- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
انتخابات مجالس المحافظات العراقية: تخبط انتخابي يُقوض آفاق التغيير من الداخل
يبقى اجتياز المشهد الانتخابي العراقي المربك إحدى العقبات الرئيسية أمام جهود الإصلاحيين، ففي حال نجح اللاعبون الإصلاحيون السياسيون الناشئون في تشكيل جبهة موحدة وطرح برنامج سياسي ملموس، ومقاومة استقطابهم من قبل القوى الحاكمة، عندها سيكون هناك إمكانية لحدوث تغيير سياسي جوهري خلال العملية الانتخابية المقبلة.
يستعد العراقيون لخوض انتخابات مجالس المحافظات في الـ 18 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، وسط صراع بين القوى التقليدية وبين القوى الناشئة التي تسعى إلى تحدي الوضع الراهن. وتواجه القوى التي تسيطر على البلاد منذ تأسيس النظام السياسي الحالي عام 2003، قوى ناشئة تأمل في تغيير المعادلة السياسية على مستوى مجالس المحافظات. وتأمل تلك القوى الناشئة في إنتاج جيل سياسي جديد ينافس القوى التقليدية في الانتخابات المحلية.
تم إنشاء مجالس المحافظات بموجب الدستور العراقي لعام 2005 بعد سقوط نظام صدام حسين. بحسب الدستور العراقي، تتمتع مجالس المحافظات بصلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة، فهي لا تخضع لسيطرة أو إشراف أية وزارة، ولها نظام مالي مستقل وتتمتع أيضا بصلاحيات وضع ميزانيات العديد من القطاعات مثل التعليم والصحة. وتشبه مجالس المحافظات في صلاحياتها صلاحيات أعضاء مجلس النواب، حيث تملك السند القانوني لتنصيب أو إقالة المحافظ، كما تتولى الرقابة على الدوائر المرتبطة بوزارات مركزية ومتابعة أداء مدرائها وكوادرها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود رغبة مشتركة في إحداث تغيير، إلا أن الساحة السياسية ما زالت تتسم بالفوضى خاصة مع وجود عدد مذهل من الأحزاب والحركات السياسية تخوض السباق الانتخابي وتتنافس على المقاعد. وفى هذا السياق، يشارك في العملية الانتخابية ما يقرب من 296 حزباً سياسياً يُشكل 50 تحالفاً، فضلاً عن عدد كبير من المرشحين الذين سيشاركون في قوائم مستقلة. ومع ذلك، يبقى اجتياز المشهد الانتخابي العراقي المربك إحدى العقبات الرئيسية أمام جهود الإصلاحيين، ففي حال نجح اللاعبون الإصلاحيون السياسيون الناشئون في تشكيل جبهة موحدة وطرح برنامج سياسي ملموس، ومقاومة استقطابهم من قبل القوى الحاكمة، عندها سيكون هناك إمكانية لحدوث تغيير سياسي جوهري خلال العملية الانتخابية المقبلة.
نجاحات وإخفاقات الانتخابات الأخيرة
إن الشعور المتزايد المناهض للنظام الحاكم يمثل استمرارا لحركة تشرين الاحتجاجية عام 2019 التي خرج فيها آلاف العراقيين الساخطين إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم تجاه الحكومة. وقد حاولت العديد من الأحزاب السياسية والحركات الشعبية ترجمة المظالم المنتشرة على نطاق واسع إلى إصلاح سياسي حقيقي، وأخذت على عاتقها مسؤولية التغيير السلمي من داخل العملية السياسية بهدف بث الحياة في الحكومة الراكدة، ووضع حجر الأساس لمشاريع مدنية كبيرة. كما وعدت تلك القوى بتفكيك هياكل الميليشيات التي تسيطر بالقوة، علاوة على حماية الحكومة من المصالح الأجنبية.
