- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
السياسة الخارجية لـ "السيسي" المستمدة من سياسته الداخلية
عند اندلاع المظاهرات الجماعية في مصر في تموز/يوليو 2013 ومبادرة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السياسي إلى الردّ عليها بالإطاحة بأول رئيس منتخب للبلاد، زعيم «الإخوان المسلمين» محمد مرسي، سارع حلفاء القاهرة في الخليج لإنقاذ الاقتصاد المصري من الغرق. وفي غضون أشهر، أرسلت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت مساعدات قُدّرت بنحو سبعة مليارات دولار، وتعهدت بمساعدات إضافية بقيمة 12 مليار دولار بعد فوز السيسي بالانتخابات الرئاسية في أيار/مايو 2014 دون منافسة تُذكر. وقد عكس الدعم المقدّم من هذه الدول الخليجية مخاوفها من جماعة «الإخوان المسلمين»، إذ رأت فيها تهديداً لها بحكم أهداف الهيمنة المعلنة لدى «الجماعة»، ناهيك عن خشيتها من التداعيات المدمّرة لانهيار الاقتصاد المصري على المنطقة التي أصبحت تتفكك بوتيرة متسارعة.
إلّا أن الحلفاء الخليجيين نظروا إلى أبعد من هذه المخاوف الآنية واعتبروا سخاءهم تجاه مصر بمثابة استثمار في أمنهم الخاص على المدى البعيد. فقد اعتبروا أن قوة مصر التي تملك الجيش الأضخم في العالم العربي سوف تساعدهم على التصدي للنفوذ الإيراني المتوسع في سوريا والعراق واليمن. وبالفعل بدا أن السيسي وعد بمثل هذا الدور المصري حين قال للملك سلمان في آذار/مارس 2015 إنّ أمن الخليج "خط أحمر" و"جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري"، ووافق أيضاً بعد ذلك بفترة وجيزة على مشاركة مصر في قوة عسكرية عربية مشتركة.
وبعد مرور أربع سنوات على الإطاحة بمرسي، نجحت المساعدات الخليجية في تحقيق هدفَيها الأوّلين. فقد قمعت الحكومة المصرية جماعة «الإخوان المسلمين» وتسببت بتقسيمها وتعطيلها على الساحة السياسية، على الأقل في الوقت الراهن. وبينما لا تزال مصر تتخبط اقتصادياً، إلا أنها وجدت طريقاً لتدبير أمرها على الرغم من تراجع عائداتها من الاستثمار الأجنبي المباشر ووارداتها من السياحة. إلا أن الكثير مما يثير استياء حلفائها هو أن مصر لم تصبح مرساةً لتحالف عربي سني أوسع ضد إيران. وبدلاً من ذلك، صاغ السيسي السياسة الخاصة به - التي تنسجم في بعض الأحيان مع مصالح حلفائه الخليجيين وتتناقض معهم طوراً، ولكنها سياسة تتّبع دائماً النمط نفسه، وهو دعم السيسي للجهات الحكومية كلما كانت في صراع مع الجهات غير التابعة للدولة.
وكما أشار «مايكل حنا» من مؤسسة "ذي سينتشوري فاونديشن"، تبدو توقعات السياسة الخارجية للسيسي امتداداً لسياسته المحلية. ففي الداخل المصري، يرى السيسي نفسه زعيماً يقف بوجه كل من يسعى إلى الفوضى، وأبرزهم «الإخوان المسلمين». ووفقاً لـ وجهة نظر الحكومة المصرية، "أنقذ" السيسي مصر من «الإخوان» الذين يسعون إلى انهيار الحكومة المصرية وإقامة نظام حكم ديني إسلامي. وفي المقابل، يجادل المسؤولون المصريون باستمرار بأن الدولة القوية (ويقصدون القمعية) ضرورية لمنع عودة «الإخوان» وما قد ينشأ عنها من اضطرابات. وهذا ما أكّده السيسي في الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2016، حيث لم يعرّف الإرهاب بأنه عنف ترتكبه أطراف غير دولية بحق السكان المدنيين بل أنه "تهديداً لكيان الدولة". وتعزيزاً لمركز السيسي في بلاده، تعْمَد وسائل الإعلام الموالية للحكومة إلى تسليط الضوء بانتظام على العنف الذي يمارَس في ليبيا واليمن وسوريا كأمثلة عمّا قد يحدث إذا تم السماح للإسلاميين بتحدّي الدولة المصرية.
