- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
التحول في السياسة الخارجية السعودية
ليس هناك ميل لاتباع الشفافية من قبل حكم القلة المختارة في المملكة العربية السعودية، حيث تلتزم العائلة المالكة الصمت الشديد ويترأسها عاهل مسن وعاجز ظاهرياً. وعلى الرغم من التعتيم والسرية [التي تحيط بعائلة آل سعود]، فإن الانتقال من حكم الملك عبد الله إلى الملك سلمان قد اقترن بتحول ملموس في السياسة الخارجية السعودية. وفي حين أن الملامح الأساسية للموقف الإقليمي الذي تتبعه المملكة لم تتغير، إلا أن صعود الملك سلمان إلى العرش في كانون الثاني/يناير من العام الماضي، أشار الى اتباع نهج سعودي أكثر حزماً لمواجهة سياسة التآمر والتخريب التي تتبعها إيران في المنطقة. فمن اليمن، مروراً بسوريا، ووصولاً إلى لبنان، تعمل الرياض حالياً على جدول أعمال يتعارض أحياناً بصورة صارخة مع السياسات الإقليمية المترابطة التي تتبعها واشنطن.
ويأتي النهج الأكثر حزماً الذي تتبعه السعودية كرد فعل على المبادرات الدبلوماسية التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي أوباما تجاه طهران في إطار الاتفاق النووي. وعلى نطاق أوسع، تمثل هذه المقاربة رد الرياض على ما وصفته مجلة "نيويوركر"، خلال مقابلة أجرتها في كانون الثاني/يناير 2014، بأن الرئيس أوباما تَصوّر [ولادة] "توازن جيوسياسي جديد" في منطقة الخليج. وفي تلك المقابلة، وصف الرئيس الأمريكي بأن هناك "توازن آخذ في التطوّر بين دول الخليج السنية، أو ذات الغالبية السنية، وبين إيران حيث توجد منافسة بينهما، وربما شكوك، ولكن ليست حرب فعلية أو أخرى بالوكالة."
وليس من المستغرب، أن تكون المقابلة قد أثارت قلقاً في المملكة العربية السعودية. ولكن التوقيع على "اتفاق الإطار النووي" في نيسان/أبريل 2015 و «خطة العمل المشتركة الشاملة» في تموز/يوليو 2015 قد أكدا مخاوف الرياض من سياسة إعادة المواءمة التي تريد الإدارة الأمريكية اتباعها في الخليج. وكان السعوديون قلقون بشكل خاص من أن يؤدي الاتفاق النووي إلى استمالة حصانة إيران من قيام عمل انتقامي أمريكى بسبب سلوكها المزعزع للاستقرار في المنطقة، والذي قد يتفاقم بسبب الإفراج عن أكثر من 100 مليار دولار من الأموال المجمدة. وفي الأشهر التي تلت التوقيع على «خطة العمل المشتركة الشاملة»، ازداد التباعد بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مع احتضان واشنطن لطهران على ما يبدو - في العراق وسوريا - كقوة محتملة للاستقرار في المنطقة.
وحيث تحركت واشنطن بصورة أقرب نحو الوفاق مع طهران، رسمت المملكة العربية السعودية سياسة جديدة أكثر عدوانية تجاه إيران. فقد وقعت المناوشات الأولى في اليمن بعد ثلاثة أشهر فقط من تتويج الملك سلمان - وشهر واحد قبل التوقيع على "الاتفاق الإطاري النووي". وفي آذار/مارس 2015، قام ائتلاف بقيادة السعودية بشن غارات جوية ضد المتمردين الحوثيين الشيعة - اسمياً - في اليمن الذين تدعمهم إيران، والذين كانوا قد اجتاحوا العاصمة المؤقتة عدن قبل أسبوع من قوع الغارات الجوية ودفعوا الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إلى المنفى.
