- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الوضع الطبيعي الجديد: الجدل العربي حول العلاقات مع إسرائيل
ظهرت مؤخراً، في وسائل الإعلام العربية الرئيسية، موجة من التقارير حول علاقات واتصالات رسمية وغير رسمية بين العرب والإسرائيليين، بما في ذلك الزيارات السعودية والمصرية لإسرائيل، والتي تمت على نطاق واسع للغاية خلال الشهر الماضي. ومع ذلك، فإن معظم الجدل الدائر حول هذه العلاقة يخفي في طياته نقطة شديدة الأهمية وهي: أن الاتصالات العربية مع إسرائيل، بعيداً عن كونها ظاهرة جديدة، لديها في الواقع تاريخ طويل جداً، مع تقلبات كثيرة على طول الطريق.
وإذا ما تتبعنا مسار هذه الاتصالات، سيتضح لنا أن اللقاءات العربية - الإسرائيلية الرسمية والاتفاقيات الموقعة بينهما، تعود تقريباً، إلى فترة قيام دولة إسرائيل، وبالتحديد إلى هدنة "رودس" عام 1949، التي توالت بعدها اجتماعات رسمية قليلة الأهمية لما يقارب من عقدين من الزمن، وكانت تتم بشكل دوري لمناقشة الحوادث الأمنية والمياه واللاجئين وقضايا أخرى، وبموازاة ذلك كانت هناك اجتماعات رسمية أخرى ذات طابع سري. وقد أدت حرب عام 1967 إلى الإعلان الشهير عن "اللاءات الثلاثة" خلال مؤتمر القمة العربية في الخرطوم: لا سلام، لا اعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل. غير أنه وبعد بضع سنوات، في أعقاب حرب عام 1973، استؤنفت الاتصالات من جديد، وبلغت ذروتها في معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979. ومنذ ذلك الحين ـ وعلى مدى عدة عقود مضطربة حتى يومنا هذا ـ حافظت مصر وإسرائيل على علاقات دبلوماسية وأمنية واقتصادية.
صحيح أن معظم الحكومات العربية ـ وعلى رأسها العراق في عهد صدام حسين ـ حاولت عزل مصر بعد توقيع معاهدة السلام، إلا أن بعد حوالي عقد من الزمن، وبعد تحرير الكويت من احتلال صدام، اجتمع العديد من المسؤولين الإسرائيليين والعرب، بمن فيهم السوريون والسعوديون والفلسطينيون وغيرهم، وذلك بشكل علني خلال مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.
وبعد مرور عامين على وجه التحديد، في أيلول/سبتمبر 1993، أتت لحظة هي من أكثر اللحظات التاريخية للحوار العربي الإسرائيلي، تمثلت في اتفاق "أوسلو"، حيث شاهد العالم أجمع تلك المصافحة الشهيرة بين رابين وعرفات، مع الاعتراف الرسمي المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وأعقب ذلك بوقت قصير، عقد سلسلة من الاجتماعات بين العرب وإسرائيل، من مؤتمرات اقتصادية إقليمية في الدار البيضاء وعمان والدوحة، إلى معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية عام 1994، إلى اجتماع وزراء الخارجية في شرم الشيخ عام 1996، والذي ظهر فيه علانية كل من عرفات وشمعون بيريز وسعود الفيصل وعمرو موسى وغيرهم من القادة مع بعضهم البعض، وتعهدوا بمكافحة الإرهاب والعمل معاً من أجل السلام.
وعلى الرغم من حدوث توقفات وانقطاعات في تلك الاتصالات بين الفينة والأخرى، نتيجة تأزم الأوضاع بين الطرفين، كما هو الحال بعد الانتفاضة الثانية، إلا أن مسلسل القمم الإسرائيلية - الفلسطينية والإسرائيلية ـ العربية، لم ينقطع، بل استمر، واستمرت معه مشاهد تبادل المصافحات، إلى جانب العديد من الاتصالات الأخرى، مما شجع على زيادة التواصل، فكانت فاعليات مؤتمر "أنابوليس" للسلام عام 2007، واجتماع نتنياهو وعباس عام 2010، بالإضافة إلى اجتماعات ثنائية وأخرى متعددة الأطراف، والتي يعود الفضل في إقامتها آنذاك، إلى جهود وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" لصنع السلام بين عامي 2013 و2014. وبذلك تعددت الاتصالات واللقاءات المباشرة على الصعيدين الأمني والاستخباراتي، بين الإسرائيليين، والفلسطينيين والأردنيين وغيرهم من المسؤولين العرب، حتى أضحت متكررة وروتينية، لكنها مفيدة للجميع.
إن المشاركة في قدر من الحوار العملي مع إسرائيل ليس شيئاً جديداً، على الرغم من الجدل المستمر حول هذا الموضوع. واللافت للنظر حالياً أن تتم مناقشة هذه القضية بنشاط وصراحة في وسائل الإعلام العربية الكبرى، بين مناصر ومعارض لها، كما لم يقتصر النقاش على مشاركة المصريين والأردنيين والفلسطينيين فحسب، بل تعداه إلى منافذ عربية أخرى، بما فيها المملكة العربية السعودية.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى مقال طويل في العدد الحالي من صحيفة "المجلة" القومية الأسبوعية الصادرة في لندن، ويتم تداولها وقراءة إصداراتها المطبوعة أو تلك المتوفرة على الأنترنت على نطاق واسع في المنطقة. ولم يستعرض هذا المقال تاريخ العلاقات العربية - الإسرائيلية فحسب، بل يستشهد ببيانات مطوّلة، أدلى بها السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة رون ديرمر.