وبحكم تفضيل السيسي القوي للأطراف الحكومية على الأطراف غير الدولية، فقد اختلف بشكل حاد مع حلفائه الخليجيين حول النزاع السوري. فقد مالت دول الخليج إلى رؤية النزاع السوري من منطلق مخاوفها الأكبر من النفوذ الإيراني المتوسع في المنطقة، كما دعمت بشدة الإطاحة بنظام بشار الأسد المدعوم من إيران. وقد أيّدت الحكومة السعودية كما دعم بعض الكويتيين بسخاء مختلف الجماعات المتمردة الإسلامية السنية، وبعضها مرتبط بتنظيم «القاعدة» أو يتعاون مع فروع تنظيم «القاعدة»، في حين ساهمت الإمارات بتمويل صندوق متعدد الدول لتسليح الجماعات المتمردة المعتمدة وتعمل بشكل ناشط على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا كجزء من قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة.
مع ذلك، فإن السيسي أقل قلقًا بشأن النفوذ الإيراني في المنطقة من قلقه من النتائج التي قد تترتب عن كسب الجماعات الإسلامية السنية اليد العليا. فمن وجهة نظر السيسي، غالباً ما يبدو هؤلاء المتمردين مشابهين للإسلاميين الذين يحاربهم في بلاده، ولم ينفك يبرهن عن تفضيله للأسد بصورة متزايدة. وفي أحد اجتماعات الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر، أعربت مصر صراحةً عن اختلافها مع حلفائها الخليجيين عندما التقى وزير الخارجية المصري بنظيره الإيراني على هامش اجتماع الجمعية العامة ومن ثم صرّح للصحافة أن "التحالف الذي يقاتل في سوريا ربما يسعى إلى تغيير النظام في البلاد، ولكن هذا ليس موقف مصر". وبعد ذلك في تشرين الأول/أكتوبر، أيدت القاهرة قراراً روسياً صدر عن مجلس الأمن الدولي، بينما عارضته السعودية بشدة، وبعد بضعة أيام استضافت مصر رئيس المخابرات السورية لإجراء محادثات، وفقاً لوكالة الأنباء السورية، انتهت بإبرام اتفاق بشأن "تعزيز التنسيق في الحرب على الإرهاب". ومنذ ذلك الحين ساد الجمود العلاقات المصرية السعودية (وما جعل الأمور أكثر سوءأ هو تأخير القاهرة في استكمال نقل اثنين من جزر البحر الأحمر، صنافير وتيران، إلى الرياض).
وفي أحيان أخرى، كان تفضيل السيسي للأطراف الحكومية متماشياً مع مسار حلفائه الخليجيين. فحين استولى المتمردون الحوثيون المدعومون من إيران على صنعاء في أيلول/سبتمبر عام 2014، وقفت مصر إلى جانب حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وانضمت إلى التحالف بقيادة السعودية والإمارات وأرسلت قواتها البحرية لحماية باب المندب في آذار/مارس عام 2015. وبينما استمر السيسي بدعم هادي على الصعيد السياسي، وشمل ذلك لقاء جمعه به على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر، أصبحت اليمن على نحو متزايد نقطة احتكاك بين القاهرة وحلفائها في الأشهر الأخيرة، وقاوم السيسي مناشدات السعودية بإرسال المزيد من القوات. ويعكس ذلك إلى حدٍّ ما التركة التي خلّفها الانخراط المصري المكلف في اليمن ما بين عامي 1962 و1966، فضلاً عن رغبة السيسي في تفادي التورط الأعمق في مستنقع يمني آخر. كما يُعتبَر ذلك إحدى نتائج انتصارات الحوثيين: فلا يزال الحوثيون يسيطرون على غالبية البلاد، بما فيها العاصمة، في حين لا يزال هادي في المنفى. وأدى ذلك إلى تلاشي الاختلاف بين الجهات الحكومية والجهات غير الدولية في اليمن، مما ترك السيسي دون حصان يراهن عليه بقوة.
