- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
التزام الشعب الإسرائيلي بالديمقراطية يسطع في الذكرى الـ 75 لتأسيس الدولة
Also published in "ناشيونال إنترست"
استعداد المتظاهرين في إسرائيل للوقوف ضد التهديدات المتصورة لمؤسساتهم الديمقراطية أمر يستحق الثناء، لكن السماح للبلاد بالانجراف نحو حل سلمي قائم على "دولة واحدة" بحكم الأمر الواقع يشكل تهديدات خطيرة خاصة بها.
مع بلوغ دولة إسرائيل عامها الخامس والسبعين الأسبوع الماضي، من المؤكد أن معظم الإسرائيليين لم يتوقعوا أن يصادف إحياء هذه الذكرى في وقت تغرق فيه البلاد في أكبر أزمة داخلية منذ إنشائها.
لكن هذه الأزمة تتحول إلى الهدية ذاتها التي يقدمها الإسرائيليون لأنفسهم وللآخرين في عيد تأسيس بلادهم. فقد اتضح أنه على الرغم من كل الحديث عن عدم إمكان ترسخ الديمقراطية في البلدان التي لا يوجد فيها تقليد ديمقراطي، إلّا أن التركيبة الديمغرافية لإسرائيل تروي قصة مختلفة تماماً. فعلى الرغم من أن غالبية سكانها اليوم قد هاجروا من جميع أنحاء الشرق الأوسط، إلا أن شعبها ملتزم بشدة بحرياته.
ومع دخول التظاهرات أسبوعها السابع عشر على التوالي ووصول مجموع المتظاهرين في أغلب الأحيان إلى 4 في المائة من مجموع السكان، يرى المرء عمق التزام الشعب الإسرائيلي بالديمقراطية. والواقع أن أسبوعاً واحداً فقط من هذه التظاهرات ما كان ليُقابَل في أي دولة في الشرق الأوسط سوى بإراقة الدماء الغزيرة، وهذه الحركة الشعبية غير العادية هي تذكير بأن الإسرائيليين لن يتسامحوا مع التهديد بإنهاء الفصل بين السلطات والقضاء المستقل. ولن يقبل الإسرائيليون نهج الأغلبية الذي لا يحترم حقوق الأقليات ولا يحافظ على سيادة القانون.
لقد أثيرت حفيظة الشعب الإسرائيلي مما اعتبره تهديداً لطابع إسرائيل الديمقراطي، ولم يتظاهر الكثيرون من هؤلاء المتظاهرين من قبل. ففي ظل مشاركة جنود الاحتياط من وحدات النخبة الجوية والبحرية والمغاوير، وقطاع التكنولوجيا الفائقة، والجامعات التي أضربت عن العمل، والمستشفيات التي اقتصرت خدماتها على الحالات الطارئة، أَجبر كل ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على الدعوة إلى وقف الإصلاحات مؤقتاً، والإشارة إلى أنه يفهم أن أي تغيير قضائي من هذا القبيل يجب أن يعكس إجماعاً واسعاً في إسرائيل. ولم تنتهِ القصة بعد بأي حال من الأحوال، لكن الشعب الإسرائيلي تصرّف بطريقة غير مسبوقة لأنه رأى تهديداً للنسيج الديمقراطي في البلاد. وفي هذه المرحلة، يبدو أن التطورات قد تحوّلت لصالح الحركة الديمقراطية الشعبية.
هناك العديد من الدروس المستخصلة من هذه الأزمة، والتي ستبقى على طاولة النقاش لبعض الوقت، ويشمل أحدها بالتأكيد كيف يمكن لمجتمع مرن بشكل أساسي أن يصحح نفسه، خاصة عندما يسعى إلى الحفاظ على هويته الديمقراطية. وفي حالة إسرائيل، يشكل طابعها كدولة يهودية ديمقراطية جزءاً من جوهرها، وهذا يعني أنه يجب أن يزدهر الوجهان وإلا تدهور كلاهما. وفي هذا الإطار، تعني الدولة اليهودية الديمقراطية المساواة في حقوق التصويت، سواء أكان الفرد يهودياً أم لا، على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية.
وصحيحٌ أن القضية الفلسطينية لم تكن محور الحركة الديمقراطية الشعبية في إسرائيل، ولكن يستحيل الحفاظ على إسرائيل كدولة ديمقراطية يهودية من دون معالجة القضية الفلسطينية. فالإسرائيليون الذين يفضلون التنازل عن الأراضي في الضفة الغربية لا يستهدفون الحفاظ على كرامة الفلسطينيين فحسب، بل ضمان بقاء إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية أيضاً. وهذا أمر بالغ الأهمية ومن الضروري جداً استيعابه. وبالنسبة لأولئك القادة الإسرائيليين الذين يلغون الحديث عن دولتين لشعبين، فإنهم يحصرون بذلك الحل بإقامة دولة واحدة، أو أن صمتهم وغياب قصة تروى عن نهاية الصراع مع الفلسطينيين يترك فراغاً؛ وفي الداخل الإسرائيلي، هناك وزراء متطرفون مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش الذين سيهرعون بحماس لملء هذا الفراغ.