دفع الزخم الذي أعقب احتجاجات تشرين تلك الحركات للمشاركة بقوة في الاستحقاقات الانتخابية وتحقيق نتائج مبهرة بعد مشاركاتها في الانتخابات النيابية الأخيرة في تشرين الأول /أكتوبر 2021، حيث حصلت على 35 مقعداً نيابياً توزعت على (9 حركة امتداد، 6 إشراقة كانون و20 مقعداً للمستقلين)، في حين تراجعت أعداد مقاعد الأحزاب التقليدية لمستويات متدنية مثل تيار الحكمة التابع لرجل الدين الشيعي عمار الحكيم، الذي حصل على مقعدين فقط، ومثلها لائتلاف النصر بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وكتلة بدر التابعة لهادي العامري التي حصلت على 17 مقعداً فقط، عدا عن التيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي حصلت كتلته الصدرية على 73 مقعداً في البرلمان العراقي، استقالوا جميعهم في وقت لاحق بسبب خلافات سياسية مع الإطار التنسيقي على تنصيب رئيس الجمهورية.
كانت تلك النتائج والنجاحات التي حققتها تلك الحركات في الانتخابات بمثابة قوة دافعة لجماهير تشرين والقوى المدنية التي بدأت بالتفكير في الدورة القادمة والاستعداد لها. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فسرعان ما بدد الواقع تلك الأحلام، واقع تمثل بعدم كفاية الخبرة اللازمة لمجاراة العملية السياسية العراقية الشائكة، بالإضافة إلى عدم وضوح المشاريع وعدم الاتفاق بين أفراد الحزب الواحد. ومن أبرز الأمثلة على ذلك كان الانشقاق الذي حدث داخل حركة امتداد وإعلان نواب ينتسبون إليها استقالتهم، علاوة على استقالة بعض الأعضاء في التنظيم السياسي للحركة أيضاً، وشبهات الفساد التي طالت الأمانة العامة للحركة.
سارع النواب المستقيلون من حركة امتداد إلى الانضواء مع بعض الأحزاب والحركات الأخرى المشبوهة ، فمنهم من شكل تحالفات سياسية مع القوى التقليدية الحاكمة، ومنهم من جلس مع زعماء ميليشيات مدعومة إيرانياً مثل زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وآخر انضم لمجموعة من النواب الذين يمثلون ميليشيا حزب الله العراقي والحشد الشعبي، أما النواب المستقلون والذين يبلغ عددهم قرابة 20 نائباً، فمنهم من لم يكن مستقلاً من الأساس، ومنهم من انضم لأحزاب فاسدة وميليشيات بعد فوزه في الانتخابات.
ومما يثير استياء الناخبين أن نواب الحركات الناشئة لم يختلفوا كثيرا عن نواب الأحزاب التقليدية من حيث سلوكيات العمل النيابي خلال الفترة الماضية والحالية، فقد طالتهم الاتهامات ذاتها التي طالت من سبقهم، وانتهجوا النهج ذاته في التعامل مع منتقديهم، حيث الدعاوى القضائية تكون حاضرة عند أي انتقاد يوجّه ضدهم. لذا، أدى الفشل في حدوث تغيير سياسي ملموس على يد الجيل الجديد من السياسيين إلى تفشى حالة من التشاؤم لدى العديد من العراقيين. ونتيجة لذلك، لم يعد الشارع العراقي، وخاصة حركة تشرين الاحتجاجية، يشعران أنه من الممكن إحداث تغيير من خلال صناديق الاقتراع.
الارتباك يُخيم على الانتخابات المحلية
مع اقتراب الموعد المقرر لعقد انتخابات مجالس المحافظات، تسيطر فوضى الاستعدادات للانتخابات بقوة على المشهد، من حيث أعداد المرشحين والحركات السياسية الجديدة، التي ستجعل الناخب في حيرة من أمره عند اختيار ممثله، حيث تقتصر مؤهلات المرشح للانتخابات على حيازته شهادة جامعية، وسن مناسب للترشح، وامتلاكه عدد متابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، لا عبر امتلاكه رؤية سياسية أو مشروعاً سياسياً ناضجاً .ويوظف هؤلاء المرشحون أساليب دعاية انتخابية متنوعة كمحاولة لكسب ثقة الجماهير، فمنهم من يستخدم صوره خلال احتجاجات تشرين ومشاركته في الحرب ضد التنظيم " داعش" ، ومنهم من يستخدم صور المرجع الديني السيستاني وتبعيته له أيضاً كدعاية، أو صور عمله التطوعي بتوزيع سلال غذائية على الفقراء من أموال متبرعين معبراً فيها عن رؤيته في إصلاح الواقع ومساعدة الفقراء.
