التجربة العثمانية في الموصل، في الماضي والحاضر
المدهش هي وجوه الشبه التاريخية بين المشروع العثماني الأول في شمال العراق، والانتشار الحالي للجنود الأتراك في بعشيقة ومناطق أخرى من كردستان العراق.
غزا السلطان العثماني العديم الرحمة سليم الأول، المعروف أكثر بـ"سليم العابس"، مدينة الموصل بمساعدة كردية عام 1517. وحافظ العثمانيون على سيطرتهم لمدة أربعة قرون إلى أن فقدوها عقب الحرب العالمية الأولى.
الآن، بعد مرور 500 عامًا على غزو الموصل، يشعر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالحنين إلى عظمة الإمبراطورية العثمانية. وتمنح السياسة الجغرافية لهذه المنطقة فرصةً إلى تركيا من أجل التفكير بإعادة إثبات نفوذها في الموصل، وبضمان حيازة أنقرة على رأي أقوى حول مصير الولاية المتعددة الإثنيات، بعد إخلائها من تنظيم "الدولة الإسلامية".
في خلال حكم العثمانيين، تم تقسيم العراق الحالية إلى ثلاث ولايات إدارية هي: الموصل وبغداد والبصرة.
لكن المدهش هي وجوه الشبه التاريخية بين المشروع العثماني الأول في شمال العراق، والانتشار الحالي للجنود الأتراك في بعشيقة ومناطق أخرى من كردستان العراق. ففي كلتا الحالتين، شق الأتراك طريقهم إلى قلب الأرض الكردية!
في القرن السادس عشر، لم يغتصب العثمانيون السيطرة على كردستان من خلال الحملات العسكرية، لكن من خلال الدبلوماسية وموافقة النبلاء الأكراد الذين أعلنوا ولاءهم إلى "سليم العابس" واعترفوا بالسيادة العثمانية. وكان مدبّر هذه التسوية هو دبلوماسي كردي ماهر، يُدعى إدريس بتليس، أقنع 25 ملكًا كرديًا بالتخلي عن الولاء إلى الصفويين لصالح إسطنبول.
قدّر سليم القوة التي يتمتع بها بتليس في ميدان الدبلوماسية، وأعطاه مجالًا للقيام بأي ترتيبات ضرورية من أجل كسب "قلوب وعقول" القادة الأكراد. لذلك، رحّب الأمراء الأكراد في ديار بكر والعمادية وسوران ومناطق أخرى في كردستان بالجيش العثماني، وساعدوا في إلحاق الهزيمة بالصفويين من خلال الحملات العسكرية في القرن السادس عشر.
كذلك، سيطر أمير سوران وأمير جزيرة ابن عمر على كركوك والموصل باسم العثمانيين وطردا الشيعة الصفويين.
سواء نتيجةً للقدر أو لاستراتيجية ما، نشرت تركيا في كانون الأول/ديسمبر 2015 فوجًا من 150 جنديًا، بالإضافة إلى الدبابات وأسلحة أخرى متقدمة، في بعشيقة داخل محافظة نينوى. ويُقال إن عدد الجنود ارتفع إلى 500 ابتداءً من منتصف تشرين الأول/أكتوبر، ما يزيد العدد الإجمالي للجنود الأتراك في شمال العراق إلى 2000.
تتضارب تصريحات بغداد وأنقرة حول انتشار الجنود الأتراك. فتصرّ العراق على أن الجنود الأتراك يتواجدون هناك من دون موافقة الحكومة العراقية. لكن أنقرة ترفض هذا الادعاء، وتقول إن الجنود الأتراك نُشروا في العام الماضي إثر دعوة الحكومة العراقية إلى تدريب القوات السنية والكردية تحضيرًا لمحاربة قوات "داعش".
تتعاون قوات "البيشمركة" الكردية مع القوات التركية في المنطقة وتنسّق معها. وقام الأكراد بإخلاء بقع واسعة من الأراضي في محافظة نينوى من تنظيم "داعش"، وخاصةً في الشرق.
في حين تستمر المناوشات بين أنقرة وبغداد، اختارت "حكومة إقليم كردستان" الصمت سياسةً لها. فيظن الأكراد أنه طالما يستمر النزاع بين العاصمتين المجاورتين، تبقى "حكومة إقليم كردستان" معززة ومحمية سياسيًا، ويستطيع الأكراد الحصول على تنازلات من الأطراف كلها.