لكننا نرى أيضاً أن أشخاصاً في الخارج سيسعون، من منظور مختلف تماماً، إلى ملء الفراغ الفكري والسياسي الذي يخلفه التخلي ظاهرياً عن هدف إقامة دولتين لشعبين.
ومن الأمثلة على ذلك مقال نشره مؤخراً موقع "فورين أفيرز" لمايكل بارنيت ونيثان براون ومارك لينش وشبلي التلحمي بعنوان "واقع الدولة الواحدة في إسرائيل". والمؤسف هو أن كُتاب هذه المقالة قدّموا وجهة نظر أحادية الجانب للصراع ورسموا صورة تبدو منفصلة عن الواقع. ففي مقال بارنيت والآخرين، لا يوجد سوى إنكار لحقوق الفلسطينيين. ولن يعرف المرء أن إسرائيل تتعرض لتهديدات وجودية، وأن كلاً من إيران و"حزب الله" و"حماس" ينكر حق إسرائيل في الوجود، ويدعم الإرهاب ضدها، حتى لو لم يكن هناك احتلال، وأن تلك الأطراف تحصل على الأسلحة وتطورها للعمل على تحقيق أهدافها. لقد أشار بارنيت والآخرون إلى انسحاب إسرائيل من غزة في عام 2005 ويقولون إن إسرائيل احتفظت بالسيطرة على نقاط الدخول والخروج من القطاع وعلى الأجواء والمياه البحرية المحيطة بها. لماذا؟ لم يرد أي ذكر لحقيقة أنه حتى بعد انسحاب إسرائيل، واصلت "حماس" تنفيذ الهجمات ضدها وما زالت مستمرة في ذلك بعد ثمانية عشر عاماً.
وتجدر الإشارة إلى أن "حماس" لم تضع يوماً تطوير غزة قبل هدف مقاومة إسرائيل. وتحوّلت من امتلاكها لما يقرب من 3000 صاروخ بعد صراع 2014 إلى أكثر من 30 ألف صاروخ في صراع 2021. ولم تستخدم "حماس" ذلك الوقت للحصول على الصواريخ فحسب، بل لبناء مدينة أنفاق تحت الأرض، واستغلال المواد (الإسمنت، والأسلاك الكهربائية، والفولاذ، والخشب) االتي كان من الممكن وينبغي استخدامها لتطوير وبناء غزة فوق الأرض. ولم تكن الأنفاق مصممة لإقامة ملاجئ لحماية سكان غزة، بل كان هدفها حماية قياديي "حماس" ومقاتليها وأسلحتها، واستخدام هذه الأنفاق لمحاولة التسلل إلى داخل إسرائيل. فإذا كان بارنيت والآخرون قلقين بشأن سيطرة إسرائيل على مداخل غزة ومخارجها، لماذا لم يدعون "حماس" إلى التخلي عن صواريخها والتوقف عن بناء الأنفاق مقابل تنفيذ خطة شبيهة بـ"مشروع مارشال" لغزة وإنهاء هذه السيطرة الإسرائيلية؟ لماذا لم يدعون "حماس" إلى قبول حل الدولتين؟
لكن للأسف، يهتم كُتاب المقالة المذكورة بتوجيه الاتهام إلى إسرائيل أكثر من اهتمامهم بدعم الاحتياجات والحقوق الفلسطينية. وفي عالم لا يبالي فيه هؤلاء الكُتاب بالتهديدات التي تواجهها إسرائيل، فليس من الغريب أن نجادل، كما يفعلون، باشتراط المساعدات العسكرية لإسرائيل بإنهاء الحكم العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين. كيف يعتقد كُتاب المقالة المذكورة أن الإيرانيين و"حزب الله" و"حماس" سيردّون على قطع المساعدات العسكرية الأمريكية عن إسرائيل؟ هل يقلل ذلك من احتمال نشوب الصراع؟ هل سيطمئن ذلك الآخرين في المنطقة بشأن التهديدات التي من المحتمل أن يواجهونها؟ ألن ترى القوى التي تنتج دولاً فاشلة ومتدهورة في المنطقة، وهي أكبر صادرات إيران، فرصة كبيرة في هذه الظروف؟ لقد رأينا صورة مسبقة عن ذلك هذا الربيع. ففي خضم الإعلانات التي انتشرت عن قيام الطيارين الإسرائيليين وقوات النخبة بالتهديد بالامتناع عن الخدمة الاحتياطية بسبب التظاهرات الديمقراطية، تحدث المرشد الأعلى الإيراني آية الله خامنئي وزعيم "حزب الله" حسن نصر الله علناً عن انهيار إسرائيل المبكر، بينما هرع زعيم "حماس" اسماعيل هنية إلى بيروت وسط حديث عن احتمالات تشكيل جبهة موحدة.