ومع ذلك، لا تعبر تلك الأساليب عن البرنامج الانتخابي للنائب وليس لها أي وزن سياسي، فالنائب ليس نائب خدمات وليس من واجبه توزيع سلال غذائية أو التوظيف أو يقوم بمسؤوليات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، بل واجبه تشريع القوانين ومراقبة الأداء الحكومي وتقديم مقترحات القوانين بعد التفاوض مع زملائه النواب وإقناعهم برؤية القانون، علاوة على واجباته الدستورية الأخرى وفق الصلاحيات، وفوق كل ذلك يجب أن يكون صاحب مشروع ورؤية ناضجة وفق اختصاصه الذي يعمل به ويرى نفسه قادراً على صنع القرار من خلاله.
أما على مستوى الأحزاب، فهي الأخرى أصبحت تطرح نفسها لمجرد قدرتها على التسجيل كحركة سياسية لدى مفوضية الانتخابات، أو قدرتها على عقد مؤتمرات تأسيسية تحضرها جموع ترتدي البدلات الرسمية وربطات العنق، دون امتلاكها مشاريع سياسية واضحة واعتمادها على شعارات ثورية ليس لها وزن في الساحة السياسية.
علاوة على ذلك، هناك فئة أخرى تلعب دورا رئيسيا في حالة الفوضى الحالية، وهي الطبقة الجماهيرية التي لم تكن على قناعة بأحقية وجود مجالس المحافظات في السابق، حيث كانت تعتبرها منبعاً من منابع الفساد وباباً للسرقات على مستوى الحكومات المحلية، لكن مع الوقت تبدلت قناعتها حين ترشحت الوجوه الجديدة التي تخدعهم بتبني مطالب تشرين وشعاراتها والدفاع عنها وانتهاج منهج المدنية وفصل الدين عن السياسة لكنها لم تطبق ما ادّعته في أول فرصة لها، فلم تختلف هذه الطبقة الجماهيرية عن تلك التي توالي الأحزاب التقليدية، حين خدعتها الطبقة الحاكمة بشعارات المقاومة والدفاع عن المذهب والدين والعقيدة، لكنها فعلت العكس واستغلت الطائفية والتفريق منهجاً في سياساتها.
إن حالة التشرذم التي تمر بها القوى السياسة الناشئة والتي جعلتها فريسة سهلة للقوى السياسية التقليدية وضحية للمغريات السياسية، يمكن معالجتها من خلال توحيد القوى السياسية الناشئة ضمن ائتلاف انتخابي واحد يتبنى رؤى متماسكة تمكنه من خوض الانتخابات بقوة ومنافسة القوى التقليدية المسيطرة. كما ينبغي على هذا الائتلاف أن يتبنى برنامج سياسي ناضج وواضح يعتمد على الخبرة السياسية والمهنية للمرشحين ويهدف إلى إحداث تغيير ديمقراطي حقيقي بعيدا عن سيطرة القوة والمال. وإذا أمكن تحقيق هذه الوحدة، مع قيام قيادات الحزب والمرشحين بحل مشاكلهم العالقة، فمن الممكن في نهاية المطاف توجيه روح حركة تشرين نحو تغيير سياسي ملموس على المستوى المحلي. ومن ناحية أخرى، فإن استمرار الوضع الراهن سيؤدى في نهاية المطاف إلى تآكل ثقة العراقيين في عملية التغيير من خلال الانتخابات أو في الحركات السياسية الجديدة بشكل كبير.