يمكن القول إن حكومة إقليم كردستان" فقدت صفتها التي لازمتها لوقت طويل كصانعة الحكّام في بغداد. إلّا أن الانشقاق التركي-العراقي أعطى فرصة تاريخية لـ"حكومة إقليم كردستان" حتى تعود فتبرز كلاعب إقليمي جبار وعامل مؤثّر بين بغداد وأنقرة.
مسعود برزاني هو حاليًا السياسي الوحيد الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع كل من أردوغان والعبادي. لذلك، يمكن أن يكون وسيطًا لتهدئة الاضطراب بين البلدين. وفي الوقت نفسه، أدى الموقع الجغرافي الاستراتيجي لكردستان وانتشار القوات الكردية على الحدود العراقية إلى عزل القوات التركية والعراقية عن بعضهما البعض، ما يحول دون حصول أي اشتباك محتمل بين هذه القوات.
على الرغم من تعقيد السياسة المحلية والإقليمية اليوم، وعلى غرار العثمانيين في القرن السادس عشر، يبدو أن الأتراك لبوا دعوة برزاني، الذي لم تتزعزع علاقته مع أردوغان على الرغم من الأحداث المقلقة في المناطق الكردية الخاصة بتركيا.
في السنوات الخمس الماضية، بدّل برزاني الاعتماد على بغداد بالاعتماد على أنقرة من خلال بناء خط أنابيب إلى تركيا. ويزور الرئيس الكردي الآن أنقرة أكثر مما يزور بغداد. ويرتفع مستوى الخطر من هذه الناحية، لأن أي تغيير في الجوهر أو السلطة في أنقرة كان ليتسبب بنتائج مصيرية على الأكراد العراقيين. فلو نجح الانقلاب في تركيا في تموز/يوليو 2016، لكانت "حكومة إقليم كردستان" ستجد نفسها أمام خيار واحد هو أن تكون تحت رحمة بغداد.
بعد مرور حوالي سبعين عامًا على انهيار الامبراطورية العثمانية، كانت أنقرة جاهزة لاتخاذ إجراءات على أمل ممارسة نفوذها في الموصل. وفي خلال "عملية عاصفة الصحراء" لطرد الجيش العراقي من الكويت عام 1991، أصبحت تركيا تحذر من وقوع الموصل وكركوك تحت سيطرة الأكراد. ولهذا السبب، طالب الرئيس التركي السابق تورجوت أوزال بخطة عسكرية لإحباط أي محاولة قد يقوم بها الأكراد من أجل السيطرة على هذه الأراضي، إذا انهارت العراق. وقد اعتبر الرئيس التركي وجنرالات الجيش ذلك فرصة كبيرة لاستعادة الموصل بعد خسارتها في فترة العشرينات، مع ضمان إحباط أي محاولة لتشكيل دولة كردية في شمال العراق.
في خلال التسعينات وحتى الآن، لم تتردد تركيا في المناشدة بحماية الأقلية التركمانية في كردستان العراق والموصل وكركوك من أجل ممارسة نفوذها في الشؤون الكردية والتحقق من قوة الأكراد العراقيين.
مع سطوة "حزب العدالة والتنمية" عام 2002، بدّلت أنقرة تدريجيًا سياستها الجائرة إزاء الأكراد العراقيين، ومشت أكثر على خطى سليم الأول، ولو بتقلب وتردد، كما يظهر في رفض أنقرة مساعدة "حكومة إقليم كردستان" فيما كان تنظيم "داعش" يقترب من إربيل عام 2014.
على الرغم من الاهتمام الجاري الذي يُظهره كل من الأكراد العراقيين وأردوغان ببعضهما البعض، تشكل الموصل مكان تصادم حلم الاستقلال الكردي بطموح النفوذ التركي.
وحتى يحقق أردوغان نجاحًا في بسط السلطة التركية على الموصل، قد تكون السياسة المثلى هي سياسة سليم الأول، التي كان بموجبها الأكراد شركاء حقيقيين في الإمبراطورية. والأمر الأهم هو ضرورة تقبل الرئيس التركي للأكراد في بلده الخاص. فاتّباع أي سياسة مزدوجة المعايير سيعطي نتائج عكسية.