أدت عقود من الثقافة المضادة والباطنية في إيران إلى ظهور جيل من الشباب المُطلّع والمترابط الذي بات الآن يطوق للحرية والتغيير.
مع بلوغ الاحتجاجات في إيران شهرها الرابع، عملت الجمهورية الإسلامية على سحقها، فلجأت إلى تطبيق المزيد من التدابير التي تدلّ على اليأس والتي شملت المحاكمات الصورية والاعترافات القسرية وحشد الموالين للنظام. ونفذت مؤخراً عمليات إعدام ربما ستشكل بداية لموجة من هذه العمليات. فيُظهر إعدام الشابَين محسن شكاري وماجد رضا رهنورد البالغَين من العمر 23 عامًا أن النظام مستعد لإراقة الدماء علنًا من أجل قمع الاضطرابات. لكن على الرغم من ممارسة الأعمال الوحشية بالشكلين العلني والمقنَّع تجاه المتظاهرين، لا يبدو أن الاحتجاجات في إيران ستهدأ.
بهدف فهم الدوافع العميقة التي تحث المتظاهرين على العودة إلى الشوارع، يجب الإدراك أن أجيال الإيرانيين الغاضبين من النظام تولي أهمية كبيرة للثقافة الإيرانية المضادة والباطنية، كما يجب الاطلاع على القصص الشخصية عن قتل المتظاهرين الشباب بسبب تحدثهم علنًا ضد النظام. كما أن مقاطع الفيديو والقصص التي يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى ازدياد أصوات المعارضة، بينما يبدو النظام في حيرة من أمره بشأن كيفية التصرف لتهدئة الوضع المتأجج. وفي حين يحاول المحللون والنقاد الذين يراقبون الأحداث من الخارج تصوّر حجم الحركة الاحتجاجية وأهميتها، يتضح أمر وحيد هو الشجاعة والمثابرة اللتان يتحلى بهما هؤلاء المتظاهرين، لا سيما "الجيل زد" في إيران، أي أولئك الذين وُلدوا حول مطلع الألفية وأصبحوا الآن مراهقين وشبابًا.
على الرغم من الموقف الانعزالي وثقافة الامتثال اللذين يتسم بهما النظام الإسلامي، يساعد الآن تأثير المجتمع الباطني الذي بدأ ينشأ منذ عقود في إيران على نزول الشباب إلى الشوارع. فطالما استهلك الشباب الإيرانيون الموسيقى والأفلام الغربية وحاولوا تقليدها داخل إيران. ومهّد نمو هذه البيئة الثقافية المضادة في خلال الأعوام الأربعين الماضية، فضلًا عن إمكانية الوصول إلى العالم الخارجي بشكل غير مسبوق، لظهور جيل جديد يرفض النظام الإسلامي. ففي عصر الإنترنت والقنوات التلفازية الفضائية وعالَم التسوق المدهش، اطّلع "الجيل زد" في إيران على المعارف والأفكار السائدة في العالم الخارجي، وأصبح يدرك جيدًا أن النظام يكذب عليه.
في خلال الثمانينيات، شاعت مسجلات الفيديو في المناطق الحضرية الإيرانية، فتمكّنت مجموعة من الطبقة الوسطى والأثرياء في هذه المناطق الإيرانية من الوصول إلى الأفلام الغربية ووسائل الترفيه الإعلامي التي كان الغرب يوفرها. وتَجسّدَ تأثير الرموز الثقافية الغربية التي تم التعرف إليها من خلال هذه المسجلات في الشعبية والإعجاب اللذين حظي بهما مايكل جاكسون. فعندما كنت في السادسة من عمري، اصطحبتني عمتي إلى حفلة أُقيمت في "حديقة الشعب"، حيث تمكنّا من مشاهدة بعض مقلّدي مايكل جاكسون وهم يرقصون "البريك دانس."
لا شك في أن القاعدة التي فُرضت في منزلنا، وفي كل منزل تقريبًا كما اتضح لي لاحقًا، هي عدم جواز التحدث أبدًا عن مسجل الفيديو إلى أي شخص في المدرسة. وفي الواقع، حظر النظام هذا الجهاز لعدة سنوات، ونفّذ تدابير صارمة لقمع السوق السوداء التي كانت تؤمّن أشرطته. ومع ذلك، كان يمكننا أن نختار أسبوعيًا ما يروقنا من "قوائم" سرية وفّرت مجموعة كاملة من الأفلام والمسلسلات، التي تعيّن علينا مشاهدتها وإعادتها في غضون أسبوع.