وهذه ليست المرة الأولى التي يشارك فيها السعوديون في عمليات عسكرية ضد الحوثيين. فقد نشرت الرياض قوات لمحاربة الحوثيين في 2009-2010، لكنها انسحبت بعد ثلاثة أشهر عندما أصبحت الإصابات شديدة الخطورة وأخذت في الازدياد. ومع ذلك ففي هذه المرحلة، وعلى الرغم من الخسائر، وارتفاع التكاليف المالية للحملة، وموجة الانتقادات الدولية الشديدة بسبب الأضرار الجانبية الواسعة النطاق في اليمن، فقد واصل السعوديون عملياتهم لمدة عام تقريباً.
وتشكل اليمن مبادرة طموحة إلى حد كبير في نهج الرياض الأكثر صرامة تجاه إيران، ولكنها ليست ساحة المعركة الوحيدة . فالمملكة العربية السعودية تدعم الثوار السوريين في قتالهم ضد نظام الأسد الذي تسانده إيران منذ عام 2011. ولم يتزعزع هذا الدعم في ظل الانتشار العسكري الروسي في أيلول/سبتمبر 2015، أو انتكاس الزخم لصالح النظام، أو التغيرات المفاجئة في [سياسة] إدارة أوباما حول استمرار حكم الأسد في سوريا. وفي الواقع، تستمر الرياض في توفير العتاد والدعم السياسي للثوار. وعلى الرغم من الخطوات الأخيرة التي اتخذتها إدارة أوباما باتباع موقف أقرب إلى الموقف الإيراني/الروسي حول سوريا - والذي يمكن بموجبه بقاء الأسد في السلطة إلى أجل غير مسمى - يستمر الملك سلمان في مساعدة الثوار السنة.
ومؤخراً، في كانون الثاني/يناير 2016 عندما هدد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بقطع المساعدات عن المعارضة السورية إذا لم يشارك ممثلون عنها في محادثات السلام في جنيف - والتي خشيت المعارضة بأنها ستسفر عن ممارسة ضغوط نحو اعتماد جدول أعمال يركز على بقاء الأسد في السلطة - أعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن الرياض "ستدعم العملية السياسية التي من شأنها أن تؤدي إلى رحيل (الأسد)، أو أننا سوف نستمر في دعم المعارضة السورية من أجل إزاحته بالقوة."
وفي لبنان، أيضاً، تُظهر المملكة العربية السعودية اهتماماً متجدداً في الحرب بالوكالة ضد إيران. ففي أعقاب الاتفاق النووي، أشارت طهران إلى أنها سوف تزيد من استثماراتها في لبنان، وهي استراتيجية يعتقد بعض المحللين بأنها محاولة أولية لإزاحة نفوذ السعودية ودول الخليج السنية من الدولة الصغيرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وفي حين دعمت الرياض تأريخياً النخب السنية في لبنان مثل عائلة الحريري، إلا أنها أكدت في الآونة الأخيرة على العلاقات مع القادة الرئيسيين من المسيحيين المارونيين، لا سيما سمير جعجع من "القوات اللبنانية". ويبدو أن المناورات السياسية الأخيرة التي يعتمدها جعجع - وعلى وجه الخصوص تواصله مع منافسه القديم ميشال عون - تهدف الى تقويض التحالف بين «حزب الله» و «التيار الوطني الحر»، أكبر حزب مسيحي في لبنان، الأمر الذي يُضعف سياسياً التنظيم الذي تدعمه إيران.
