- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
انتشال إقليم كُردستان من جفافه السياسي
إن أصعب المعضلات التي تواجه إقليم كردستان هي معضلة تحديد هوية النظام السياسي، إذ لا يعرف المتابع للشأن الكُردي، هل هو نظام برلماني أم رئاسي.
قبل انتهاء فترة ولايته الثالثة كرئيس، كان مسعود بارزاني يمتلك صلاحيات تنفيذية واسعة. ومع ذلك، فإن الدستور يحدد حكومة إقليم كردستان باعتبارها نظام برلماني، على غرار النظام الوطني العراقي.
وكان الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يرأسه بارزاني دائما ما كان يدعوا لفترة طويلة إلى إقامة نظام رئاسي، في حين أن الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) وحركة التغيير (كوران) كانوا يدعون إلى إقامة نظام برلماني مع إدخال بعض التعديلات على قانون الانتخابات الرئاسية والحد من سلطات الرئيس من قبل البرلمان.
وقد أثار النزاع حول ماهية النظام السياسي بعض المشكلات التي ردها المتابعين والمراقبين إلى الخصومات التاريخية بين النخبة السياسية في السليمانية وبين عائلة البارزاني، والتي ظهرت للمرة الأولى في ستينات القرن المنصرم حين ترك الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني ورفاقه صفوف الحزب الديموقراطي الكُردستاني بقيادة البارزاني الأب.
ومع ذلك، فهذا التحليل يفرط في تبسيط الوضع السياسي والمصالح الناشئة لإقليم كُردستان حيث يشكل لغزاً فكرياً وسياسياً ووجهات نظر مختلفة تتعلق بالكيفية التي يجب أن يحكم بها الإقليم. وقد تم إدارة تلك المعضلة على مدار عقدين من الزمن من خلال تقديم بعض الحلول السياسية المؤقتة .
وفقاً لمعطيات هذه المرحلة الحرجة التي وصلت إليها السياسية الكُردية، تعطلت مشاريع الاستثمار وهيمنة الركود على السوق وخلو البنوك من الودائع المالية، ومع ذلك، يمكن القول بأن أسباب الأزمة الاقتصادية لإقليم كُردستان الحالية تنبثق من عدة جوانب منها تفشى الفساد، واقتصاد النفط وسوء إدارة الخدمات العامة والقطاع العام. ويعتبر موضوع هوية النظام السياسي ودور النفط من أهم المستجدات السياسية في إقليم كردستان، بينما تجدد المشاكل الأخرى نفسها وفقاً لتبعات هذين المستجدين ذاتهما حيث تمتد جذورهما في تاريخ الحكم المحلي الكُردي إلى عوامل اجتماعية وآيديولوجية قبل وبعد عام ١٩٩٢ إذ تشكلت فيه حكومة أول محلية كُردية.
أصبح موضوع هوية النظام السياسي في حكومة إقليم كردستان من المواضيع الملحة خاصة بعد توقيع ورقة تفاهم مشترك عام ٢٠١٣ بين الاتحاد الوطني الكُردستاني وحركة التغيير والتي وافق عليها كلا من جلال الطالباني ورئيس حركة التغيير نوشيرون مصطفى. وقد أكد الحزبان في ذلك التفاهم الذي تحول إلى اتفاقية سياسية عام ٢٠١٦، على ضرورة إقرار نظام برلماني يتم فيه انتخاب الرئيس.
برزت مسألة النفط في حكومة إقليم كردستان والطريقة الغامضة التي يدار بها، برزت عقب التوقيع على الدستور العراقي الأول بعد سقوط صدام حسين في عام ٢٠٠٣. وكان تقسيم السلطات بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية يتسم بالمرونة، وأصبح موضوعاً للشعارات القومية بين بغداد وأربيل.
يمكن القول بان أزمة إقليم كُردستان الحالية تتمثل بسردية قومية ممزوجة بقيم عائلية قبلية تفتقد لفلسفة الدستور في الحكم، أُضيف لها عامل الاقتصاد. فبعد مرور عقدين ونيف لم يجتز الإقليم عتبة الدستور، كما لم توفر قيادته السياسية مساحة للشراكة والشفافية وإجراء الإصلاح السياسي والاجتماعي والإداري، وإبعاد النفوذ الحزبي عن مؤسسات القضاء والتربية وقوات البيشمركة.
