- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أزمة الخليج رسالة كابوسية - بلا نجاح في الأفق
انقضى عامان على ما كان يفترض أن يكون حرباً سياسية خاطفة، وإذ به يستحيل حرب خنادق ومتاريس واستنزاف سياسي طويل الأمد. فقد تمكنت قطر على ما يبدو، من خلال خطوات مضادة، وبثمن مالي باهظ، من الصمود إزاء المقاطعة المادية والسياسية والتي فرضتها عليها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (وكذلك البحرين ومصر). فعلى الرغم من الأعباء المالية الضخمة، يمكن لقطر أن تزعم أنها قادرة على مواجهة الحصار، الأمر الواقع الجديد، إلى حين نهايته. ومن خلال التزامها بردود فعل قائمة على التروي والتحفظ ظاهرياً، تبدو قطر وكأنها قد استدرجت الجانب السعودي الإماراتي إلى مبالغات عدة في الخطوات والأقوال، في التعبير عن طبيعة الفعل.
وبعد مرور عامين على اندلاع المواجهة، تبدو قطر محاطة بهالة من الصمود والثقة، فيما الجانب الآخر منغمس بسجاليات غير مقنعة لتبرير خطواته العدائية. واقع الحال هو أن هذا التوازن الخطابي لا ينسجم مع المعطيات الفعلية، بل على الرغم من رداءة عرض الحجة، فإنه لدى الجانب المواجه لقطر ما يدعم الأساس الموضوعي لاعتراضاته. ولكن ما يجري يفصح على أي حال أن المقاربة الحالية قد أثبتت عدم جدواها. بل يمكن الحكم على التصعيد إزاء قطر خلال العامين الماضيين على أنه توجه يراد منه التطرق إلى مسائل مشروعة ولكنه جاء بالنتائج العكسية.
والمفارقة هنا هي أن قطر، من خلال شكل صمودها إزاء الفعل السعودي الإماراتي، قد أثبتت التهمة الموجهة إليها بأنها تجنح إلى التوجهات السياسية المعارضة لمصالح شركائها في الخليج وفي الغرب. غير أنه لا عزاء حين يكون في إثبات وجهة النظر السعودية الإماراتية أن يأتي الثمن مزيداً من الدعم للجهات المؤذية والمضرّة في المنطقة، دولاً أو منظمات. أما الولايات المتحدة فهي لم ترتقِ إلى مستوى دور القيادة المتوقع منها في الخليج، بل من خلال الفعل والترك مكنّت هذا الخلاف العرضي أن ينحدر إلى حرب عالمية بين الأشقاء تسيء إلى مصالح واشنطن نفسها بالإضافة إلى استنزاف السلم والأمن في منطقة الخليج وما يتعداها. وقد آن الأوان للولايات المتحدة أن تمارس دورها القيادي، وآن الأوان لإنهاء حرب الخليج الأهلية العالمية.
لقد تمكنت قطر من الهيمنة على السردية المتعلقة بأزمة الخليج، من خلال ما أبداه سياسيوها من الوقار والهدوء ومن الدعوات للحوار والصلح، مع تجنب التصريحات السجالية النارية، بل وقبل كل هذا من خلال بنية إعلامية متطورة وسخية التمويل، ذات قدرات ظاهرة وباطنة على التأثير. فـ «المعتدون»، وفق هذه السردية هم جمهرة الأقوياء من السعودية والإمارات، فيما «المعتدى عليها» هي قطر الصغيرة، والتي قرّرت الثبات إحقاقاً للسيادة الوطنية والأسس الدولية وحرية الصحافة. وجاء الإمعان في الخطاب الصادر من الرياض عند مطلع الأزمة في تصوير عظمة قدرات المملكة وحلفائها إزاء قطر الصغيرة جداً جداً والتأكيد على حتمية الحسم السريع في هذه المواجهة، ليطمس حقيقة أكثر تعقيداً لغير صالح قطر وليتيح المجال أمام الجهاز الإعلامي القطري للتشكي من السلطوية والرجعية والتنمر في أوساط الخصوم.
