- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إسرائيل والجزائر: الاحتجاجات والسياسة والاستعمار
إن استكشاف أوجه التشابه بين التجربتين الإسرائيلية والجزائرية، من شأنه أن يوفر نظرة ثاقبة حول مستقبل الديمقراطية في كلا البلدين.
رغم أن إسرائيل والجزائر قد يبدوان مختلفان للوهلة الأولى- إن لم يكونا متناقضتان تماماً في سياق الدور التقليدي الذى تلعبه الجزائر ضمن معسكر القوميين العرب الراديكالي منذ فترة طويلة كدولة مناصرة للحركة الوطنية الفلسطينية خلال سنوات تكوينها، إلى جانب التحالف الجيوسياسي الأخير لإسرائيل مع المغرب، إلا أنه هناك تشابه في التجارب بين البلدين. ومن ثم، هناك ضرورة لدراسة تاريخ البلدين والتجارب التي مرا بها، لتوضيح ما يميز الواحد عن الآخر ولتكوين فكرة عن التحديات التي تواجهها إسرائيل اليوم.
أوجه التشابه بين الاحتجاجات
لقد أثبتت الاحتجاجات المدنية الجماهيرية في إسرائيل في شباط/فبراير الماضي، وهي في أسبوعها التاسع والعشرين على التوالي، قدرتها على الاستمرار بشكل لم يكن يتخيله حتى أكثر مؤيديها حماسة، حين فاجأ أربعون ألف شخص خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج والهتاف ضد الهجوم التشريعي الذي شنته حكومة نتنياهو على النظام القضائي، الضابط الوحيد للسلطة التنفيذية في إسرائيل. ففي يوم الإثنين، أقر الكنيست المرحلة الأولى من هذه الإصلاحات في جلسة تصويت قاطعها جميع أعضاء المعارضة البالغ عددهم 54 عضوًا، مما أدى إلى اندلاع مزيد من المظاهرات في الشوارع. واعتقد المشاركون في الاحتجاجات آنذاك واليوم أنهم ينخرطون في شيء فريد من نوعه، وهذا أمر يمكن تفهمه تمامًا في إسرائيل.
ومع ذلك، يربط عدد قليل جدًا من الإسرائيليين هذا التحرك باحتجاجات جماهيرية سبقتها في المنطقة. ففي عام 2019، حشدت حركة مدنية سلمية، تُعرف بـ"الحراك"، أكثر من مليون شخص في احتجاجات أسبوعية ضد النظام الاستبدادي في الجزائر في مظاهرات أسبوعية دامت لمدة عام. وظهرت أيضًا احتجاجات "حراك" مماثلة في السودان والعراق ولبنان في نفس العام، وفي الأردن في عام 2018. أمّا في المغرب، فنُظمت الاحتجاجات الشعبية في عامَي 2016 و2017. علاوة على ذلك، ولم يكن تصميم الجزائريين على التخلص من نظام الحكم الفاسد بأكمله واستبداله بنظام أكثر عدلًا وديمقراطية، أقل إثارة للإعجاب من عزيمة حركة الاحتجاج في إسرائيل اليوم.
وتجمع أفكار وأدوات رئيسية متشابهة بين الحركتين. على سبيل المثال، يلف المتظاهرون الإسرائيليون أنفسهم بالأعلام الإسرائيلية متسلحين بالقيم التي دعا إليها إعلان الاستقلال، بينما استعاد الجزائريون خلال "الحراك" الروح البطولية التي بثتها ثورة التحرير ضد فرنسا. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا رئيسيًا في جهود التعبئة الشعبية في الحالتين، وطغى غالبًا الطابع الاحتفالي على أجواء الاحتجاجات واستُخدمت فيها اللافتات والشعارات والأغاني المبتكرة. واستمدت الاحتجاجات الجزائرية، على غرار المظاهرات الحالية في إسرائيل، مشاعر القوة والأمل من الأعداد المفاجئة للمتظاهرين، وولدت زخمًا أدهش المحتجين والنظام على حد سواء.
ومع ذلك، يميز اختلاف أساسي "الحركة الديمقراطية" الإسرائيلية عن "الحراك" الجزائري. فقد استمد الأخير قوته من قطاعات المجتمع التي لم يكن لها تأثير كبير ضمن النخب العسكرية والبيروقراطية والاقتصادية الحاكمة في البلاد. ونتيجة لذلك، تمكن النظام الجزائري من التضحية ببعض رموز الكليبتوقراطية الماثلين للعيان وألقى بعدد قليل منهم في السجون، ليقوم في النهاية بقمع المتظاهرين واستعادة الهدوء الغاضب.
