شباط/فبراير الماضي، على سبيل المثال، امتنع وزير الخارجية وعضو "التيار الوطني الحر" جبران باسيل عن تأييد قرار اتخذته "الجامعة العربية" بالإجماع تقريباً، وأدانت فيه الاعتداءات التي وقعت على منشآت دبلوماسية سعودية في إيران في 3 كانون الثاني/يناير. ولاحقاً، هددت الرياض بسحب إيداعاتها من "المصرف المركزي" في لبنان؛ كما ألغت هبة بقيمة 3 مليارات دولار إلى "الجيش اللبناني" وأخرى بقيمة مليار دولار إلى "قوى الأمن الداخلي".
المشاكل المالية التي يواجهها الحريري
قبل مغادرة الحريري لبنان عام 2011، كانت شركة البناء الخاصة به، "سعودي أوجيه"، إحدى أكبر الشركات في المنطقة، وكانت ثروته الشخصية تُقدَّر بـ 3.7 مليار دولار. وقد مكنته هذه الثروة - بالإضافة إلى التمويل الأساسي من الرياض وفقاً لبعض التقارير - من الحفاظ على آلة سياسية هائلة، شملت محطة تلفزيونية للحزب، وصحيفة يومية، ومجموعة كبيرة من الموظفين والمستشارين الذين يعملون بدوام كامل. ومع ذلك، فخلال الفترة التي قضاها في الخارج، هبطت أسعار النفط، ولم تعد السعودية تنفق الكثير من الأموال، وبرزت شائعات عن وجود مشاكل في تدفق الأموال، إذ توقّف دفع الرواتب في شركات الحريري في لبنان بشكل روتيني، ولأشهر متتالية أحياناً. وبينما كان السبب الظاهري الذي أعطاه الحريري لإقامته خارج لبنان هو سلامته الأمنية، همس البعض في بيروت بأنّه كان يتهرّب من الالتزامات المالية في البلاد.
وعلى الرغم من هذه المشاكل، عاد الحريري إلى لبنان بشكل دائم في شباط/فبراير. لكن بحلول فصل الصيف، اتخذت مشاكله المالية منحى جديداً نحو الأسوأ. ويُقال إن المملكة العربية السعودية تَدين لشركة البناء التي يملكها حوالي 8 مليارات دولار مقابل أعمال تم إنجازها، وهذه الدفعات المتأخرة قد اضطرت الحريري إلى أخذ المليارات على شكل قروض مرحلية لدفع المال إلى المتعاقدين والموردين. وبانعدام الدخل، وصل عمل الشركة إلى حالة من الجمود، وتم تسريح أكثر من 6000 عامل هندي من عملهم في آب/أغسطس بعد مرور أشهر لم يتقاضوا خلالها أي راتب. ويتكهن البعض أنه سيتم حل شركة "سعودي أوجيه" وستصادر الرياض أصولها، على غرار ما تقوم به المملكة على ما يبدو مع شركة بناء أخرى، هي "مجموعة بن لادن السعودية". وحتى قبل هذه الأزمة، قدّرت مجلة "فوربس" ثروة الحريري الشخصية بـ 1.45 مليار دولار، أي أقل من نصف ما كان يملكه عام 2011.
ظهور أشرف ريفي
في خضم الصعوبات التي يمر بها الحريري، برزت شخصيات سنية أقل شأناً منه في تحالف "14 آذار". وبشكل خاص، أخذ النجم السياسي للواء أشرف ريفي، المدير العام السابق لـ "قوى الأمن الداخلي" في الارتفاع. وبعد وقت قصير من تقاعده من ذلك المنصب في عام 2013، تم تعيينه وزيراً للعدل، لكنه استقال من منصبه في شباط/فبراير الماضي لاعتراضه على الإفراج المبكر عن ميشال سماحة، برلماني سابق كان قد سُجن في آب/أغسطس 2012 بسبب تعاونه مع سوريا في زرع قنابل في منطقة عكار الشمالية السنية. وعندما استقال - بعد أيام فقط من إعلان السعودية عن سحب استثماراتها من لبنان - أدان ريفي أيضاً «حزب الله» على إلحاقه الضرر بعلاقات بيروت مع الرياض، وعلى "محاولة السيطرة على الدولة ومؤسساتها". وسبق أن وصف أسلحة «حزب الله» كـ "غير شرعية"، واتهم الحزب باغتيال مسؤول سنّي بارز في "قوى الأمن الداخلي"، كما رفض ما وصفه بـ"المشروع الإيراني" في لبنان.