من منتصف التسعينات إلى أواخرها، استمر ازدهار الثقافة المضادة الباطنية في إيران، التي غذّتها في الأساس أجهزة مسجلات الفيديو، مع انتشار صحون الأقمار الصناعية على الأسطح في كافة مدن إيران وقراها وضواحيها تقريبًا. وتشير الإحصاءات الرسمية الإيرانية إلى أن 80 في المئة من سكان المناطق الحضرية تمكنوا من مشاهدة القنوات الفضائية. فلم يمرّ أي أسبوع من دون أن تبدو طهران الشمالية كمدينة أشباح عندما يتم عرض مسلسل "باي ووتش" فضائيًا، حتى إن المدينة شهدت في أنحائها إقامة "حفلات" لمشاهدة حلقات متعددة منه. وكنت أعرف المزيد من الشباب في المدرسة الثانوية الذين ألصقوا على جدرانهم صور باميلا أندرسون بدلًا من صور آية الله الخميني.
وبحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عززت إيران بنيتها التحتية الخاصة بشبكة الإنترنت، فأتيحت للإيرانيين فجأةً فرصة التواصل بشكل مباشر مع العالم الخارجي من خلال ارتياد المقاهي المحلية التي توافرت فيها خدمة الإنترنت. وبدأ آلاف الإيرانيين فجأةً يستخدمون غرف الدردشة عبر برنامجَي "بالتوك" و"ياهو"، فتعرفوا إلى العالم مباشرةً من خلال التحادث مع أشخاصٍ ينتمون إلى بلدان مختلفة ولهم خلفيات متنوعة. وتحولت وسائل التواصل الاجتماعي رغم تقييدها إلى منصة أتاحت التعبير الثقافي على نطاق أوسع من أي وسيلة سابقة. وبحسب البنك الدولي، أصبح 84 في المئة من الإيرانيين يتمتعون بإمكانية الوصول إلى الإنترنت بحلول عام 2020. ويجذب المشاهير الإيرانيون الآن ملايين المعجبين على منصات التواصل الاجتماعي مثل "إنستغرام"، حيث يمكنهم النشر عن الموضة والمأكولات العالمية والسفر وحتى أحيانًا عن السياسة المحلية.
يرى النظام وجود نوعٍ من الغدر في هذه الرغبة في التعاطي مع العالم الخارجي، بينما لم تقدّم وسائل الإعلام الغربية سوى تغطية عرضية وعابرة لهذه الحركة على مدى العقود القليلة الماضية. وقد اختبرتُ شخصيًا هذه الديناميكية في عام 1999، عندما أقامت فرقتي أول حفل لموسيقى الروك باللغة الإنكليزية في إيران منذ الثورة. وكانت "هيئة الإذاعة الأمريكية" قد أتت إلى إيران لتغطية الانتخابات النيابية السادسة، فدعونا فريقها إلى الأستوديو الخاص بنا حيث أدّينا عروضًا لفرقتَي "داير سترايتس" و"بينك فلويد" البريطانيتين. ثم اصطحبنا هذا الفريق إلى "جامعة سوره" المتاخمة لمنزل آية الله خامنئي في طهران، وأدّينا بعض الأغاني مثل أغنية "غيت أوفر إت" لفرقة "إيغلز" الأمريكية. وبعد ذلك، أعدّت "هيئة الإذاعة الأمريكية" مقطعًا تلفازيًا عنّا مدته أربع دقائق بعنوان "فرقة الروك الإيرانية."
مع أننا لم نكن نتعاطى المجال السياسي، تغلغلت السياسة في حفلاتنا على غرار أي عمل آخر في إيران. فأصبح أداؤنا يُعتبَر شذوذًا غير مقبول، وبعد إقامة ثلاثة عروض عامة، لم يعد يُسمح لنا بتأدية الأغاني مرة أخرى. وفي النهاية، هاجر نصف أعضاء الفرقة إلى الولايات المتحدة ما إن حاول النظام إسكاتنا. فمن خلال رفض السماح لنا بالتعبير عن أنفسنا، عاملتنا الجمهورية الإسلامية كأعداء، مثلما تفعل الآن مع "الجيل زد" في إيران.
إن مصير الشباب الإيرانيين الذين يجاهدون اليوم على نحو مماثل في ترسيخ هويتهم خارج حدود توقعات النظام الإيراني هو القتل. فسارينا إسماعيل زاده ونيكا شاه كرامي هما متظاهرتان يُزعم أنهما تعرّضتا للاغتصاب والقتل على أيدي قوات الأمن الإيرانية في خلال حركة الاحتجاجات الحالية، ويشكلان مثالين على الحريات التي يقاتل "الجيل زد" من أجلها في إيران، وعلى الحد الذي قد يصل إليه النظام لحرمانه من تلك الحريات.