فالخطأ الجوهري الذي ارتكبه التحالف السعودي الإماراتي كان في إساءة تأطير الدافع لعمله الهجومي، وفي المبالغة في أشكال تنفيذه. فوفق قائمة المطالب الصادرة عن هذا التحالف، وذلك بعد أيام عدة من الخطوات العدائية والمقاطعة الصارمة، كانت قطر مدانة في الخلاصة لأنها «تدعم الإرهاب» ولأن الإعلام التابع لها يفتح المجال أمام المنشقين السياسيين الناقدين للسعودية والإمارات ومصر وغيرها. وأتت الخطوات التي أقدمت عليها الرياض وأبو ظبي مفاجئة وصارمة. وكان شكل الحصار، أو «المقاطعة»، قاضياً وكاملاً، وصولاً وفق ما نقل إلى إرغام الأسر المشتركة الجنسية إلى الانفصال، وإلى طرد الطلاب واستدعاء آخرين دون اعتبار لواجباتهم الدراسية، وإلى تعليق التجارة والاتصالات برمتها إلى أن ترضخ قطر للمطالب.
أما اتهام قطر بدعم الإرهاب، فهو ذو صدقية في حال جرى تخفيض سقف التعريف ليشمل التواصل مع المنظمات الإرهابية لأغراض إطلاق سراح رهائن أو غيرها من الاعتبارات الإنسانية على أساس موضعي، أو السعي إلى استقطاب المجموعات الأقل تورطاً بالإرهاب من خلال ترتيبات تجنبها الالتحاق بالشبكات الإرهابية الدولية. ولكن في حال اعتماد هذه المعايير، فإن السعودية وربما الإمارات كل بدورها عرضة للاتهام بما يقابله لأدوار لها في سوريا وليبيا واليمن.
الواقع أن الاتهامات التي شحنت المقاطعة كانت تستهدف احتضان قطر لجماعة الإخوان المسلمين والمنظمات المشتقة منها، وهي التي لا ترى الرياض وأبو ظبي والقاهرة أنها جديرة بالتمييز عن الفصائل الإرهابية الصرفة. وهذه المساواة بين الإخوان والإرهاب موضوع خلافي في العديد من العواصم الغربية، بما فيها واشنطن، بما قد يفسر الامتناع عن التركيز الصريح على العلاقة القطرية الإخوانية. بل لا بد من الإشارة إلى أن الخطاب المعادي لقطر، بما اتسم به من التسطيح، بدا وكأن إعداده قد جرى لكسب العواصم الغربية، ولم يتضمن إلا القليل مما قد يضفي عليه الصدقية والمشروعية لدى الجمهور المتابع في المنطقة.
فبدلاً من أن يحصل هذا الجمهور على عرض بالحجة والبيان للموقف الذي يفسر الخطوات المعارضة لقطر، انهمر عليه الإنتاج الفني من الأشعار والأغاني والبرامج المتخمة بالتفاخر، والتي تستدعي العصبيات والنعرات القبلية والمحلية، بما تنضوي عليه من الفعالية الضئيلة والعواقب الوخيمة.
وما أخفته هذه الخطوات غير الموفقة هو حالة أكثر دقة وأهمية، هي أقرب إلى استيعاب إخواني لأوجه عديدة من قطر منها إلى احتضان قطري للإخوان، ولا سيما فيما يطال شبكات المؤسسات ذات التأثير العالمي، بالإضافة إلى خطوات عدائية فعلية أقدمت عليها قطر قبل أن تتعرض للتضييق والحصار.
يذكر في هذا الصدد وثائقي «الأيادي السوداء» والذي جرى ترويجه على الشبكة العالمية في ربيع العام ٢٠١٧، والحامل في جودة إنتاجه وأسلوب إخراجه للعديد من معالم الآلة الإعلامية القطرية، والذي يلقي اللوم على قيادة الإمارات العربية المتحدة لأفعال متعاقبة مزعومة أدّت إلى إفساد «الربيع العربي»، وذلك في إطار «ثورة مضادة» تخدم قوى الهيمنة العالمية وإسرائيل.
وفي حين أن التركيز على هذا الوثائقي قد ضاع في خضم تعاقب الحوادث التي صاحبت الخطوة السعودية الإماراتية إزاء قطر، فإن مضمونه يشكل إرهاصاً واضحاً لما اعتمدته الدوحة في ردّها من خلال أجهزة الإعلام المحلية والعالمية التابعة لها، بدءاً بالتلميحات وصولاً إلى التعبير الصارخ. فحين يدرج هذا الوثائقي في إطار إتاحة المجال القطرية أمام الجهات المعارضة للرياض وأبو ظبي، تتحول المسألة من امتعاض عائد إلى الطبيعة السلطوية في هاتين العاصمتين إزاء حرية التعبير، إلى اعتراض مفهوم تجاه عملية متطورة من القدح الإعلامي والذي يعتمد الانتقائية والتأطير المسيء المتعمد. بل أظهرت الآلة الإعلامية القطرية قدراتها في هذا الصدد عند استغلالها للخطأ السعودي الكبير الحاصل في الجريمة القبيحة التي أودت بحياة الصحافي والشخصية المعروفة جمال خاشقجي، والتي تمكنت بالفعل من عرقلة مجهود بناء الصورة العالمي والذي أراد إظهار ولي العهد السعودي على أنه إصلاحي وصاحب رؤية.
