- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
انسحاب القوات لا يجب أن ينهي الدور الأمريكي في سوريا
لا تقتصر تبعات الانسحاب المتسرّع لمعظم القوات الأمريكية من سوريا على تداعياته الفورية والخطيرة المترتبة على أمن الأكراد الذين كانوا سابقاً شركاء الولايات المتحدة وعلى المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، بل أن واشنطن تخلت عن مصدر نفوذها الأوحد والأعظم للتوسط في وضع نهاية للنزاع، وهو: الثلث المتبقي من الأراضي السورية الذي لا يخضع لسيطرة الرئيس بشار الأسد و روسيا.
فمع انسحاب القوات الأمريكية تحت وطأة الضغط - من حليف في منظمة حلف شمال الأطلسي على وجه التحديد - قد تميل واشنطن بطبيعة الحال إلى اليأس من سوريا، هذا إن لم تبدو هذه الأخيرة وكأنها قضية ميؤوس منها مسبقاً، فلا شك أنها أصبحت اليوم كذلك. لكن التخلي عن سوريا سيكون خطأ.
ولا تزال أهم المصالح الأمريكية على المحك. فسوريا هي قلب الشرق الأوسط وحربها الأهلية لا تزال صراعاً يتجمع فيه مصدرا قلق إستراتيجيان رئيسيان للولايات المتحدة، هما تنامي الحركات الإرهابية العالمية وتجدد المنافسة بين القوى العظمى. وعلى مدار النزاع السوري، ازدهر تنظيم «الدولة الإسلامية» بين السكان المهمشين ومن هناك انتشر على مستوىً عالمي، في حين ضمنت روسيا موطئ قدم لها في الشرق الأوسط لإحباط الأهداف الأمريكية. وما حدث في سوريا لم يبق في سوريا: فقد وصلت ارتدادات الحرب إلى أوروبا فتسببت باضطرابات سياسية فيها، وأجهدت حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وحطمت معايير الصراع الاعتيادية الراسخة منذ زمنٍ طويل، مثل استخدام الأسلحة الكيماوية في ساحة المعركة.
لذلك، فإن تنظيم «الدولة الإسلامية»، الذي عاود الظهور بالفعل كتمرد قبل التوغل التركي، سوف يستغل هذا التحوّل في محور التركيز من أجل إعادة لمّ شتاته. ولم يُبدِ الأسد أي استعداد لتغيير سلوكه قبل انسحاب القوات الأمريكية، ومُنح الآن منفذاً لعبور نهر الفرات نحو شرق سوريا. وكما هو الحال في أي منطقة أخرى، من المرجح أن تقوم قواته الأمنية بمعاملة السكان - المحررين مؤخراً من تنظيم «داعش» - بوحشية، بإحيائهم القتال في مناطق بدأت للتو تُحقق الاستقرار. وسوف ترافق الميليشات المدعومة من إيران قوات الأسد، وبذلك تتمكن طهران من الربط بين وكلائها في العراق وسوريا، وربما يتطلب ذلك بدوره من إسرائيل توسيع حربها الجوية ضدهم.
ويبدو أن «قوات سوريا الديمقراطية»، حين واجهت ضغوط للاختيار في معضلتها الوجودية ما بين الهيمنة التركية أو الخضوع لدمشق، قد أبرمت اتفاقاً مع الأسد. أما موسكو فهي مخولة للانطلاق من هذا الاتفاق بين دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية» من خلال التوسط في اتفاقٍ بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأسد يستبعد واشنطن عن المعادلة، وستعمل على إزالة شركاء آخرين للولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط الذين دعموا سياسة واشنطن في سوريا.
وفي غياب أي وجود عسكري للولايات المتحدة وأي شريك لها على الساحة المحلية، لن تتمتع بالنفوذ الذي كانت تمتلكه في السابق لتوجيه مسار الأحداث في سوريا. ولكنها ليست عاجزة، بل يجدر بها استغلال ما تبقى لها من نفوذ للتخفيف من عواقب إبرام الصفقات بين دمشق وموسكو.
والخطوة الأولى اللازم اتخاذها هي حماية المدنيين عبر تحديد شكل الخطوات التركية المقبلة. فقد أعلن كلٌّ من الكونغرس الأمريكي والرئيس ترامب عن عقوبات موجهة مباشرة ضد تركيا، مع الأخذ في نظر الاعتبار أن تركيا تعتقد أنها حصلت على موافقة ضمنية من البيت الأبيض قبل توغلها وأن أنقرة عارضت لسنوات شراكة الولايات المتحدة مع «قوات سوريا الديمقراطية»، ينبغي أن ترمي هذه العقوبات إلى تحديد معالم التدابير التركية بدلاً من الاكتفاء بمعاقبتها. وكبداية، يجب على أنقرة وقف توغلها، ووضع حد للانتهاكات التي ارتكبتها قواتها وشركاؤها كما يُزعم، وتجنب إعادة التوطين القسري للاجئين، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المناطق التي تحتلها في سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة أن تسعى إلى التوسط نحو التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار بين أنقرة و«قوات سوريا الديمقراطية»، والضغط على تركيا للعودة إلى محادثات السلام لإنهاء نزاعها مع «حزب العمال الكردستاني»، الذي يكمن في جذور القتال الحالي.
