- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التعاطف مع الشيطان: لمَ على إيران أن ترى انعكاسًا لنفسها في إسرائيل
إذا أراد القادة الإرانيون أن يسيروا قدمًا في عالمٍ يخضع للحكم العادل نسبيًا للقانون الدولي، الذي على الرغم من كل شوائبه يبقى أفضل من عالمٍ فيه "الأقوياء يفعلون ما يشاؤون، والضعفاء يعانون"، فعليهم أن يتخلّوا عن تلك الادعاءات الباطنية الاستثنائية التي يبغضون بسببها الولايات المتحدة وإسرائيل.
يقول الكاتب الأمريكي لورانس رايت في كتابه "ثلاثة عشر يومًا في سبتمبر"، الذي يتمحور حول عملية السلام الإسرائيلية-المصرية التي أُبرمت رغم فرص النجاح الضئيلة بين عامي 1978 و1979، إنّه مع حلول عام 1978 كان البلدان قد تواجها في أربع حروب في السنوات الثلاثين ما قبل معاهدة السلام هذه – أو بالأحرى خمس حروب إذا ما احتسبنا حرب الاستنزاف بين 1969 و1970. وشكّلت كل من هذه الحروب، باستثناء حرب السويس عام 1956، صراعاتٍ دفاعية ووجودية لإسرائيل.
فلم تكن مصر أو إسرائيل جاهزتين للسلام. ويذكّر رايت أنّه بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى متحف المحرقة اليهودية "ياد فاشيم"، قال له مناحيم بيغن: "لقد رأيت بأمّ عينك ما كان مصير شعبنا عندما سُلبت منه أرضه. لم يأتِ أحدٌ لنجدتنا. وعندها أقسمنا، نحن، هذا الجيل بأكمله، جيل المحرقة والقيامة، قسَم الولاء: ألّا نعرّض شعبنا للخطر بعد اليوم".
وفي اللقاء الأول مع كارتر، شدد بيغن على أنّ إسرائيل قد خسرت واحد في المئة من شعبها في حرب عام 1948، أي ما يوازي 6 آلاف شخص. وقضى حفيد بيغن في أحد التفجيرات في القدس.
ويصف رايت بيغن "بالمتصلّب والشغوف، يحرقه الندم ويملؤه الغضب". ويقتبس رايت عن بيغن جملةً حول تجربته الشخصية تمثّل العواطف التي كانت تدفع به وهي الآتية: "كان علينا أن نكره أوّلًا وقبل أي شيء العجز المروّع وغير المبرر والطويل للشعب الإسرائيلي عن الدفاع عن نفسه على مدى آلاف السنين في عالمٍ وحشيّ. وفي حالتنا، لم تكن هذه الكراهية سوى تعبير عن أسمى المشاعر الإنسانية: الحُبّ".
ويضيف رايت معادلًا التعاطف بنوعٍ من السخرية المأساوية فيقول إنّ بيغن "كان يتجاهل الحجّة نفسها التي يكررها الفلسطينيون حول نضالهم لتخطّي الضعف وتحقيق العدالة. فقد أفقدته الحياة التعاطف مع معاناة الآخرين".
ويكمل رايت:"أخبر كارتر أنّ أولى ذكرياته كانت مشهد جنود بولنديين يجلدون يهوديًا في حديقةٍ عامة. وفي أحد الأيام، كان "زئيف دوف (والد بيغن) يمشي في الطريق مع حاخام عندما حاول شرطي بولندي أن يقصّ لحية الحاخام. 'لم يتردد والدي وضرب يد العسكري بعصاه. وكان هذا التصرّف آنذاك بمثابة فتح الأبواب لحدوث مذبحة”. إلّا أنّ الحاخام وزئيف دوف نجيا بالضرب فحسب. 'وجاء والدي إلى البيت يومها في حالةٍ مذرية، لكنّه كان سعيدًا لأنّه دافع عن شرف الشعب اليهودي'".
واعتزّ بيغن بمثال والده الذي قال "عدنا إلى البيت ونحن ننزف من الضرب، لكننا علمنا أننا لم نُذَلّ".
وعلى الرغم من أنّ القادة الإيرانيين جميعهم، باستثناء عددٍ قليل منهم، قد عاشوا تجربة القمع الشديد والعميق تحت حكم الشاه، فهم يعتبرون أنّ أي تعبيرٍ عن التعاطف مع إسرائيل، أو حتى الاعتراف بالمآسي التاريخية التي عاشها الشعب اليهودي، يكون خيانةً لقضية الفلسطينيين والمسلمين.
ويجمع المحللون الأمريكيون اليوم على أنّ القادة الإيرانيين يحتاجون إلى الحفاظ على العداوة مع الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل تبرير استمرار وجودهم السياسي. إلّا أنّ هذه النظرية قابلةٌ للنقاش. فستحتاج إيران دائمًا إلى قادةٍ حكماء قادرين على التعامل مع تعقيدات العلاقات الدولية وخطورتها وعلى دفع البلاد قدمًا بشكلٍ يحافظ على مصداقية مبادئها الإسلامية التي تشكّل قاعدة الأمن والاستقلال فيها.
وإذا بقي النظام الدولي فوضويًا، أكان ذلك بدرجة أقل أو أكثر، سيتهدد الوجود الإيراني سواء جاء هذا التهديد من الغرب أو الشرق أو من المنطفة نفسها. إلّا أنّه على القادة الإيرانيين توخي الحذر من الانحراف من الاحتراس إلى الإرتياب الذي قد يمنعهم من التعرف على الفرص واستغلالها من أجل تعزيز موقع بلادهم في العالم.
وما من سببٍ يفسّر كيف أنّ التعبير عن الاستعداد للقيام بالتنازلات في ما يخص المسألة الإسرائيلية-الفلسطينية سيضعف إصرار إيران الوطني وجهودها الدبلوماسية الدولية الساعية إلى دعم فلسطين الدولة، بل في الواقع سيزيد ذلك من فعالية هذه الجهود ويخدم مصالح إيران الوطنية.
ويتمثل التنازل الذي ستقوم به إيران بالطبع في تغيير معارضتها المطلقة للوجود الإسرائيلي الذي اعترفت به الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها عام 1947. وبإمكان إيران أن تفعل ذلك من خلال الانضمام إلى مبادرة السلام العربية لعام 2002، فتحقق بذلك سلامًا باردًا – أو حتى تسوية للعلاقات – مع إسرائيل بالارتكاز على تنفيذ حلّ الدولتين مع الحرص على إمكانية زيارة المسلمين للأماكن المقدسة المشتركة.
وإذا أراد القادة الإرانيون أن يسيروا قدمًا في عالمٍ يخضع للحكم العادل نسبيًا للقانون الدولي، الذي على الرغم من كل شوائبه يبقى أفضل من عالمٍ فيه "الأقوياء يفعلون ما يشاؤون، والضعفاء يعانون"، فعليهم أن يتخلّوا عن تلك الادعاءات الباطنية الاستثنائية التي يبغضون بسببها الولايات المتحدة وإسرائيل. وسيتعين عليهم أيضًا أن يعترفوا بأنّ السبيل الوحيد لتحقيق السلام بين الغرب والمسلمين ليس في غزو الأراضي والانحصار، بل من خلال التكيّف المتبادل مع حق الآخر في الوجود واحترام تقاليده الدينية. وهذا المبدأ الوحيد الذي يستحق الدفاع عنه.