- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الستار الحديدي في منطقة الساحل
تستغل روسيا الانقلابات الأخيرة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر لترسيخ وجودها في منطقة الساحل. لكن تكتيكاتها العشوائية في مكافحة الإرهاب تأتي بتكلفة على قواتها والأنظمة التي تحميها.
هيأت الحكومات الضعيفة والفاسدة التي تمتلك موارد محدودة وتواجه تمردات نشطة الظروف للمجلس العسكري بالاستيلاء على السلطة في بوركينا فاسو ومالي، ومؤخرًا في النيجر. وألقت جيوش المنطقة اللوم في أعمال العنف المستمرة على القادة المدنيين والقوات الأجنبية، وخاصة فرنسا، التي اعتبرتها غير كفؤة. بالإضافة إلى ذلك، أدى التدخل المتصور للولايات المتحدة وفشل سياستها الخاصة بمكافحة الإرهاب في معالجة المظالم المحلية إلى تحفيز تجنيد الجماعات المتمردة مثل "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" وتنظيم "الدولة الإسلامية- ولاية الساحل". وقد أدى التضليل الروسي، الذي يمثل، وفقًا لمركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، ما يقارب نصف حملات التضليل في غرب أفريقيا، إلى تفاقم هذه الإخفاقات من خلال استهداف الولايات المتحدة واستخدام مواضيع معاداة الإمبريالية والاستعمار الجديد لتأجيج المشاعر المعادية للغرب. وعند وقوع الانقلابات، طُلب من الولايات المتحدة بموجب القانون قطع المساعدات الأمنية، ما أنهى أكثر من عقد من الاستثمار في البنية التحتية الأمنية لمنطقة الساحل، ومنح روسيا فرصة في المنطقة.
اغتنام الفرصة
توفر روسيا الحماية للأنظمة العسكرية في منطقة الساحل مقابل الوصول إلى الموارد الطبيعية ذات الأهمية الاستراتيجية مثل الذهب، ما يساعدها في التحايل على العقوبات الغربية وتمويل الحرب في أوكرانيا. ولم يتكبد الكرملين تكلفة باهظة بإرسال المتعاقدين العسكريين الخاصين إلى منطقة الساحل، ما سمح لروسيا بجني مكاسب كبيرة من استثمارات صغيرة. وتمكنت موسكو من الاستفادة من البنية التحتية القائمة التي بنتها مجموعة "فاغنر" في ليبيا لتسهيل هذا الوجود. فقد استخدمت روسيا القواعد الجوية في المناطق التي يسيطر عليها أمير الحرب المتمركز في الشرق خليفة حفتر كمحطات فنية للرحلات الجوية العسكرية التي تحمل المعدات والأفراد المسافرين من القواعد الروسية في سوريا إلى مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، من بين دول أخرى. ومؤخرًا، استخدمت روسيا ميناء طبرق لتزويد عملياتها بالإمدادات في أفريقيا، كما حدث في نيسان/إبريل 2024 عندما قامت سفينة شحن روسية بحسب التقارير بإفراغ ما يصل إلى 6000 طن من المعدات العسكرية المخصصة على الأرجح للأفراد الروس في ليبيا ومنطقة الساحل. وبحسب ما ورد كانت هذه الشحنة الخامسة من نوعها خلال الـ 45 يومًا الماضية.
وبينما نأت الولايات المتحدة ودول أخرى بنفسها عن قادة المجالس العسكرية، قامت روسيا باحتضانهم. فقد أصبح السفير الروسي في مالي أول دبلوماسي أجنبي يلتقي بممثلي القادة العسكريين الذين استولوا على السلطة في آب/أغسطس 2020. وطلبت مالي لاحقًا المساعدة من شركات عسكرية خاصة روسية لمحاربة المتمردين الإسلاميين لقاء حوالي 6 مليارات فرنك أفريقي (10.8 مليون دولار) شهريًا مقابل التدريب العسكري وتوفير الحماية لكبار المسؤولين. وبحلول كانون الثاني/يناير 2022، أكدت السلطات المالية وجود حوالي 400 عسكري روسي، بما في ذلك مجموعة "فاغنر". وبلغ هذا الوجود ذروته مع تخطي العدد 2000 عسكري في أوائل عام 2023، فيما تشير التقديرات الحالية إلى وجود حوالي 1000 جندي روسي.
بعد أن تولى إبراهيم تراوري السلطة في بوركينا فاسو، هنأه يفغيني بريغوجين ووصفه بأنه "ابن شجاع ومخلص حقًا لوطنه الأم". وأعلن مصدر مقرب من حكومة تراوري في عام 2023 أن بوركينا فاسو تتوقع وصول مدربين روس لتدريب الجنود على كيفية استخدام المعدات المشتراة من روسيا. وعلى الرغم من أن تراوري نفى وجود قوات روسية أو مجموعة "فاغنر"، أشار إلى روسيا كحليف استراتيجي ومورّد رئيسي للمعدات العسكرية. وبحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وصل حوالي 20 عسكريًا روسيًا إلى بوركينا فاسو، تلاهم ما يقارب 100 عسكري روسي في كانون الثاني/يناير 2024. وتشير التقديرات الأخيرة إلى أن العدد الإجمالي للأفراد العسكريين الروس يتراوح بين 200 و300، بما في ذلك أعضاء مديرية المخابرات الرئيسية الروسية، و"فيلق أفريقيا"، وجنود "فاغنر" السابقين و"لواء الدببة".