وخارج حدود العمليات الحركية السعودية التي لم يسبق لها نظير في اليمن، والنهج الإبداعي الجديد الذي تتبعه الرياض في لبنان، يمكن أن ينظر أيضاً إلى النهج السعودي الأكثر صرامة بأنه يأتي في نطاق اتخاذ القرار على المستوى المحلي. ومن الأمثلة على ذلك هو قرار الرياض الحفاظ على إنتاج النفط عالياً وعلى أسعار النفط منخفضة، وهي سياسة مدروسة لتقويض الاقتصادين الإيراني والروسي. وليس هناك شك في أن هذه السياسة تشكل تحديات كبيرة للمملكة نفسها، التي تشهد عجزاً في الميزانية وتتخذ [تدابير] لتخفيض الدعم، ولكنها تجعل طهران وموسكو تدفع أيضاً تكلفة عالية جداً. وهناك مثالاً آخر لهذا النوع من التفكير الجريء في مواجهة إيران وهو القرار السعودي في كانون الثاني/يناير الماضي بإعدام رجل الدين الشيعي المحلي البارز الشيخ نمر النمر، الذي كانت تربطه علاقات مع إيران. إن إعدام رجل الدين - قبل أيام فقط من «يوم تنفيذ» الاتفاق النووي، ورفع العقوبات عن طهران، والإفراج عن أكثر من 100 مليار دولار لإيران - كانت رسالة واضحة من الرياض إلى طهران بأن المملكة سوف تتخذ نهجاً استباقياً للحفاظ على أمنها.
وتشير هذه المبادرات السعودية إلى انحراف عن السياسات التي تتبعها إدارة أوباما. ولإثبات ذلك، توجه الإدارة الأمريكية انتقادات شديدة للحرب الجوية التي تشنها السعودية في اليمن. وفي العام الماضي قال مسؤول أمريكي لم يُفصح عن هويته لصحيفة "لوس انجليس تايمز" أن الحملة كانت "كارثة"، وشكى من انعدام "مرحلة نهائية واقعية" لدى السعوديين. وبالمثل، بددت مناورات الرياض الأخيرة في لبنان آمال واشنطن في انتخاب السياسي المؤيد للأسد سليمان فرنجية، وهو تطور وصفه مسؤول كبير في إدارة أوباما بأنه [لو حدث لكان سيشكل] "خطوة تدريجية أخرى في اتجاه تحسين التعاون الإقليمي"، مع إيران كما يُفترض. وقد وجهت واشنطن أيضاً انتقادات بشأن إعدام نمر النمر، وهو قرار وصفه مسؤول كبير آخر لم يُكشف عن هويته بأنه يدل على "تجاهل تقصيري" لتأثيره الاستفزازي.
وبالنسبة لإدارة أوباما، إن نهج الرياض الأكثر حزماً تجاه إيران يشكل معضلة. على سبيل المثال، إن استمرار الدعم السعودي لجماعات المعارضة السورية يمكن أن يقوّض محاولات الإدارة الأمريكية الضغط على هذه المنظمات لقبول وقف إطلاق النار [الذي سيؤدي بدوره] إلى استمرار النظام القائم برئاسة الأسد. ومع ذلك، وبعبارة أوسع، فإن القلق الحقيقي من النهج السعودي الجديد يمثل تحولاً بعيداً عن التحالف التاريخي الوثيق مع واشنطن. ففي أعقاب كارثة الخط الأحمر حول الأسلحة الكيميائية السورية، والابتعاد عن الالتزام بالإطاحة بالأسد عام 2015، والاتفاق النووي مع ايران، وصلت الرياض إلى نتيجة مفادها أن واشنطن لم تعد حليفاً يمكن الوثوق به. ووفقاً لأحدث مبادرات السياسة السعودية، يبدو أن المملكة قد قررت أن تقوم بذلك وحدها، لتحقيق مصالحها دون اعتبار لرغبات الولايات المتحدة. وفي حين يعتقد الكثيرون أن الحملة التي تشنها الرياض في اليمن وسياستها النفطية تزرعان بذور عدم الاستقرار في المملكة، إلا أنه نظراً لسجل الإدارة الأمريكية في احتواء إيران، في المستقبل المنظور، فمن المرجح استمرار النهج الذي تتبعه السعودية وزيادة أنشطته.
ديفيد شينكر هو زميل "أوفزين" ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.
"كارافان"