- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استطلاع لفلسطينيي القدس يظهر كيف أن الأحداث تغير المواقف بشكل كبير، السلبيات والإيجابيات
غالبًا ما يتحدث الخبراء في شؤون الشرق الأوسط عن النزاعات العرقية والدينية "القديمة"، أو عن التحيز أو المواقف "الراسخة"، غير أن النظر في الأدلة عن كثب يكشف أن الرأي العام العربي قد يتغير أحيانًا بشكلٍ كبير، سواء للأفضل أو للأسوأ، وذلك في غضون سنة أو سنتين فحسب. وثمة اعتقاد شائع آخر تقوضه الأدلة المعروضة في ما يلي، هو أن الشباب العربي أكثر نضالًا من الجبل الذي سبقه، إلا أن المعطيات التي تدحض الافتراضات الخاطئة تأتي من الوضع الحالي للفلسطينيين في القدس الذين أصبحوا الآن في قلب خلافات شديدة حول مصير المدينة وأماكنها المقدسة.
وفي أواخر شهر أيار/مايو، وفي خلال الأيام العشرة التي سبقت شهر رمضان، أشرفتُ شخصيًا على استطلاع فريد ومنهجي للرأي العام الفلسطيني في القدس الشرقية. أمّا العمل الميداني فقد نفّذه فلسطينيون مؤهلون يعملون لدى "المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي" في بلدة بيت ساحور القريبة من الضفة الغربية. وشمل الاستطلاع مقابلات شخصية أجراها متخصصون مع عينة تمثيلية جغرافية من ٥١٢ فلسطينيًا من القدس، مع هامش خطأ إحصائي يقدّر بنسبة حوالي ٤ في المئة.
وظاهريًا، بدت الأحياء الفلسطينية التي شملها الاستطلاع، والتي تضم نحو ٣٥ ألف شخص يحملون إقامة رسمية (ويتمتعون بحق السفر والتعلم ومنافع الرعاية الاجتماعية) ولكن لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، مسالمةً تمامًا. ولكن إذا غصنا أكثر في الأعماق، يتبين لنا أن هذه الصورة متباينة. إذ تُظهر نتائج الاستطلاع كيف أنّ الأحداث الأخيرة بدّلت الرأي العام في هذه الساحة الحاسمة، وتثبت أيضًا بوجه عام، كم أنّ الحكمة التقليدية بأنّ العقول الشرق أوسطية "غير قابلة للتغيير" مضلّلة.
وفي ما يخص بعض المسائل المتعلقة بالمواقف تجاه إسرائيل، فإن الفلسطينيين في القدس أكثر اعتدالًا نوعًا ما من سكان غزة أو الضفة الغربية. بيد أنه في قضايا رئيسية أخرى، يميل التوجه السائد في العامين الماضيين إلى المزيد من الانعزال عن إسرائيل، بحيث تغيّرت بعض وجهات النظر تغيرًا جذريًا. والجدير بالذكر أنه في السنوات الماضية، تحولت وجهات النظر أيضًا في اتجاه أكثر اعتدالًا. ففي الواقع، هكذا تحوّلت مواقف فلسطينيي المدينة من عام ٢٠١٢ إلى عام ٢٠١٥ حول المسألة الرئيسية المتمثلة بتفضيل الجنسية الفلسطينية أو الإسرائيلية. وبعبارة أخرى، تأتي المواقف نتيجة الأحداث، على الأقل بقدر ما هو الحال في الاتجاه المعاكس.
أمّا الصورة النمطية الأخرى الخاطئة التي كشفها هذا الاستطلاع فهي أن الجيل الأصغر سنًا أكثر "تطرفًا" من الجيل الذي سبقه. ففي هذه الفئة من السكان، على الأقل، تدحض الأدلة هذا الافتراض. بحيث يظهر التحليل الديمغرافي للمعطيات بوضوح أن الفلسطينيين الأصغر سنًا في القدس ليسوا أكثر صلابةً من أولئك الذين تجاوزوا الخامسة والثلاثين من العمر.