ومن الضروري أيضاً الحفاظ على الضغط على تنظيم «الدولة الإسلامية» والجماعات الجهادية الأخرى. وللقيام بذلك، يجب على الولايات المتحدة مواصلة الضربات الجوية ليس فقط في شرق سوريا بل أيضاً في مناطق مثل حلب وإدلب حيث توسعت الحملة الجوية في الأشهر الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، يجب على التحالف أن يهدد بشن غارات جوية على أهداف نظام الأسد إذا ما انخرطت [قواته] في عمليات استهداف جماعي للمدنيين في شرق سوريا. ومن المفترض أن يكون الحفاظ على الحملة الجوية أكثر صعوبة دون وجود قوات أو شركاء على الأرض، لكن رغم ذلك إنه أمر بالغ الأهمية. يجب أن يركز أي تواجد أمريكي متبقٍ في شرق سوريا - إذا كان ذلك قائماً بالفعل - على دعم هذه العمليات أولاً وقبل كل شيء. ولا يزال بإمكان الولايات المتحدة أن تقود الركائز الأخرى لـ الائتلاف العالمي المناهض لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، حيث يجب الاستمرار في الضغط من أجل إيقاف تمويل «داعش»، ومكافحة دعاية التنظيم، ودعم الاستجابة الإنسانية للأزمة.
يجب على الولايات المتحدة أن تولي الاستقرار في العراق اهتماماً كبيراً، فالشراكة بين الولايات المتحدة وقوات الأمن العراقية تُعتبر عاملاً أساسياً لمنع تنظيم «الدولة الإسلامية» من الربط مرة أخرى بين مسارح عملياته في سوريا والعراق، وحرمان إيران من فرصة ربط عملائها في سوريا بالميليشيات الشيعية التي تدعمها في العراق. يجب على واشنطن أن توضح للحكومة العراقية أن الولايات المتحدة تتوقع منها أن تمارس سيطرتها السيادية على أراضيها، وأنها ستساعد بغداد في الاستجابة بفعالية للاحتياجات الاقتصادية والأمنية للمواطنين العراقيين.
وأخيراً، يجدر بالولايات المتحدة ألا تستبعد أي أدوات أخرى تمنحها النفوذ اللازم لدفع عجلة العملية السياسية لإنهاء الحرب. وفي هذا السياق، يتعين على المبعوثين الأمريكيين الإسراع إلى أوروبا وآسيا والشرق الأوسط لضمان استمرار حلفاء أمريكا في بسط نفوذهم الجماعي المشترك مع واشنطن، أي فرض عقوبات، ورفض مساعدات إعادة البناء، والعزلة الدبلوماسية - من أجل الضغط على دمشق وطهران وموسكو لدعم العملية السياسية للأمم المتحدة.
وربما تم سحب القوات الأمريكية من سوريا تحت شعار "إنهاء الحروب التي لا تنتهي"، لكن من المرجح أن تجد الولايات المتحدة أن غيابها يجعل السلام والاستقرار أكثر صعوبة ويعرض المصالح الأمريكية لخطر أكبر من أي وقت مضى. من الضروري على صناع السياسة أن يعيدوا التركيز على حماية تلك المصالح في المرحلة القادمة بواسطة الأدوات المتبقية لهم. وعلى الرغم من أن الكثير قد تغير خلال العشرة أيام الماضية، إلا أنه بقيت أمور أكثر دون تغيير: فالحرب لم تنتهِ، وتنظيم «الدولة الإسلامية» لم يُهزم، وإيران لم تُردَع، وروسيا مستمرة في إحكام قبضتها.
المؤلفان هما رئيسان مشاركان لـ تقرير مجموعة دراسة سوريا المكلّف من قبل الكونغرس الأمريكي.
دانا سترول هي زميلة أقدم في "برنامج غيدولد للسياسة العربية" في معهد واشنطن وكانت سابقاً أحد كبار الموظفين في "لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي" لشؤون الشرق الأوسط، وعملت سابقاً في مكتب سياسات الشرق الأوسط التابع لوزير الدفاع الأمريكي.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين- سويغ" والمدير الإداري لمعهد واشنطن، ومدير أقدم سابق لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. وخلال فترة ولايته في البيت الأبيض (2005-2008)، كان مسؤولاً عن وضع وتنسيق سياسة الأمن القومي تجاه الشرق الأوسط.
"ذي هيل"