وقد واجه السيسي في البداية معضلة مماثلة في ليبيا، حيث تسبب تفكك الدولة بعد الإطاحة بالدكتاتور معمر القذافي، الذي بقي في منصبه لمدة طويلة، في عام 2011 باندلاع حرب أهلية بين الميليشيات المتعددة. وفي غياب جهة حكومية واضحة يمكن لمصر أن تدعمها، ركّزت البلاد اهتمامها بدلاً من ذلك على التصدي للميليشيات الإسلامية. وأفادت بعض التقارير أن مصر تعاونت مع الإمارات من أجل شن سلسلة من الضربات الجوية في آب/أغسطس 2014، وأطلقت جولة أخرى ضد أهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا بعد أن أعدم التنظيم 21 مصرياً مسيحياً بقطع الرأس في شباط/فبراير 2015.
بيد أن الانتصارات التي حققها اللواء خليفة حفتر على أرض المعركة ضد الإسلاميين، فضلاً عن تعيينه من قبل "مجلس النواب" لقيادة "الجيش الوطني الليبي" في آذار/مارس 2015، حفزت تحولاً في السياسة المصرية. فبينما أيدت القاهرة رسمياً المفاوضات التي قادتها الأمم المتحدة وأسفرت عن اتفاق سلام (متأرجح) في كانون الأول/ ديسمبر عام 2015، أصبح السيسي اليوم يؤيد حفتر بالرغم من الاشتباكات المتواصلة بين "الجيش الوطني الليبي" والقوى الموالية للحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس. وفي هذا السياق تؤيد مصر رفع حظر الأسلحة المفروض على الجماعات الليبية لكي تتمكن من تسليح "الجيش الوطني الليبي"، كما استضاف مسؤولون في الاستخبارات والجيش المصري اللواء حفتر في عدة مناسبات. ويبدو أن السيسي يرى في حفتر قريناً له، أي رجل عسكري يحارب الإسلاميين، وبعضهم مدعومون من قطر، التي تدعم أيضاً جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. وقد شرح السيسي في نيسان/أبريل 2016، أن "مصر تدعم «الجيش الوطني الليبي» الممثل باللواء حفتر لأنها تعتبر أن ذلك أفضل وسيلة للتخلص من الإرهاب ومساعدة ليبيا على التعافي".
وفي المقابل، كان للسياسة الخارجية للسيسي ثمنها في غالب الأحيان. فنتيجةً لتفضيله للأسد وعدم استعداده للانخراط أكثر في اليمن، أعلنت الرياض في تشرين الأول/أكتوبر أنها ستوقف المساعدة النفطية التي وعد بها الملك سلمان خلال زيارته إلى القاهرة في نيسان/أبريل 2016، بينما تبدو الإمارات متريثة فيما يتعلق بالاستثمارات المستقبلية في مصر. ولكن منهج السيسي الأحادي ما هو إلى حدٍّ ما سوى عاقبة من عواقب النزعة القومية لنظامه. فقد قال لي مسؤول مصري رفيع المستوى في كانون الأول/ ديسمبر، "إننا نقدّر الدعم السياسي والمعنوي [من الخليج] حتى أكثر من الدعم المادي. ولكن بالنسبة إلى إخواننا وأخواتنا في الخليج، فإن حماية مصر بعد [سقوط مرسي] كان بهدف حماية أنفسهم [من «الإخوان»]... ونحن نحترم سيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وبوسعهما الاتصال بمن تشاءان، ولكن يجدر بهما الحفاظ على حقنا في ذلك."
وبعبارة أخرى، سيعتمد السيسي مقاربة "مصر أولاً"، وتتوقع القاهرة من الجميع أن يحذو حذوها. ومع ذلك، إذا كانت دول الخليج الغنية بالنفط تعتقد أنها لا تستطيع مواجهة تحديات المنطقة وحدها، فسيكون من غير الواضح لماذا يعتقد بلد فقير الموارد مع تحديات هيكلية وأمنية شديدة أنه يمكنه أن يفعل ذلك.
إريك تراجر هو زميل "استير ك. واغنر" في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب "الخريف العربي: كيف ربح «الإخوان المسلمون» مصر وخسروها في 891 يوماً".
"كارافان"