ولم يُثر أيٌّ مما سبق قلق كُتاب المقالة المذكورة. فهم قلقون أكثر من كَوْن إسرائيل دولة يهودية "ترسخ شكلاً من أشكال القومية العرقية بدلاً من القومية المدنية ..." وهذه خطيئة بالنسبة لكُتاب المقالة المذكورة. وبينما يعترفون بأن هذا الوصف لا ينطبق تماماً، إلا أنهم ما زالوا يلصقون تهمة الفصل العنصري بإسرائيل. لكن أيديولوجية الفصل العنصري تقوم على إخضاع أغلبية كبيرة من قبل أقلية صغيرة، وتنتهج هيكلاً قانونياً يضمن سلطة الأقلية البيضاء وسيطرتها على الأغلبية السوداء ولا يسمح لها إلا بالعيش في مناطق معينة، والحصول على أنواع معينة فقط من الوظائف، والذهاب إلى مدارس معينة، مع إمكانية محدودة للوصول إلى أي سبل انتصاف قانونية. هل يوجد عدم مساواة في إسرائيل (كما هو الحال في الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى)؟ نعم. ولكن هل هي منصوصة في القانون؟ كلا. هل هناك أقلية تضطهد أغلبية بنظام قانوني يبرر ذلك؟ كلا.
لكن تسمية الفصل العنصري تناسب هدف كُتاب المقالة المذكورة المتمثل في إدانة إسرائيل وتبرير دعوتها لتحقيق المساواة في دولة واحدة. هناك مساواة أمام القانون في إسرائيل بين مواطنيها، بمن فيهم مواطنوها العرب الذين يصوتون ويشغلون مناصب برلمانية وقضائية، حتى لو لم يتحقق ذلك بالضرورة في الواقع اليومي لهؤلاء المواطنين. وبالطبع يتلقى الفلسطينيون في الضفة الغربية معاملة مختلفة.
ومن المنصف القول إن هناك انجرار نحو دولة ثنائية القومية يجب إيقافه وعكس مساره. وقد كتبنا كتاباً عن ضرورة قيام قيادة سياسية في إسرائيل تتخذ القرارات الصعبة، وتتغلب على رد الفعل العنيف الذي سيبادر إليه حتماً أشخاص من أمثال بن غفير وسموتريش والمستوطنين المتطرفين، لضمان ألا تصبح إسرائيل دولة ثنائية القومية تتخلى عن ديمقراطيتها أو تتخلى عن كونها دولة يهودية.
وبحكم تعريف الدولة ثنائية القومية، لا يمكن لإسرائيل أن تكون دولة يهودية وديمقراطية معاً. ولا يرى المتطرفون في إسرائيل أي تناقض بين كونهم يهوداً وإنكارهم حقوق الفلسطينيين. ولكننا نراه. وعلى عكس كُتاب المقالة المذكورة الذين يعتبرون أن للرؤية المتطرفة "أساساً قوياً في الفكر والممارسة الصهيونية"، فإننا نرى تلك الرؤية على أنها تناقض جوهري مع الصهيونية وقيمها الأساسية. فأهم المنظرين والقادة الصهاينة كانوا يؤمنون إيماناً راسخاً بالديمقراطية وحقوق جميع الناس، بما في ذلك عدم إنكار حقوق العرب.
إن رد الفعل العنيف الذي تشهده إسرائيل اليوم والحركة القوية محلياً لإنقاذ الطابع الديمقراطي لإسرائيل ما هو إلا رد على رؤية متطرفة لإسرائيل. فهؤلاء (المتظاهرين) يرون المحكمة العليا بمثابة الضمانة المؤسسية ضد الذين يحاولون فرض قيمهم على البلاد، سواء كان ذلك من أجل التصدي للأحزاب الدينية التي تحاول فرض قيمها على الأغلبية العلمانية في إسرائيل أو لأن الأحزاب التي يهيمن عليها المستوطنون هي التي لا تريد أن تمنع المحكمة قدرتها على المطالبة بأراضي فلسطينية خاصة.
دينس روس هو مستشار وزميل "ويليام ديفيدسون" المتميز في معهد واشنطن. ديفيد ماكوفسكي هو زميل "زيغلر" المتميز في المعهد، ومدير "مشروع كوريت" حول "العلاقات العربية الإسرائيلية". وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع "ناشيونال إنترست".