كانت سارينا في السادسة عشر من عمرها عندما قُتلت في مدينة كرج الواقعة في ضواحي طهران، وكانت ناشطة على موقع "يوتيوب." فتناولت النقاشات التي أجرتها على قناتها مجالات الموضة والتبرج والامتحانات المدرسية. وانتشر مقطع فيديو ظهرت فيه وهي تحرّك شفتيها بالتزامن مع أغنية هوزير بعنوان "خذني إلى الكنيسة"، فحصد ملايين المشاهدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
استخدمت سارينا منصتها أيضًا للتعبير عن إحباطها من القيود المفروضة في حياتها. وتحدثت سارينا في أحد مقاطع الفيديو عن التحديات وجوانب التمييز التي تواجهها كفتاة إيرانية، كما صرّحت برفضها للحجاب الإلزامي. فقالت: "تعلمون أننا لا نحظى بنفس الفرص التي يتمتع بها الفتيان في هذا البلد." وفي مقطع فيديو آخر، تحدثت سارينا عن مدى شعورها بالارتياح عندما انتهت ضغوط الامتحانات المدرسية قائلةً: "أشعر وكأنني تحررتُ فجأةً." ومثل كثيرين آخرين، حملت سارينا هذه الإحباطات وأملها في التغيير إلى شوارع كوهردشت -المجاورة لمدينة كرج- للاحتجاج ضد النظام. وبعد فترة وجيزة، عُثر عليها ميتة في 23 أيلول/سبتمبر بعد أن تعرضت للضرب بالعصي والاغتصاب، وفقًا لـ"منظمة العفو الدولية."
وردت بعض التقارير التي شملت الرسائل النصية على تطبيق "تلغرام"، وأشارت إلى أن سارينا انضمت إلى فتيات أخريات في الشارع في ذلك اليوم، من أجل الاحتجاج على القتل الوحشي الذي تعرّضت له متظاهرة أخرى من المراهقات تُدعى نيكا شاه كرامي. فعلى غرار سارينا، وجدت نيكا إحساسًا جديدًا بالذات والهوية من خلال الإنترنت، لا سيما عبر التواصل مع أقرانها في البلدان الأخرى. وذات يوم، تعرّفت نيكا إلى فتاة تُدعى نيل من مدينة لايبزيغ الألمانية، بينما كانت تستخدم تطبيق "إنستغرام." فتراسلت الفتاتان بانتظام لتتحدثا عن الموسيقى والرسوم المتحركة اليابانية وقصص الجرائم الحقيقية في الغرب، وسرعان ما وقعتا في حب بعضهما البعض. وأخبرت نيل مجلة "تسايت" الألمانية أن نيكا كانت "نصفها الآخر."
لكن بينما كان وضع نيل آمنًا في ألمانيا، جازفت نيكا بهذه العلاقة إلى حد كبير في إيران. فقد وُلدت هذه الفتاة ونشأت في ضواحي طهران، حيث قضّت مضجعها الروايات المعادية للغرب، والمرأة، واليهود والمسحيين، وتلك المناهضة للفكر التنويري، التي كانت منتشرة سواء في النظام التعليمي أو الثقافة السائدة أو المجالات السياسية من الحياة. وتَعيّنَ على نيكا محاربة نظام لم يرفض النفوذ الغربي فحسب، بل شجب أيضًا هويتها كعضو في مجتمع الميم ووصمَها بالعار وجرّمَها. ومع ذلك، اعتنقت نيكا الثقافة الغربية مثل إيرانيين كُثُر سواها، ولاقت قبولًا من المجتمع الباطني الإيراني الذي انخرط في العولمة، فخرقت كل القواعد المنصوص عليها في كتاب آية الله. ثم دفعت الثمن غاليًا عندما نزلت إلى الشارع للقتال في سبيل هذه الهوية ومن أجل التغيير، ففُقد أثرها في 20 أيلول/سبتمبر.
هذه هي قصص الشباب الإيرانيين التي يأبى النظام إخبارها طبعًا. فبعد وفاة نيكا على سبيل المثال، حاولت السلطات إشاعة أن نيكا سقطت عن أحد الأسطح. لكن روى الشهود قصة مختلفة تمامًا، فيما أخبرت والدة نيكا "إذاعة أوروبا الحرة" أن نيكا كانت مصابة بجروح خطيرة في رأسها.
تُعَدّ قصص نيكا وسارينا ومهسا أميني وآخرين كُثُر من شباب "الجيل زد" في إيران مهمة للغاية من أجل فهم الطبيعة الحقيقية للاحتجاجات التي تجري اليوم. فمع تزايُد إمكانية وصولهم إلى العالم الخارجي على مدى العقود الماضية، يدافع هؤلاء المواطنون الشباب عن أحلامهم، منددين بالوضع الراهن الذي حاولت إيران جاهدةً فرضه. وتُسلّط وفاة كلٍ من نيكا وسارينا الضوء على ما نعتبره من الامتيازات المسلّم بها في الغرب، أي حرية الكلام وحرية التعبير عن الذات. فقد حُرم "الجيل زد" في إيران من هاتَين الحريتين لفترة طويلة جدًا، وهو يقاتل الآن في سبيل التمتع بهما على أمل بناء مستقبل مختلف.