بسبب قُرب موعد الانتخابات الإسرائيلية والتسرع الناتج عن ذلك للتوصل إلى اتفاق بحري، فقد تؤدي هذه التطورات إلى تشتيت الانتباه عما يمكن أن يكون مَعلماً دبلوماسياً واقتصادياً مهماً لإسرائيل ولبنان.
في 12 تشرين الأول/أكتوبر، وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على المضي قدماً في اتفاقٍ جديد لترسيم الحدود البحرية الدائمة مع لبنان، ليتم بذلك اختتام جهودٍ استمرت لعقدٍ من الزمن بوساطةٍ من الولايات المتحدة من أجل ترسيم الحدود بشكلٍ رسمي بين المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين للبلدين والتوصل إلى تفاهم بشأن مياههما الإقليمية. وتبلغ المساحة الإجمالية المتنازع عليها حوالي 330 ميلاً مربعاً، بما فيها الغاز الطبيعي الذي قد يختزنه حقل "قانا".
ويشكّل رسم الحدود البحرية حدثاً استثنائياً لأن إسرائيل ولبنان بقيا في حالة حرب منذ عام 1948 من دون أن يتفق البلدان على ترسيم أي من الحدود المشتركة بينهما منذ "اتفاقات الهدنة" عام 1949. وقد سهّل كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين من الجانبين في التوصل إلى هذا الاتفاق، حيث أفادت بعض التقارير أن رئيس أركان "جيش الدفاع الإسرائيلي" أفيف كوخافي قال لوزراء الحكومة أن الاتفاق يمكن أن "يُحسّن" أمن إسرائيل، بينما أشاد وزير الدفاع بيني غانتس بالاتفاق باعتباره "مهماً" للأمن، في الغالب من خلال التهدئة الجزئية للتوترات مع «حزب الله». وشكّلت التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أوّل موافقةٍ علنيةٍ له على إبرام اتفاقٍ مع إسرائيل؛ بيد أنه من غير المتوقع أن يساهم الاتفاق بمفرده في منع اندلاع أعمال عدائية في المستقبل بين إسرائيل و«حزب الله» على جبهات أخرى أو أن يؤدي إلى قيام علاقات دبلوماسية بين القدس وبيروت.
ويرتبط توقيت الاتفاق على الأقل جزئياً بواقع أن للبلدين حالياً مصلحة مشتركة في تسهيل استخراج الغاز البحري، الأمر الذي يستوجب درجةً من الاستقرار حول المنطقتين المعنيتين. وتؤدي الانتخابات المقبلة في إسرائيل والغموض الذي يلف المشهد السياسي في لبنان دوراً في ذلك أيضاً.
ما هي شروط الاتفاق؟
هذه هي الحدود الأولى التي يتم ترسيمها بين إسرائيل ولبنان بشكلٍ دائم - سابقاً، كانت حدودهما البحرية عبارة عن خطوط مؤقتة وضعتها إسرائيل، بينما تم رسم حدودهما البرية الوحيدة من قبل أطراف ثالثة. فبعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000، رسمت الأمم المتحدة ما يسمى بـ "الخط الأزرق" الذي شكل حدوداً برية مرسومة بالقرب من خط "اتفاقات الهدنة" لعام 1949. وعلى الرغم من أن الحكومتين تحترمان هذا الخط بشكل عام، إلا أنهما لم تعترفا به رسمياً قط، وشهدت الحدود انتهاكات ومناوشات عسكرية متكررة على مرّ السنين، أبرزها حرب عام 2006 التي بدأت بعد توغّل «حزب الله» داخل الخط. وبما أن الأمم المتحدة لم تقم بترسيم حدودٍ بحرية، عمدت إسرائيل إلى مد خط عوامات يمتد لمسافة 3.1 أميال في البحر من معبر رأس الناقورة/روش هانيكرا. ومنذ ذلك الحين، تقوم القوات الإسرائيلية بدوريات في المنطقة، واصفة هذه الخطوة بأنها إجراء أمني ضروري يمنع «حزب الله» من إقامة خط رؤية لإطلاق الصواريخ/القذائف على الساحل الشمالي لإسرائيل. وبالتالي، شددت إسرائيل على ضرورة إدراج هذا الخط في الاتفاق.
