- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
السياسة التوافقية والديمقراطية في تونس: تحديات الإصلاح السياسي
أحيت تونس يوم 14 كانون الثاني/ يناير الذكرى التاسعة للثورة التّي أطاحت بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في ظلّ أجواء اجتماعية وسياسية تتّسم بـالاحتقان ووضع اقتصادي صعب وهشّ. وفي حين ينعم المُواطن التُونسي بحُريّة التعبير بعد أنّ ألجمت الأفواه لعُقود، يطول انتظاره لتحسين مُستوى معيشته واقتصاده.
يراقب التونسيون عن كثب الإخفاقات الأخيرة في عملية تشكيل حكومة، وهي عملية استمرت منذ الانتخابات التي عقدت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر. وبعد مرور شهر على الاحتفال بالذكرى السنوية للديمقراطية التونسية، قدم مبعوث رئيس الوزراء مرة أخرى اقتراحًا حكوميًا جديدًا، بعد الرفض البرلماني للحكومة التي اقترحها الحبيب الجملي في العاشر من كانون الأول/ يناير. ومن ثم، تثير الصعوبات المستمرة الذي واجهتها الدولة بعض التساؤلات لدى التونسيين حول مستقبل التحول الديمقراطي في بلادهم.
أفرز قانون الانتخابات في تونس ونظام الحُكم الهجين الذّي يتم فيه تقاسم السلطة التنفيذية بين رئيس الوزراء والرئيس، برلمانًا يتكون من كتل معزولة ومختلة وظيفياً، حيث فشلت في الاندماج وفي تشكيل هيئة حاكمة فاعلة. كما لم تسمح السياسة التوافقية للحزب الفائز بالانتخابات أن يحكُم بمُفرده بل فرض عليه الدخول في سياسة توافقية حتّى يستطيع تشكيل حُكومة.
وبالطبع كان هذا خيارًا متعمدا حيث تبنت تونس المزيد من سياسات التوافق بتشكيل حكومة ائتلاف إسلامية علمانية كبرى في عام 2015، ومضت في تلك السياسة حتى وقتنا هذا. ومع ذلك، قد يكون هناك تركيز كبير على الإجماع الذي يأتي على حساب قضايا أخرى مرتبطة بالحكم في تونس. وبعبارة أخرى، أصبحت أليات " الديمقراطية التوافقية: تمثل عقبة أمام التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي في البلاد.
وتحت شعار التوافقية، تخلت الدولة عن قضايا ضرورية، مثل العدالة الانتقالية، وإصلاح قطاع الأمن ولم يتسنى لها اتخاذ إجراءات جريئة بشأن الاقتصاد أو تشكيل المحكمة الدستورية. أدّت أيضا تلك السياسة التوافقية إلى تطبيق نظام المُحاصصة الحزبية وملء المناصب بمسؤولين تنقصهم الكفاءة اللاّزمة والوعي السياسي المطلوب، ويفتقرون إلى التجربة في إدارة شؤون البلاد. وقد فتح الباب على مصراعيه لتفشّي الفساد والمحسوبية.
هذا الوضع المزرى دفع الناخبين التونسيين وخاصّة الشباب الى مقاطعة العمل السياسي، حيث قّررت فئة الشباب مُعاقبة الأحزاب على تقصيرها وتراخيها في مُعالجة المشاكل الكبرى التّي تتخبّط فيها البلاد منذ الثورة وعلى رأسها البطالة والفقر وقد انعكست تلك الإجراءات العقابية في ضعف نسبة الإقبال على الانتخابات التشريعية عام 2019 (أقلّ من 42 بالمائة) مقارنة بالانتخابات السابقة.
طالت تلك الإجراءات العقابية أيضا الحزب الإسلامي (حركة النهضة) الذي حصل مرشحوه على نحو 52 مقعد بالبرلمان مُقارنة ب 89 نائبا في 2012 و67 نائبا في 2014. ُويفسّر هذا التراجع عدم رضا التونسيين على سياسة حركة النهضة وفشلها في تحقيق أهداف الثورة.
جلبت المواقف "الحداثية" أيضا لحركة النهضة الكثير من الانتقادات حتّى من داخل اليمين الإسلامي الذّي يعتبر أنّ النهضة حركة علمانية فرّطت بشكل مُتواصل في كثير من قضايا الإسلام، وخُصوصًا قضايا الأحوال الشخصية وحُقوق المرأة والإرث. تلك القضايا أحدثت انشقاق كبير بين النهضة بين النهضة وزعامات مُتعدّدة على جانبي الطيف السياسي.