كانت روسيا والنيجر تعملان على زيادة تعاونهما الأمني قبل وقت طويل من انقلاب 2023. فقد وقّعت روسيا في السابق مسودة اتفاقية تعاون عسكري مع النيجر ووافقت على تزويدها بـ 12 مروحية هجومية من طراز "مي-35"، لكن العلاقات الأمنية توسعت بعد أن ألغت النيجر اتفاق التعاون العسكري مع الولايات المتحدة في آذار/مارس عقب اجتماع اتهم فيه مسؤولون أمريكيون النيجر بدراسة صفقة لبيع اليورانيوم لإيران. (وقد سعت روسيا أيضًا إلى الاستحواذ على أصول اليورانيوم في النيجر التي تمتلكها شركة "أورانو إس إيه"، وهي شركة فرنسية عمد المجلس العسكري مؤخرًا إلى سحب تصريحها الخاص بإنشاء منجم كبير لليورانيوم). وبعد مفاوضات مكثفة، صدرت أوامر للجيش الأمريكي بسحب أفراده من البلاد ووقف عملياته القائمة على الطائرات بدون طيار في القاعدة الجوية 201 في أغاديس، والتي كلف بناؤها 110 ملايين دولار واستضافت في السابق أكثر من 1100 فرد عسكري أمريكي. وفي الشهر التالي، أعلنت النيجر عن وصول مدربين وأفراد عسكريين روس، عبر بعضهم ليبيا بحسب ما ورد. وتمركزت القوات الروسية القادمة على مقربة من القوات الأمريكية في قاعدة في نيامي، ما يشير إلى تغيير الحرس ضمن تنافس القوى العظمى الذي تشهده منطقة الساحل.
شراكة أم تبعية؟
على الرغم من تدفق المعدات العسكرية والأفراد، أثبتت روسيا أنها شريك أمني غير موثوق به، خاصة بسبب تكتيكاتها المتطرفة ولكن غير الفعالة في مكافحة الإرهاب. فقد تورطت مجموعة "فاغنر" في مجزرة سقط ضحيتها مئات المدنيين في مالي في آذار/مارس 2022، واتهم تقرير حديث لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" مجموعة "فاغنر" بتنفيذ ضربات عشوائية بطائرات بدون طيار وعمليات قتل بإجراءات موجزة. لكن في عام 2023، سُجل ما يقدر بنحو 11643 حالة وفاة مرتبطة بالعنف الإسلامي المتشدد في منطقة الساحل، في زيادة تقارب ثلاثة أضعاف عن عام 2020 عندما شهدت المنطقة أول انقلاب عسكري. بالإضافة إلى ذلك، قُتل العشرات من مقاتلي "فاغنر" الشهر الماضي في كمين نصبه انفصاليون من "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" والطوارق بالقرب من تنزاواتن في شمال مالي، في أسوأ خسارة معروفة على الإطلاق للمرتزقة الروس في أفريقيا. باختصار، قدّر تقرير صدر في مجلة "سي تي سي سينتينيل" عام 2022 أن "فاغنر" أشرفت على تدهور الوضع الأمني في مالي وكانت تفاقم التهديد الجهادي في منطقة الساحل.
ومن المفارقات أن عجز روسيا عن الحد من تهديد مكافحة الإرهاب لن يؤدي إلا إلى زيادة اعتماد جيوش الساحل على مساعدتها. فالوضع المتدهور يلقي بظلال من الشك على قابلية استمرار الأنظمة التي بنت مصداقيتها على الحد من العنف الإسلامي على المدى الطويل. وبالتالي، أصبحت المجالس العسكرية أكثر اعتمادًا على روسيا لضمان استمرار نظامها. على سبيل المثال، أرسلت روسيا في حزيران/يونيو ما بين 80 و120 فرد من عناصر "فيلق أفريقيا" الروس والقوات المالية إلى بوركينا فاسو لضمان سلامة تراوري والمساعدة في قمع تمرد في الجيش عقب هجوم شنه متمردون أدى إلى مقتل أكثر من 100 جندي. ولن يؤدي هذا التركيز الجديد على استمرارية النظام بدلًا من مكافحة التمرد إلا إلى تفاقم الوضع الأمني.
الآفاق المستقبلية
إن روسيا راضية عن الوضع الراهن طالما أنها تحافظ على نفوذها لدى المجالس العسكرية التي تمنحها قدرة الوصول إلى الموارد المربحة في منطقة الساحل. لكن عدم الاستقرار في المنطقة، والذي تفاقم بسبب الوجود الروسي، بدأ بالانتشار، ما يجعل الوضع الراهن أقل قابلية للاستمرار بالنسبة للدول المجاورة. علاوة على ذلك، يهدف التفكك المحتمل للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، بعد القرار الذي اتخذته مالي وبوركينا فاسو والنيجر بالانسحاب من المجموعة وتشكيل اتحاد كونفدرالي، إلى التنافس مع الكتلة، ولن يؤدي إلا إلى تعقيد الوضع أكثر. وستكون قدرة ما يسمى بتحالف دول الساحل على كبح العنف الإسلامي في منطقة كيدال في مالي، حيث وقع الكمين المميت الذي استهدف مرتزقة روس الشهر الماضي، بمثابة اختبار فعلي لمستقبل الاتحاد الكونفدرالي الجديد.
لا ينبغي بالولايات المتحدة وشركائها تجاهل النفوذ الروسي المتزايد في منطقة الساحل. فوجود روسيا يفاقم الفوضى التي تعاني منها المنطقة ويساهم في تدفق المهاجرين نحو أوروبا والضغوط التي تلقي بثقلها على الحكومات في المناطق الساحلية وشمال أفريقيا. وصحيح أن النزاعات في أوكرانيا والشرق الأوسط تستحوذ على انتباه واشنطن عن حق، ولكن من المهم ألا تغض الولايات المتحدة الطرف عن غرب أفريقيا مع استمرار تنامي وجود روسيا العسكري والدبلوماسي والاقتصادي، فضلًا عن شعبيتها.