أما في إسرائيل، فتقود الاحتجاجات شريحة تمثيلية عريضة للقطاعات الأكثر أهمية وإنتاجية في البلاد، كوحدات النخبة من جنود الاحتياط، والعاملين في مجال التقنية العالية، ومجتمعات المؤسسات التجارية والمستثمرين، بالإضافة إلى الأكاديميين والخبراء في المجال الثقافي والقانوني ومجال الصحة العامة. وتجلت بالفعل قوة هذه المظاهرات في آذار/مارس، عندما أرغمت الحكومة على وقف هجومها التشريعي المخطط له. وفي نهاية المطاف، ستتحول البلاد بشكل أساسي إلى كيان رجعي أضعف بكثير وغير قابل للحياة، إذا لم تتعاون هذه القطاعات مع الحكومة.
وقد استلزم الربط بين أصحاب المصلحة هؤلاء اتخاذ قرارات بشأن القضايا التي ستكون النقطة المحورية للحركة وتلك الفرعية. وكانت حركة الاحتجاج، في مراحلها المبكرة، مصممة على منع معارضي سياسات الاحتلال الإسرائيلية من خطف الأضواء. ولكن منذ ذلك الحين، أصبحت الحركة "خيمة كبيرة" تضم مجموعات متنوعة تملك أجندات محددة، ومن بينها مناهضو الاحتلال. ولكن التركيز يجري بشكل أساسي على عرقلة الإصلاحات القضائية باسم الديمقراطية والقومية الإسرائيلية.
ومع ذلك، أصبح التناقض بين مبادئ الديمقراطية من جهة والاحتلال العسكري والهيمنة على ملايين الفلسطينيين من جهة أخرى، واضحًا بشكل كبير مع استمرار الاحتجاجات، إذ يدافع أشرس مؤيدي الإصلاحات القضائية في الحكومة عن فلسفة دينية قومية مسيانية للتفوق اليهودي والسيادة على أرض إسرائيل التاريخية بأكملها. ولذلك فإن العواقب المحتملة على البلاد ستكون قاسية.
الربط بين التاريخ الإسرائيلي -الفلسطيني والتاريخ الفرنسي الجزائري
قد يكون القول المأثور لمارك توين بأن "التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يردد القافية نفسها" مفيدًا للإجابة على هذا السؤال.
يجب توخي الحذر الشديد في تطبيق "الدروس" المستخلصة من تلك المواجهة في سياق الصراع الفرنسي-الجزائري والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث أن الاختلافات بين الحالتين الجزائرية والفلسطينية الإسرائيلية كبيرة، وقد تم تجاهلها من قبل الفلسطينيين والقوميين العرب الذين رأوا في انتصار "جبهة التحرير الوطني" على فرنسا نموذجًا يُحتذى به ومصدر إلهام. على عكس المشروع الاستعماري الفرنسي، كانت الحركة الصهيونية بالنسبة إلى أتباعها، حركة تقرير مصير للشعب اليهودي فازت في نهاية المطاف بولاء الجزء الأكبر من يهود العالم واكتسبت الشرعية الدولية، وأن المجتمع اليهودي الإسرائيلي قد اندمج في كيان متماسك وديناميكي مستعد وقادر على الدفاع عن نفسه. وعلى نحو مماثل، أساء الفلسطينيون التقدير على نحو كبير في الانتفاضتين الأولى والثانية، واستخفوا بقدرة المستوطنين الإسرائيليين وداعميهم السياسيين على الحفاظ على المشروع الاستيطاني، حتى مع عدم قيام إسرائيل بضم الضفة الغربية باستثناء مناطق داخل الحدود البلدية الموسعة للقدس. وعلى النقيض من ذلك، أُدمجت الجزائر مباشرة في الدولة الفرنسية.
ومع ذلك، فأوجه التشابه واضحة بين التجريبيتين بشكل كبير، فمثل انتصار فرنسا على الوصاية الجزائرية العثمانية عام 1830، لم تملك إسرائيل التي استولت على الضفة الغربية في حرب دفاعية برنامجًا أيضًا. كما أن هناك تشابها كبيرا في الفترة الزمنية بين التجربتين، حيث حكمت فرنسا الجزائر لنحو 132 عامًا، في حين احتلت إسرائيل الضفة الغربية لمدة 56 عامًا ولا يزالالإحتلال مستمرًا. علاوة على ذلك، كان إنشاء المستوطنات على نطاق واسع جزءًا لا يتجزأ من كلتا التجربتين، حيث تدفق المستوطنون الأوروبيون عبر جنوب البحر الأبيض المتوسط للمنطقة بدعم من المصالح المالية الفرنسية، وبحلول عام 1872، أرتفع عددهم إلى أكثر من 240 ألف مستوطن. وعلى مدار السنوات التسعين التالية، ازداد عدد المستوطنين أربعة أضعاف. ونتج عن ذلك إطار قضائي وسياسي واقتصادي متعدد المستويات صُمم للحفاظ على الامتياز الأوروبي، وهو نظام مشابه جدًا للنظام الحالي في الضفة الغربية الذي يرمي إلى تحقيق الهدف نفسه بالنسبة إلى نصف مليون مستوطن إسرائيلي يسكنون المنطقة اليوم. كما يعيش 200 ألف يهودي إسرائيلي آخر في القدس الشرقية التي تم ضمها، إلى جانب ما يقدر بثلاثة ملايين عربي فلسطيني.