ومن الواضح أن الثقافة السياسية في كُردستان العراق اليوم تستخدم كأداة لتكريس آليات شخصنة السلطة أكثر من قيم الحرية والديمقراطية والتنوع. وكان العامل المستجد بالنفط بين كل ذلك، الدور الأهم لتكريس السردية القومية.
قصارى الكلام، لم يحصل شيء من قبيل الإصلاح في كُردستان وأصبح شعار حكم القانون والنموذج الكُردي للديمقراطية كلمة حق يراد بها باطل، ذاك أن مؤسسة القضاء خاضعة للنفوذ الحزبي، تم تسييس المناهج الدراسية، لم تتحول قوات البيشمركة إلى جيش مهني في الإقليم، كما بقي انضمامها إلى منظومة الدفاع العراقية حبر على الورق إذ لم تلتزم الحكومة العراقية بتوفير مستلزماتها ورواتب أفرادها. وصل عدد الموظفين ومنتسبي قوات الأمن الداخلية والشرطة إلى نصف مليون إذ يشكل عبئاً مالياً وإداريا لا تستطيع الحكومة أن تتحمله.
ولكن ما الحل إذا ما كان لدى الكُرد إرادة حقيقية لانتشال إقليمهم من الغرق؟ هل يمكن بناء جسور الثقة مع بغداد في إطار مشروع وطني بعيد عن الإستقطابات الإقليمية؟
ولكن هل يمكن ردم الهوة التي تركها التعنت السياسي؟ وهل يعقل البحث عن هوية النظام السياسي والإصلاح والشفافية لإقليم كُردستان في واشنطن؟
إن تأثير واشنطن على الأحداث والتحولات في العراق لم ينتف كما يحلو للبعض، كما أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين تشير في أغلب المناسبات إلى وقوف الحكومة الأمريكية إلى جانب التغيير والإصلاح، لكن لا يمكن فرض وصفات جاهزة لأي إصلاح وتجديد، إن لم يكن هناك إرادة داخلية تنطلق من رغبة الشراكة.
يجب أن يتوقف دعم واشنطن بغية إيجاد الحلول لأزمات كُردستان المتداخلة على: الاتفاق على هوية نظام سياسي يتناغم مع هوية النظام السياسي في العراق، ويساعد ذلك في خلق أرضية مشتركة بين الحكومة الاتحادية والإقليمية. كما يجب الضغط على الحزب الديمقراطي الكُردستاني حيث يسيطر على العاصمة أربيل، من أجل القبول بتفعيل دور البرلمان بغية إعادة رسم هيكلته وأعماله. وقد تعطي أية خطوة من هذا النوع الأحزاب المشاركة في العملية السياسية جرأة الاقتراب من ملفات الفساد ومؤسسة القضاء، ناهيك عن ملفات النفط ووارداته.
وفي السياق ذاته، يمكن التعرج إلى أن المساعدات التي تقدمها واشنطن في مجالات التربية والمجتمع المدني والإعلام من خلال المؤسسات والمراكز المحلية الكُردية التي من المفترض أن تشارك في الانتقال إلى الديمقراطية والعدالة، تخضع في جزء كبير منها إلى النفوذ الحزبي غير الفعال، ذاك أن غالبية منظمات المجتمع المدني في إقليم كُردستان إضافة إلى إغراقها في الفساد والمحسوبية، تعمل وفق أجندات حزبية. لا يمكن فصل هذا الأمر عن مجمل أزمة إقليم كُردستان، ذاك أن إخضاع المؤسسات الدولية ومشاريعها للنفوذ الحزبي أو تعطيلها، أو توريطها أحياناً، يشكل جزءاً من التحكم بالرأي العام.
فيما خص الإصلاح الإداري في مؤسسات حكومة الإقليم إذ أنها تعاني من تضخم أعداد الموظفين، فانه يستوجب التفكير ملياً بعواقب تصريف أكثر من نصف مليون موظف قبل إيجاد فرص العمل والاستثمار في القطاعات الخاصة، لأن إرسال مئات الآلاف من الموظفين إلى بيوتهم دون تأمين حياتهم قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية خطيرة. لذلك يمكن القول بأن خطة “مارشال” إدارية وبمساعدة أمريكية-أوروبية، لإنقاذ كُردستان من أزمتها الحالية، تعد من ضرورات الإصلاح الأساسية.