وتمّ تضمين بعض هذه الترتيبات السابقة في الاتفاق الجديد الذي تنص بنوده الأساسية على ما يلي:
- سيتم الاعتراف "بخط العوامات الحالي" والمنطقة الممتدة إلى الساحل رسمياً على أنها "الوضع القائم" إلى حين اتفاق الطرفين على ترسيم الحدود البرية. وسيشكل الخط 23 الحدود البحرية خارج نطاق خط العوامات، بناءً على طلب لبنان (انظر إلى الخريطة أدناه التي توضح مطالب كل حكومة قبل الاتفاق).
- وفقاً لتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد في مؤتمر صحفي، ستتلقى إسرائيل تعويضات عن حصتها البالغة 17% من عائدات الغاز المحتمل في حقل "قانا" عند تطوير المنطقة. وسيجري ذلك عبر اتفاق جانبي مع شركة "توتال" الفرنسية التي ستطوّر الحقل بموجب عقد مع الحكومة اللبنانية. وسيتيح هذا الترتيب لبيروت أيضاً الادعاء بأنها لن تعوّض إسرائيل.
- ستزوّد الولايات المتحدة إسرائيل برسالة جانبية، تعلن فيها عن تسخير قدراتها الدبلوماسية لدعم موقفها بشأن شروط محددة من الاتفاق إذا انتهكها «حزب الله» أو أطراف أخرى. وفي غضون ذلك، أجرى الرئيس بايدن اتصالاً هاتفياً مع كل من لابيد والرئيس اللبناني ميشال عون في 11 تشرين الأول/أكتوبر لتهنئتهما على هذا الإنجاز.
- بالنظر إلى رغبة لبنان في تجنّب تصوير الاتفاق على أنه تطبيع مع إسرائيل، أفادت بعض التقارير أنه سيتمّ المصادقة عليه في حفل توقيع يقام في إحدى منشآت الأمم المتحدة في منطقة رأس الناقورة الحدودية - في غرف منفصلة على ما يبدو. ولم يتضح ما إذا كان الطرفان سيوقعان على وثيقة واحدة إلى جانب التزامهما بإرسال خطابيْ تأكيد منفصلين إلى الولايات المتحدة.
عقبات سياسية محتملة
يبدو أن الحكومتين في سباقٍ مع الوقت لإنجاز الاتفاق وإضفاء الطابع الرسمي عليه في بلديهما. ففي 31 تشرين الأول/أكتوبر، تنتهي ولاية عون الرئاسية، في حين يشغل لابيد رئاسة حكومة تصريف أعمال بصورة مؤقتة، إذ من المقرر إجراء جولة إسرائيلية أخرى من الانتخابات في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر. وخلال مؤتمرٍ صحفي عقده لابيد في 12 تشرين الأول/أكتوبر، أصرّ على أن الانتخابات المقبلة ليست عاملاً مؤثراً، مشدداً بدلاً من ذلك على "تبدُّد الفرصة المتاحة" مع رحيل عون.
وفي الشهر الماضي، اعتبرت المدعية العامة في إسرائيل غالي باهراف-ميارا أن الاتفاق البحري لا يخضع لقانون الاستفتاء لعام 2014 الذي يتطلب موافقة أغلبية الإسرائيليين والكنيست أو الأغلبية المطلقة في الكنيست على أي تنازلات عن الأراضي. ويُقال إنها أبلغت الوزراء بأنها تفضل تصويتاً كاملاً في الكنيست لكنه ليس ضرورياً الآن نظراً إلى مدى إلحاح الوضع القائم مع انتهاء ولاية عون ودعم الأجهزة الأمنية الإسرئيلية. وتم تقديم العديد من العرائض إلى المحكمة العليا الإسرائيلية التي تطعن حالياً في هذا الموقف. ووفقاً لأحد كبار المسؤولين الإسرائيليين، ستجتمع هيئة محكمة مؤلفة من 3 أعضاء في 20 تشرين الأول/أكتوبر لمراجعة عملية المصادقة، في خطوةٍ تمثل على ما يبدو الأمل الرئيسي للمنتقدين الذين يريدون إفشال الاتفاق.
ووفقاً للحكومة الحالية، يركز الاتفاق إلى حد كبير على المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل (المحددة بموجب "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" على أنها المنطقة التي تمتد ما بين 12 إلى 200 ميل بحري قبالة الشاطئ)، بدلاً من مياهها الإقليمية (ما يصل إلى 12 ميلاً بحرياً). كما يشير المسؤولون (الإسرائيليون) إلى أنهم يسعون فقط إلى تفاهم للوضع القائم مع لبنان بشأن المياه الإقليمية إلى حين حل النزاعات المتعلقة بالحدود البرية. ومع ذلك، فإن التنازلات الظاهرة عن الأراضي بين نهاية خط العوامات وحدود المياه الإقليمية قد تعقّد القضايا القانونية.
وسيتمّ خلال الأسبوعين القادمين تقديم الاتفاق إلى الكنيست لإبداء تعليقاته وتحفظاته التي يحق للحكومة الموافقة عليها أو رفضها. وكان لابيد قد أوضح أنه يريد تمرير الاتفاق بتصويتٍ كامل من الحكومة وأنه غير ملزم قانونياً بالدعوة إلى التصويت عليه في الكنيست طالما أعطت الحكومة موافقتها. يُذكر أن الموعد الأقرب الذي يمكن للحكومة الموافقة فيه على الاتفاق من دون تصويت الكنيست هو في 26 تشرين الأول/أكتوبر، وهي خطوة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لائتلافٍ لا يتمتع بالأغلبية.
وبالفعل، يؤدي الاتفاق إلى انتشار خطابٍ موسّع ومتحزّب في ظل جو الانتخابات المشحون بالانقسامات في إسرائيل. فقد انتقدت المعارضة بقيادة رئيس حزب "الليكود" بنيامين نتنياهو الاتفاق لتقديمه تنازلاتٍ كبيرة للبنان وتعزيز «حزب الله»، في حين يرى مؤيدو الاتفاق أنه سيعود بالفائدة على أمن إسرائيل واستقرار لبنان:
الحجج المؤيدة للاتفاق:
- ستساهم إقامة منشآت للغاز على جانبي الخط البحري الجديد في استقرار المنطقة، حيث سيكون لكل جانب منفعة اقتصادية في الحفاظ على الهدوء. على سبيل المثال، إذا قام «حزب الله» بمهاجمة منصة بحرية إسرائيلية، فستكون المنشآت البحرية اللبنانية هدفاً واضحاً وتلقائياً للرد الإسرائيلي.
- لا تريد إسرائيل دولةً عاجزة على حدودها لأنها ترى أن ذلك سيسمح لـ «حزب الله» بإحكام قبضته. وفي وقتٍ ينهار فيه اقتصاد لبنان بالكامل، تعتبر إسرائيل أن الاتفاق البحري مصدر دخلٍ محتمل لبيروت - حيث قد يضعف هذا الاتفاق سيطرة طهران في المستقبل ويرغم «حزب الله» على الاختيار بين المصالح الإيرانية واللبنانية. ويشكل استعداد الميليشيا لإعطاء الضوء الأخضر للاتفاق تحولاً في المواقف، على الرغم من أنه ليس لدى المسؤولين الإسرائيليين أوهام بأن هذا الإنجاز وحده سيجنّب البلدين اندلاع حربٍ أخرى في المستقبل.
- سيُسهّل الاتفاق على إسرائيل الجهود التي تبذلها لتطوير حقل غاز "كاريش". وعلى الرغم من أن الحقل يقع داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، إلا أن السلطات أرجأت استخراج الغاز خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى حين التوصل إلى اتفاق. ووسط الانتقادات بأن إسرائيل رضخت لتهديدات «حزب الله» من خلال عدم إطلاقها عمليات الاستخراج بشكلٍ أحادي في وقتٍ سابق، فإن الحكومة لم تعد تثني على الفوائد الاقتصادية التي ستحققها من حقل "كاريش" على أنها أحد إنجازات الاتفاق. أما احتياطيات إسرائيل الإجمالية من الغاز فتتمثل باحتواء حقل "كاريش" بكميات مؤكدة تبلغ 1.75 تريليون قدم مكعب، وهي صغيرة مقارنة باحتياطيات حقلي "ليفياثان" و "تمار" الضخمين في إسرائيل، والتي تبلغ 35 تريليون قدم مكعب و 7.1 تريليون قدم مكعب على التوالي.