بالنظر إلى أوجه التشابه هذه، يمكن أن تكون نهاية التجربة الفرنسية -الجزائرية مفيدة، فبحلول ثلاثينيات القرن الماضي، لم تستطع الغالبية العظمى من سكان فرنسا أن تتصور انفصال الجزائر عن فرنسا إذ كان ذلك أشبه بانفصال مناطق بروفانس أو بريتاني أو سافوا ونيس، وبقي الوضع على حاله حتى أواخر خمسينيات القرن العشرين. ومع ذلك، فقد انبعث جيل جديد من المسلمين الجزائريين من تحت الأنقاض وبعد إعادة هيكلة المشروع "الثقافي" الفرنسي، بدأ بتحدي الوضع الراهن. وفي نهاية المطاف، وبعد عدد من الجهود الفاشلة أطلقت مجموعة صغيرة غير معروفة سميت بـ"جبهة التحرير الوطني" في عام 1954، ما أصبح يُعرف باسم ثورة التحرير الجزائرية.
وفي النهاية وصل الصراع البطيء الذي استمر ثماني سنوات إلى مستويات مخيفة، ورغم أن فرنسا بدت منتصرة في معركة الجزائر، إلا أن الإجماع في فرنسا على الحفاظ على الحكم الفرنسي في الجزائر انهار وسط التقارير المستمرة عن استخدام التعذيب من قبل القوات الفرنسية، والزخم المتزايد لإنهاء الاستعمار في جميع أنحاء العالم، وأدت القضية إلى تقسيم مرير للبلاد وشل النظام السياسي. كما أدى الشلل الذي أعقب ذلك في النهاية إلى وصول شارل ديغول إلى السلطة وإنشاء الجمهورية الفرنسية الخامسة. بعد عدة سنوات، اشرف ديغول على عملية الانفصال بين فرنسا والجزائر، حيث خلص إلى أن الحفاظ على السيادة الفرنسية في الجزائر سيشكل تهديدًا ديموغرافيًا طويل الأمد لفرنسا نفسها.
كانت نهاية الثورة في عامَي 1961 و1962 دموية ومأساوية، إذ انخرطت في إطارها المجموعات العسكرية وشبه العسكرية الفرنسية القومية المتطرفة في حملة أخيرة مستميتة استخدمت فيها سياسة الأرض المحروقة لترهيب المسلمين الجزائريين. وسببت حالة الرعب هذه فرار المدنيين الجزائريين من ذوي الأصول الفرنسية، واليهود الجزائريون الذين حصل معظمهم على الجنسية الفرنسية، من منازلهم مذعورين إلى فرنسا، "للعودة" إلى بلد لم يعيش فيه معظمهم قط، كما نجا ديغول من محاولات اغتيال متعددة، ومن انقلاب فاشل.
بشكل عام، لقي ما يقدر بنحو 250 إلى300 ألف مسلم حتفهم خلال سنوات الحرب الثماني، وكان نصفهم تقريبًا من المدنيين. وفي المقابل، أودت الحرب بحياة حوالى 28 ألف من الجنود والمدنيين فرنسيين. وبعد مرور 61 عامًا على هذه الحرب، وعلى مجمل المواجهات الاستعمارية الفرنسية مع الجزائر المسلمة، لا يزال إرثها يلعب دورًا في تشكيل البلدين ولا يزال شبحها يطاردهما.
على كل حال، "تتردد القافية نفسها" في أكثر من عنصر مرتبط بالحالتين الفرنسية الجزائرية والفلسطينية الإسرائيلية، حيث تجعل الطبيعة العرقية القومية الدينية للصراعين، في عصر القومية وحق تقرير المصير، من القمع التام لمجموعة على يد مجموعة أخرى حلمًا بعيد المنال. كما أن الحركات الاستيطانية الواسعة النطاق تستلزم إنشاء أنظمة سلطة موازية، ولكن هرمية وتمييزية بشكل واضح. وفي السياق ذاته، دفع التأثير الوحشي لاستمرار العنف الطرفين إلى تجريد خصومهما من إنسانيتهم. إضافة إلى ذلك، واجهت كل من فرنسا وإسرائيل الآن صعوبة خاصة لكونهما دول ديمقراطية صريحة تسعى إلى الحفاظ على الالتزام بمعايير الحكم بينما تسعى إلى حكم شعب غير راغب فيها ومعادٍ لها. وأخيرا، يحمل كلا الصراعين مخاطر جسيمة تتمثل في الانقسامات الداخلية والتصدعات المدنية العنيفة بالإضافة إلى التأثير الحتمي للقوى الخارجية والتطورات في مسار الصراع.