وتمشياً مع هذه الآراء، يُعتبر ريفي أحد أشد منتقدي النظام السوري أيضاً. ففي الشهر الماضي، دعا بيروت إلى طرد السفير السوري وقطع العلاقات مع الأسد. كما أنه يرفض ترشّح كل من عماد عون والنائب سليمان فرنجية - صديق شخصي مقرّب من الأسد - للرئاسة. وفي الوقت نفسه، كان قد أدان الحريري مراراً على تفاوضه مع «حزب الله» وعلى دعوته لانتخاب فرنجية وعون، معتبراً أن زميله الزعيم السني قد "فقد سلطته". وكانت هجمات ريفي حاقدة جداً، إلى درجة أن المفتي السني في طرابلس تدخّل للدفاع عن الحريري في الشهر الماضي، وتساءل "ما الفائدة من إطلاق [هذه] الصواريخ المشعلة [للفتنة] [ضد زميل سني]؟"
من الواضح أن طائفية ريفي غير الخجولة قد زادت من شعبيته، على الأقل في الوسط السني الطرابلسي. ففي أيار/مايو، فازت إحدى اللوائح الانتخابية المنتسبة إليه بثمانية عشر من أصل أربعة وعشرين مقعداً في المجلس البلدي في طرابلس، ملحقةً الهزيمة بلائحة "14 آذار". وأدى هذا الأداء المذهل إلى تكهن البعض بأن ريفي يتلقّى تمويلاً من الخارج، وربما من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف، الذي تدهورت علاقته مع الحريري بعد تسريب تسجيل صوتي في عام 2005 زُعم أنه كان مهيناً للأمير. ووفقاً لموقع "بيروت أوبزرفر"، إن جاذبية ريفي بالنسبة إلى الرياض هي أنّه "يمثّل نبض الرفض السني للتنازلات".
التداعيات السياسية
خلال معظم السنوات الثماني الماضية، ركزت إدارة أوباما سياستها تجاه لبنان وبشكل حصري تقريباً على تعزيز الأمن في هذه الدولة المثقلة بالمشاكل، وفرض عقوبات مالية على «حزب الله»، وتشجيع انتخاب رئيس للبلاد. ومع ذلك، ففي الآونة الأخيرة، تراجع الزخم لتنفيذ النقطة الثانية ضمن سلّم أولوياتها، وهي دعم المعتدلين المحليين الموالين للغرب، وخاصّةً ضمن المجتمع السّنّي اللبناني. وإلى جانب الانهيار المالي والتهميش السياسي اللّذين عانى منهما الحريري، تزايد الاستقطاب بين السّنّة وخفّت سلطتهم السياسية في بيروت. وقد عاد ذلك بالفائدة ليس فقط على السياسيين الشعوبيين مثل ريفي، بل على الإسلاميين أيضاً، الذين يقضمون في قاعدة دعم الحريري ويُقوضون تحالف "14 آذار" التي اعتوره الضعف. وإذا تم الاستمرار في هذا الاتجاه، قد يبدأ السنة في لبنان يشبهون المجتمع المسيحي المنقسم، وسيتركون الشيعة بقيادة «حزب الله» يشكّلون الكتلة السياسية الطائفية الوحيدة المتّحدة في البلاد.
وفي هذا الصدد، لن تؤدي سياسة عدم التدخل التي تتبعها واشنطن والانسحاب المالي والسياسي للمملكة العربية السعودية، إلّا إلى ضمان زيادة النفوذ الإيراني ونفوذ «حزب الله» في لبنان. ومع اتخاذ الأسد وضع الهجوم في البلد المجاور، فإن الحفاظ على التوجه الموالي للغرب في بيروت يجب أن يكون ثانية هدفاً أساسياً في سياسة الولايات المتحدة. إن الحد من دور إيران المتضخّم بالفعل في لبنان، يعني عكس السياسة الموالية لإيران التي تعتمدها واشنطن فعليّاً في سوريا، والتي تعزز نظام الأسد وتقوّض علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها السنة التقليديين في المنطقة. وفي الوقت نفسه، يتعين على الإدارة الأمريكية استهداف «حزب الله» على جبهتين: أوّلاً، من خلال فرض المزيد من العقوبات المالية عليه، وثانياً، من خلال العمل مع القيادة السنية اللبنانية، لتعزيز التوافق وإحياء نشاط تحالف "14 آذار" لكي يتمكن من مواجهة «حزب الله» سياسيّاً. يجب على الولايات المتحدة إقناع الرياض أيضاً بالانخراط مجدداً في الحياة السياسية اللبنانية. وفي كُلّ الأحوال، لطالما كانت البلاد ساحةً للقوى الأجنبية، لذلك من المؤكد أن إيران ووكلائها لن ينسحبوا من البلاد. وفي غياب الدعم الخارجي الفعّال لبيروت، ستزيد طهران من سيطرتها على لبنان، كما فعلت في العراق وسوريا.
ديفيد شينكر هو زميل "أوفزين" ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.