ولكن لدى مقارنة إجابات سكان القدس مع إجابات الضفة الغربية وقطاع غزة، نكتشف اختلافات هامة. فعلى سبيل المثال، في القدس، تعتقد غالبية الفلسطينيين - أي ٥٦٪ - أن "من شأن حل الدولتين أن ينهي الصراع مع إسرائيل"، في حين يرى الثلث فقط أنه "يجب أن تستمر المقاومة حتى تتحرر كامل أراضي فلسطين التاريخية"، و١٢٪ لم يبدوا أي رأي في هذا الشأن. وفي المقابل، إن مواطني الضفة الغربية وقطاع غزة أكثر تشددًا حيال هذه المسألة بنسبة 15 إلى 20 نقطة. وبالمثل، فإن الفلسطينيين في القدس أكثر ميلًا من الضفة الغربية أو سكان غزة إلى القول إنه "لليهود بعض الحق في هذه الأرض إلى جانب الفلسطينيين". وبالأرقام: القدس الشرقية (داخل الجدار -١٥ في المئة، والضفة الغربية - ٦ في المئة (مع ارتفاع غير مسبوق وصل إلى ٢١ في المئة "لا أعرف") وغزة - ٨ في المئة.
بيد أنه في مسائل أخرى، إن الفلسطينيين في القدس الشرقية كمجموعة أكثر قوميةً اليوم وأكثر تدينًا من أي وقت مضى. ولعل خير دليل على ذلك هو الانخفاض الحاد في نسبة الذين يقولون إنهم يفضلون الجنسية الإسرائيلية على الفلسطينية منذ الاستطلاع السابق في أيلول/سبتمبر ٢٠١٥، وذلك قبل وقت قصير من اندلاع "انتفاضة السكين" في المدينة (أي من نسبة ملحوظة ٥٢ في المئة حينها إلى ٢١ في المئة فقط اليوم). وهذا الانخفاض هو الأكثر حدةً في صفوف أولئك الذين يعيشون خارج الحاجز الأمني الإسرائيلي الذي يمر عبر الحدود الخارجية الشمالية الشرقية للبلدية.
وفي هذا الإطار، مهّدت بعض الخصائص الديموغرافية الأساسية الطريق لإجراء تحليل أكثر إمعانًا. فيعيش ثلثا الفلسطينيين في القدس الشرقية داخل الحاجز الأمني، مع سهولة الحصول نسبيًا على الوظائف والدخول إلى المدارس والمستشفيات والسفر داخل إسرائيل. أما الثلث المتبقي، أي أكثر من ١٠٠ ألف شخص، فيعيشون خارج هذا الحاجز في مناطق مثل كفر عقب ومخيم شعفاط للاجئين وعطروت في الرام. ويحصل هؤلاء الفلسطينيين على خدمات بلدية أقل بكثير، كما عليهم المرور عبر نقاط التفتيش للوصول إلى المركز الحضري الرئيسي.
ونتيجة لذلك، فإن متوسط دخل الأسر خارج الحاجز أقل بكثير من دخل الأسر داخله. ومن بين هذه الشريحة، صرّح ٦ في المئة فقط أنهم يفضلون أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين عوضًا عن مواطنين فلسطينيين. وقد وصلت نسبة الأشخاص الذين لن أو لا يستطيعون التعبير عن تفضيلهم إلى ٢٢ في المئة، وتعتبر نسبة مرتفعة بشكل غير اعتيادي ربّما لأن الأشخاص الذين يعيشون في مناطق معزولة و"غير الخاضعة للسلطة" نسبيًا لا يثقون بالغرباء ويفضلون التكتم.
وبالنظر إلى الربع مليون فلسطيني الذين يعيشون داخل حاجز القدس، فإن الصورة الاقتصادية تشهد تحسنًا كبيرًا، إذ يفيد ثلثي المواطنين بأن دخل الأسرة يزيد عن ٤٨٠٠ شيكل، أي ١٣٠٠ دولار أمريكي شهريًا. في المقابل، ٥ في المئة من الضفة الغربية، و١ في المئة فقط من سكان غزة، هم ضمن هذه الفئة من الدخل.
ومع ذلك، فإن فلسطينيي القدس غير راضين عن أحوالهم، إذ أفاد ٣٠ في المئة منهم فقط أن حياتهم أفضل مما هي عليه في الضفة الغربية، و٥ في المئة فقط أفادوا بأن حياتهم "مساوية تقريبًا لحياة الإسرائيليين".