مستقبل إسرائيل والجزائر
اتسم المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر منذ البداية بالعنف الشديد والهيمنة، واختفت في النهاية الجزائر الفرنسية بطريقة وحشية ومأساوية، على رغم من دوامها لأكثر من قرن. ولكن إسرائيل، التي يبلغ عمرها 75 عامًا، لن تزول. في الوقت الراهن، يبدو أن المرحلة النهائية من الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي المتوخى من اتفاقات أوسلو أصبحت حبر على ورق.
أمّا الذين يعتقدون أن إسرائيل تستطيع، لا بل ينبغي عليها، أن تشجع وتتمسك بواقع الدولة الواحدة الطبقي والتمييزي للغاية، عليهم أن يفكروا في كارثة الجزائر الفرنسية، وفي الذين دفعوا ثمنًا باهظًا للغاية في معرض ذلك. لقد دفعت إسرائيل بالفعل ثمنًا مريرًا، بما في ذلك اغتيال رئيس وزراء، ومقتل وإصابة الآلاف، وتآكل المعايير القانونية والمدنية التي لا تقل أهميتها عن أهمية الجيش القوي في الحفاظ على أمن إسرائيل على المدى الطويل.
هذه المعايير القانونية والمدنية المتآكلة بالفعل هي اليوم تحت الحصار. تجمع علاقة مباشرة بين جهود "الإصلاح القضائي" وتصميم الحكومة على خلق واقع الدولة الواحدة، على غرار ما ساد في الجزائر الفرنسية لمدة 130 عامًا. وحتى لو نجحت الحركة الديمقراطية في كسر هذا الحصار، وشكّلت حكومة وسطية، ستستمر إسرائيل في مواجهة ما سيكون مصدر هم دائم لها، أي احتلال أرض ملايين الفلسطينيين الذين من غير المرجح أن يرضخوا لأي مكافأة أو تهديد من جانب إسرائيل. سيكون من الصعب جدًا الاختيار بين استعادة الأفق السياسي القائم على التسوية وإنهاء الاشتباك، مع كل ما يصاحب ذلك من معارضة غاضبة وعنيفة ربما في الداخل، وبين الحفاظ على الوضع الراهن غير القابل للاستمرار ومواصلة ضم الأراضي.
في نهاية المطاف، فشلت الجزائر من جانبها في أن تتطور لتصبح كيان مستق ومتماسك، حيث دمرتها جولة أخرى من العنف المروع خلال فترة التسعينيات اندلعت بين الجماعات الإسلامية الراديكالية والنظام العسكري الوحشي. وبعد مرور ستين عامًا، فمن المؤكد أن استمرار غياب الأفق الديمقراطي في ظل نظام فاسد وقمعي، سيؤدي في النهاية إلى حلقات إضافية من الاحتجاجات الشعبية، التي قد تؤدى عودتها إلى تقويض شرعية النظام المترهلة وستؤدى بدورها إلى عواقب وخيمة.
في هذه الحالة، تشمل الدروس التي قد يستخلصها المعارضون الجزائريون من الاحتجاجات الديمقراطية الإسرائيلية أهمية إنشاء "خيمة كبيرة" تشمل شريحة عريضة من مختلف قطاعات المجتمع، على المستويين النخبوي والشعبي، بما في ذلك الأقلية الأمازيغية القبائلية المهمشة تاريخيًا والمتجهة نحو التشدد بشكل متزايد. في المقابل، فإن تصميم النظام الاستبدادي في الجزائر على البقاء، مهما كان الثمن، هو بمثابة تذكير للحركة الديمقراطية الإسرائيلية، ودعاة الديمقراطية في كل مكان، بأن التحديات الناجحة في وجه المستبدين، والمستبدين المحتملين، هي عملية طويلة الأمد تتطلب التصميم والشجاعة والقدرة على الصمود، مع العلم أن النجاح لن يكون مضمونًا. ولا شك في أن الفلسطينيين يراقبون عن كثب تطورات الاحتجاجات الإسرائيلية المطالبة بالديمقراطية، ويتعلمون من دروسه.