- ستحصل إسرائيل على حقوق استحواذ في حقل "قانا" الذي يصفه الاتفاق بأنه ربما يحمل "جدوى تجارية غير معروفة حالياً". ويقدّر وزير الطاقة الإسرائيلي أنه يمكن لحقل "قانا" أن يدر أرباحاً بقيمة 3 مليارات دولار تقريباً. ووفقاً للابيد والمسؤولين الأمريكيين، ستحصل إسرائيل على 17% من العائدات، وهي تلك المرتبطة بالقسم الواقع في الجانب الإسرائيلي. غير أن الحجم الفعلي للحقل وربحيته سيبقيان مجهولين إلى أن يتم الوصول إلى مرحلة متقدمة من عملية الحفر التي لم تبدأ بعد. وقد يستغرق لبنان أكثر من خمس سنوات قبل أن تبدأ باستخراج الغاز إن وُجد.
الحجج المعارضة للاتفاق:
- يقول النقاد إن القدس تنازلت كثيراً وأذعنت للضغوط الخارجية. ووفقاً لوجهة النظر هذه، فإن رسم الحدود عند الخط 23 يمنح إسرائيل مساحة بحرية أقل بكثير من الخط 1 (موقعه الأصلي مسجل لدى الأمم المتحدة في عام 2011) وخط التسوية الذي اقترحه الوسيط الأمريكي فريديرك هوف (الذي كان سيمنح لبنان 55 بالمائة من المنطقة الواقعة بين الخطين 1 و 23). والآن، يدّعي نتنياهو الذي قاد المفاوضات طيلة سنوات انطلاقاً من الخط 1 وخط هوف أن الحكومة وافقت على الخط 23 لأنها تخشى تهديدات «حزب الله» بقصف حقل "كاريش". كما اتهم لابيد بالتسرّع في الأمر لكي يحقّق إنجاز دبلوماسي قبل الانتخابات. بعبارةٍ أخرى، من المفترض أن يكافئ الاتفاق تكتيكات لبنان الماكرة والتصعيد الذي قام به الحزب مؤخراً. ففي أواخر عام 2020، اتخذت بيروت موقفاً متطرفاً بشكل غير متوقع من خلال الخط 29 الذي وسّع المساحة التي تطالب بها إلى 550 ميلاً مربعاً. لكنها لم تتقدم قط بهذا الموقف بشكلٍ رسمي إلى الأمم المتحدة، ومن ثم اختارت الخط 23. أما إسرائيل، فأرجأت استخراج الغاز من حقل "كاريش" - الذي يقع خارج المنطقة المتنازع عليها - على الرغم من أن شركة "إنرجيان" للحفر بدأت مؤخراً بإجراء اختبارات الإنتاج.
- سيستفيد "حزب الله" مالياً من الاتفاق، حيث من المحتمل أن يحوّل مسار تدفقات العائدات الجديدة أو يستفيد منها، علماً أنها من المفترض أن تُعين الاقتصاد اللبناني المتعثر.
- على الرغم من أن الضغوط الأمريكية والديناميكيات السياسية داخل لبنان وإسرائيل قد تسرّع تمرير الاتفاق، إلّا أن المعارضين يجادلون بأن الإجراءات القانونية الواجبة لا يتم احترامها. فقد يكون قرار عدم دعوة الكنيست للتصويت على الاتفاق سابقةً في سياقات أخرى إذا عاد رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو إلى السلطة بعد أن أشار في الأسبوع الماضي إلى أنه سيلغي الاتفاق إذا فاز في الانتخابات. لكنه خفف من نبرته بعد أن أظهر استطلاع تلفزيوني أن أكثرية الإسرائيليين تؤيد الاتفاق. ومن غير المرجح إبطال اتفاق دولي بعد تنفيذه بسبب التداعيات غير المرغوبة التي ستتحملها إسرائيل.
الخاتمة
يشكل اقتراب موعد إجراء الانتخابات في إسرائيل مصدر إلهاء عن واقع كَوْن الاتفاق البحري مع لبنان إنجازاً مهماً للبلدين. فمن خلال السعي إلى إبرام هذا الاتفاق، تراهن حكومة لابيد الائتلافية على أن زيادة الاستقرار والفرص الاقتصادية المتبادلة ستُعوض على التنازلات التي قدمتها في منطقة بحرية رئيسية.
ديفيد ماكوفسكي هو زميل "زيغلر" المميز في معهد واشنطن ومدير "مشروع كوريت" حول العلاقات العربية الإسرائيلية. وهو أيضاً منتج برنامج البث الصوتي "نقاط القرار"، والذي سيبدأ موسمه الرابع في نهاية هذا الشهر.