والأهم هو أن فشل الحصار في إخراج النتيجة المتوقعة منه ضمن الإطار الزمني القصير أتاح لقطر تعزيز علاقاتها بكل من تركيا وإيران، على حساب وحدة الصف الخليجي إزاء طموحات طهران بالتدخل وميول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تجاوز الاصطفاف مع الغرب. وفيما يعمد الإعلام المدعوم سعودياً وإماراتياً إلى إظهار هذا الواقع على أنه كشف للطبيعة الخيانية لقطر، فإن قطر بدورها، ومن خلال آلتها الإعلامية، تصوّر سلوكها على أنه الاعتدال في وجه السياسات «المتطرفة» لقادة خليجيين يحاكون التوجهات «المتطرفة» بدورها في واشنطن وتل أبيب. وحرب الصور والصور المضادة هذه قد أنهكت الإعلام الخليجي عامة في مضمونه، وأغرقت تغطيته الإخبارية بتقارير تشهيرية متبادلة. وفي حين أن هذا الصراع الإعلامي قد أتاح المجال لجمهرة من المبادرات الجدية للبروز (الحرة من الولايات المتحدة، فرانس ٢٤ من فرنسا، ودويتشه فيله العربية من ألمانيا)، فإن هذا الفراغ يشهد اندفاعاً جامحاً لكل من روسيا وإيران لملئه، بما ينسجم مع التوجه القطري النقدي.
وفي ما يتعدى الإعلام، تبدو الصناديق ورؤوس الأموال القطرية والسعودية الإماراتية غارقة في حالة استنزاف واسعة في العديد من المواقع والبلدان، بعضها ذي تداعيات قاتلة (مثل ليبيا واليمن وربما السودان)، وبعضها الآخر يقتصر على الهدر المالي والهدر المالي المضاد (في عدد من الدول لأفريقية)، فيما البعض الأخير يستقطب وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث لخدمة هذه الجهة أو تلك.
من وجهة نظر أميركية مباشرة، تحول الخلاف الخليجي إلى طلبات ضخمة متواجهة لشراء الأسلحة، وإلى تعهدات من كلا الجانبين باستثمارات مالية ضخمة في الولايات المتحدة، وذلك مع تنافس كل منهما لكسب ود البيت الأبيض وتأييده، أو لمنع هذا التأييد من أن يكون من نصيب الخصم. تستطيع واشنطن أن تعتبر أن هذا التزاحم على استرضائها فائدة عرضية لها وحسب. أما جلّ الصحافة العربية فيرى أن الأمر يكشف عن الطبيعة الاستغلالية وعن المسؤولية المباشرة للولايات المتحدة في إشعال أزمة الخليج. وما هذه إلا مادة جديدة تضاف إلى الكم الكبير من العداء المتصاعد للولايات المتحدة، والمبني على التشهير بالمواقف المتتالية للإدارة الأميركية الحالية، والمطروح للتداول والاستغلال العميق من جانب العمليات الإعلامية الإيرانية والروسية.
لم يحقق الحصار السعودي الإماراتي لقطر مراده. وليس بوسع أي من الجانبين اليوم زعم الانتصار. غير أن استمراره يوطد العلاقات المستجدة والأنماط المستحدثة بما يتعارض مع المصالح الخليجية والأميركية على حد سواء. وحده البيت الأبيض، بخطوة حازمة، قادر على رسم مسار واقعي للخروج من هذه الأزمة، ليتضمن تطرق جدي إلى الشكاوى المشروعة من جانب التحالف المواجه لقطر، دون وضع ذلك في إطار استسلام كامل للدوحة، ولينضوي كذلك على مشروع واضح لإعادة سيطرة الحكم الوطني في قطر على شبكتها الدولية، والتخلص من النزعات العقائدية التي هيمنت على أقسام منها، بما يحقق مصالح الجميع ويجنب المنطقة المزيد من الانحدار وتهديدات الاقتتال الأخوي.