ومع ذلك، لا يتحمل حزب النهضة وحده كل اللوم على تلك السياسية الهزلية، حيث أن جميع الحُكومات المُتعاقبة على حُكم تونس بعد الثّورة هي في حقيقة الأمر حُكومات خالية من أيّ برنامج سياسي أو اقتصادي، وخالية من تصوّر عام لشؤون البلاد أو استشراف للمُستقبل. فهي فقط كانت حُكومات لتصريف الأعمال اليومية دون رؤية واضحة أو استراتيجية في الحُكم. وقد تجلى ذلك الأداء في ارتفاع حجم الديون، وعجز الميزان التجاري وانهيار سعر الدينار. ونتيجة لذلك فُقدت الثقة بين تلك الحكومات وبين الشعب وبين الشعب، وفشلت القُوى والأحزاب السياسية في أن تتحوّل إلى قُوّة شعبية فعالة، حيث ظلّت في غالبها مُجرّد قُوى نُخبويّة تُمارس عملاً نضالياً دون القُدرة على تفعيل التواصل مع الشارع أو تقديم برامج ملموسة تصب في مصلحة المواطن.
إضافة الى ذلك، يعكس اختيار الناخبين التونسيين للرئيس مدى إحباطهم من الوضع الراهن، كما يشير الى احتمال تنامى الدعم الشعبي المطالب بمراجعة نموذج الديمقراطية التوافقية برمته. انعكست أيضا حالة الإحباط الشعبي في حصول أستاذ القانون قيس سعيد على نسبة ساحقة من الأصوات تجاوزت (72 بالمائة)، وهي نسبة لم يصل إليها أي رئيس بعد الثّورة. وقد عُدّت هذه النسبة بمثابة استفتاء شعبي.
وفى خضم حالة الركود التي تعصف بالكتلة السياسية الحالية في البرلمان التونسي، خرجت بعض الأصوات لتنادى بتأسيس "حكومة الرئيس"، وهي أصوات بعضها يستندُ على القاعدة الشعبية التّي يحظى بها الرئيس. كما خرجت بعض الأصوات لتنادى بضرورة تغيير طبيعة النظام السياسي ليصبح نظاما رئاسيا إلى حين تعديل الدستور. وقد تضع تلك الصعوبات التي تواجه عملية تشكيل الحكومة الجديدة الرئيس أمام واحده من أشدّ الاختبارات التّي يُمكن أن تواجهها الديمقراطية الناشئة في هذا البلد.
ومع ذلك، يبدو أن البديل سيكون أكثر قساوة إذا فشل الاقتراح الأخير في تشكيل الحكومة، حيث انه من المحتمل أن تلجأ القيادة السياسية التونسية بشكل متزايد إلى الدعوة إلى عقد انتخابات جديدة، وهو خيار سيكون مُرهقا ومُتعبا للتونسيين الذّين توجّهوا لصناديق الاقتراع ثلاث مرّات خلال شهر واحد فقط، وقد يفرز ذلك تحركًا شعبيًا نحو مقاطعة الانتخابات تمامًا – وهي إشارة تحذير جدية لا يمكن الاستهانة بها في أي نظام ديمقراطي.
أمام هذه الظروف يستوجب على الأحزاب التي تسعى لتجنب تلك الخيارات الكبيرة أن تعمل على تغيير نوعية خطابها السياسي من حيث الهيكلة والتنظيم والتوجّهات والرُؤى العامّة بما يُعطي للمواطن الذي صنع الثورة فُرصة لأن يجد مكانه في النظام السياسي الجديد. كما يجب الاهتمام بالتكوين والتدريب السياسي للشباب داخل الأحزاب، وتقديم برامج واقعية ومعقولة تمسّ كافّة شرائح الشعب.
وتشمل التدابير الاقتصادية الإصلاحية الأخرى التي يجب أن تتخذها الحكومة العمل على مُحاربة الفساد وبعث مشاريع تنموية تنهض بالبلاد والجهات الدّاخلية المحرومة، وتشجيع الاستثمار والشراكة بين القطاعين العام والخاصّ. وتشريعيا، يجب العمل على تنقيح الدستور وخاصّة في بابه المُتعلق بنظام الحُكم ومُراجعة القانون الانتخابي وإصدار قانون يمنع "السياحة الحزبية" – التي تسمح للسياسيين بتبديل الأحزاب السياسية بعد الانتخابات - والتي أضرت بصورة المشهد السياسي كثيرا في الآونة الأخيرة، وتفعيل القوانين التّي تُجرّم التلاعب بالانتخابات والتمويلات المشبوهة للأحزاب والجمعيات.
تواجه الدولة مهمة شاقة تتمثل في استعادة أمل الشعب التونسي وتقديم رسائل مطمئنة حول المستقبل، وبالتالي تهيئة مناخ من الثقة المتبادلة. لكن هذه كلها عناصر حيوية ضرورية لأي ديمقراطية ناجحة، وهناك مسئولية كبيرة تقع على عاتق النخبة السياسية التونسية تتمثل في الحفاظ على تراث الثورة التونسية خلال عقدها الأول.