لقد كانت ردود الكتاب السعوديين متباينة، لكن بعضهم أعلن جهاراً عن دعمه للتعامل مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، يشير الكاتب "أحمد عدنان" في موقع "العرب"(alarab.co.uk) إلى وجوب اتباع العرب للنموذج التركي: "إن أنقرة لها علاقات مع إسرائيل، لكن لا يمكن لأحد أن يتهم تركيا بالتحيز ضد الفلسطينيين". وقد تم إعادة طباعة مقال "عدنان" على موقع "العربية" الرائد في الثامن من آب/أغسطس.
ولا تزال فكرة التعامل الطبيعي مع إسرائيل، تثير جدلاً حاداً بين الكتاب المصريين، على الرغم من مرور ما يقرب من أربعة عقود على السلام الرسمي معها. ففي الوقت الذي أفصح فيه مالك صحيفة "المصري اليوم" المستقلة والبارزة، عن دعوته الصريحة إلى إقامة علاقات ثنائية وثيقة وواقعية مع إسرائيل تصب في مصلحة مصر، نجد في المقابل عكس ذلك في عمود الدكتور "حسن نافعة" - أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة - الذي يرفض بشدة، ما يسميه "هدايا مجانية" لإسرائيل.
ومع ذلك، فمن المثير للاهتمام أن نجد اليوم بعض الكتاب والأكاديميين المصريين الأكثر انتقاداً لإقامة أي علاقات مع إسرائيل. فهم يقرون بأن جيل الشباب انقلب ضد إيران و«حماس» و«الإخوان المسلمين»، وذلك استناداً لخبرتهم الشخصية والمواقف المتغيرة لحكوماتهم على حد سواء، حيث بدأ عداؤهم تجاه جيرانهم الإسرائيليين يخف بشكل ملحوظ. ويمكن أن نجد بعض الأمثلة التي تدل على هذا الخطاب الجديد في مقالات مجموعة من الكتاب المصريين، مثل: "محمد الليثي" في صحيفة "الوطن"، و"أحمد حجي" في صحيفة "المونيتور"، حيث يستشهدان بثلاثة أساتذة من جامعة القاهرة يتباكون بسبب الانفتاح المتزايد لطلابهم على إسرائيل.
وهذا بالطبع، يثير تساؤلاً حساساً: هل التحرك نحو إقامة حوار يتوخى تحقيق السلام مع إسرائيل، هو مجرد سياسة تتبناها بعض الحكومات العربية، أم أنه رغبة هامشية للنخبة؟ وبعبارة أخرى، هل يتمتع هذا التوجه بدعم شعبي؟
من خلال عدة استطلاعات للرأي، هناك أجوبة واضحة ومدهشة وذات نتائج إيجابية. فبينما تبغض الجماهير العربية إسرائيل و(اليهود) بشكل كبير، هناك أغلبية كبيرة تصل إلى 60% من المستطلعين، عبرت عن دعمها "لحل الدولتين"، وهو ما يعنى ضمنياً إقامة سلام مع الدولة اليهودية. وهذه النتيجة تظهر دائماً، كلما تمت صياغة السؤال بشكل يدعو صراحة إلى السلام مع إسرائيل والتخلي عن النضال من أجل تحرير فلسطين بأجمعها. كما أن الاستثناء الوحيد والمثير للسخرية في هذا التوجه، هو آراء الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة التي تراجع فيها مؤخراً، الدعم لفكرة "حل الدولتين" إلى أقل من النصف.
وإذا كانت الأغلبية من الدول العربية ـ وفقاً لبعض البيانات ـ تؤيد إقامة سلام دائم مع إسرائيل، فإن ذلك لا يعكس تقارباً معها، بقدر ما يعبّر عن وجود أعداء مشتركين، وبالتالي مصالح مشتركة. كما هناك أيضاً مخاوف مشتركة تتعلق بالإرهاب الجهادي، والعدوان الإيراني والتخريب، والأسلحة النووية، وخلل السياسة الأمريكية تجاه جميع هذه القضايا.
وبالعودة إلى عام 2010، حتى قبل الحروب بالوكالة بين السعودية وإيران، التي اندلعت في سوريا واليمن وأماكن أخرى، أظهرت إحدى الاستطلاعات الموثوقة أن ربع الشعب السعودي من الحضر، يدعم التعاون العسكري الهادئ مع إسرائيل ضد التهديد النووي الإيراني. وخلال العامين الماضيين أظهرت استطلاعات ـ داخل المملكة العربية السعودية ومصر والأردن والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة ـ أن "الشارع العربي" أصبح اليوم، مهتماً بالصراعات مع إيران، والأسد في سوريا، وتنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، أكثر من اهتمامه بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وهكذا، يبدو لنا أن توظيف نهج إقليمي أوسع للسلام العربي - الإسرائيلي، عوضاً عن النهج الثنائي الضيق المتعلق بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، سيوفر فرصاً أفضل للنجاح، سواء على مستوى المسؤولين الحكوميين والنخبة والإعلام، وحتى على المستوى الشعبي. وحتى الآن، ما زال موضوع التطبيع مع إسرائيل من المواضيع المثيرة للجدل في الأوساط العربية، لكنه في جميع الأحوال لم يعد من المحرمات. وبالنسبة لعدد متزايد من العرب إن "عدو عدوّي" الإسرائيلي، قد لا يكون صديقي، ولكنه يمكن أن يصبح شريكي. وحريّ بالإدارة الأمريكية القادمة أن تفكر في هذا الوضع غير المعتاد، وتقوم بتعديل سياستها وفقاً لذلك.