وفي الإطار نفسه، طُلب منهم أن يختاروا أولوياتهم الشخصية من بين قائمة من أربعة خيارات، وتبين أن الفلسطينيين في القدس هم اليوم أكثر قابليةً لاختيار الدين من نظرائهم في الضفة الغربية وغزة. ولا تزال الخيارات الآتية تتمتع بالأفضلية داخل الحاجز الأمني في العاصمة: "كسب الدخل الكافي للعيش برخاء" (٣٨ في المئة) أو "عيش حياة أسرية جيدة "(٣٤ في المئة)، لكن ١٩ في المئة اختاروا "عيش حياة الإسلام أو المسيحية الصالحة". أما إذا قارنّا الأرقام، فتنخفض النسبة بشكل ملحوظ إلى النصف، أي ٩ في المئة في الضفة الغربية، و٧ في المئة في غزة. وممّا لا شك فيه، يدعم التحليل الشخصي والتقارير التي يعدّها الخبراء الفلسطينيين والإسرائيليين الدليل على التوجه الفلسطيني الجديد في القدس نحو التدين.
بالإضافة إلى ذلك، تبرز الأولويات الدينية والقومية خارج الحاجز بشكل أوضح، إذ اختار ٢٣ في المئة من هؤلاء السكان "عيش حياة الإسلام أو المسيحية الصالحة " كأولويتهم الشخصية العليا، وأفادت الأغلبية المطلقة، أي ٦٤ في المئة، بأن استقلال الفلسطينيين وعودة اللاجئين هما أعلى أولوياتها الشخصية. ويعني ذلك أن ارتفاع مستوى التطرف السياسي والديني هو نتيجة عزل هذه الفئة السكانية الكبيرة جغرافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
ولكن ما الذي يفسر صحوة هذا العدد الكبير من الفلسطينيين داخل الحاجز الأمني في القدس، الذين ما زالوا يواصلون الاندماج في الحياة الإسرائيلية اليومية؟ يعكس استطلاع الرأي الأخير مسار السنوات السابقة التي شهدت نسبةً متزايدة في اختيار الجنسية الإسرائيلية على الجنسية الفلسطينية، أي ٣٥ في المئة عام ٢٠١٠، و٤٢ في المئة عام ٢٠١١، و٥٢ في المئة عام ٢٠١٥، مقابل ٢١ في المئة فقط اليوم. وصحيح أن فلسطينيي القدس يتقدمون بطلب للحصول على الجنسية الإسرائيلية أكثر من قبل، أي حوالي أكثر من ألف شخص سنويًا مؤخرًا، ولكن يبقى ذلك جزءًا ضئيلًا من مجموع السكان المعنيين.
وتكمن الإجابات على الأرجح في مزيج معقد من العوامل من بينها الاستقطاب المتبادل والخوف الناشئ بين اليهود والعرب في المدينة منذ الاستطلاع السابق، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى "انتفاضة السكين" وردود الفعل الإسرائيلية عليها، وعوامل أخرى كالقلق الشعبي حيال الإسلام والمسجد الأقصى بشكلٍ خاص، ويعود ذلك جزئيًا إلى الفشل المتصور للبدائل العلمانية والحوادث المتكررة وأعمال التحريض ضد الأماكن المقدسة، فضلًا عن خيبة الأمل من الوعود الفاشلة في المساواة في المعاملة وتحسين الخدمات والظروف المعيشية، وربما أيضًا المساعي والجهود المضاعفة من جانب "السلطة الفلسطينية" وحركة "حماس" والحركات الإسلامية العربية الإسرائيلية والقومية لمناشدة فلسطينيي القدس الشرقية على مدى العامين الماضيين.
ومن الطبيعي أن تتجاوز هذه التفسيرات المعطيات التي لدينا. فالملابسات المترتبة عن سياسات هذه النتائج قد تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. ومع ذلك، يبرز استنتاج واضح واحد، وهو أن أي مناقشات مستقبلية حول القدس من شأنها أن تأخذ في عين الاعتبار المواقف المتغيرة لسكان المدينة الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍ سواء.