- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أزمة العلاقات بين المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل: هل رأب الصدع ممكن؟
في غياب استبطان حقيقي وجاد، فمن المرجح أن يكون التوصل لحل للتوترات الحالية بين العرب واليهود في إسرائيل سطحيا.
شهدت العلاقات بين المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل أحد أدنى مستوياتها مع اندلاع أعمال الشغب في صفوف العرب خلال عملية "حارس الأسوار'' (من 10 إلى 21 أيار/مايو 2021) بين إسرائيل و"حماس". وبخلاف الأزمات السابقة، على غرار "يوم الأرض" عام 1976 أو "هبّة أكتوبر" عام 2000، اندلعت اشتباكات بين المواطنين العرب والأجهزة الأمنية، كانت معظم المواجهات الحالية هذه المرة بين المواطنين من طرفَي المجتمع الإسرائيلي.
شهدت هذه المواجهات موجة عنف شديدة، بما فيها أعمال عنف ضد الرموز الحاكمة وأعمال تخريب عشوائية، في جميع الأحياء العربية. لكن العنف تجلى بشكل خاص في المدن المختلطة، ولا سيما اللد وعكا وحيفا ويافا والرملة، التي شهدت أحداثًا كثيرة تمثلت بمعظمها في أعمال عنف عربية ضد اليهود، علمًا بأنها شوهدت أيضًا في قرى البدو في منطقة النقب، وفي منطقة المثلث (الذي يضم 11 بلدة بالقرب من الخط الأخضر وسط إسرائيل)، وفي بلدات وقرى الجليل، حيث تم إغلاق طرق المرور المركزية وإلحاق أضرار بالبنية التحتية المدنية. ولم تكن هذه الأحداث ناتجة عن قيام جهة معينة بتحريك الخيوط من خلف الستار أو عن أي إطار تنظيمي أو قيادة منظمة، بل كانت عفوية وناتجة عن واقع المجتمع الإسرائيلي.
وفى حين أدت التوترات الذي اندلعت في الحرم القدسي (المسجد الأقصى) وقطاع غزة الى اندلاع العنف، إلا أن تلك الأحداث كانت مدفوعة في الأساس بسنوات عديدة من المشاكل التأسيسية في المجتمع العربي وعلاقاته مع السلطات في إسرائيل والمجتمع اليهودي.
تعكس تلك الأحداث حالة الإحباط والغضب اللذان تناميا في المجتمع العربي خلال السنوات القليلة الماضية مع التزايد الحاد في الجرائم وأعمال العنف، وهو ما يوصف بالآفة المتفشية الناجمة عن إهمال حكومي متعمد. كما يشعر الجمهور العربي بالاضطهاد الشديد بسبب التمييز بحقه والمبادرات التشريعية التي يراها متحيزة، وأبرز مثال على ذلك هو "القانون الأساسي: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي" الذي أقره الكنيست في تموز/يوليو 2018.
أضف الى ذلك، حالة البؤس الشديد التي يعيشها جيل الشباب في المجتمع العربي، حيث يعاني من غربة مزدوجة، واحدة تجاه الدولة وأخرى حيال مواقع قيادتهم (أي الآباء ورجال الدين ورؤساء العائلات الممتدة والأحزاب السياسية). إذ يشعر المواطنون العرب الشباب في إسرائيل بالضياع والإحباط الشديد. والدليل المعبّر على ذلك هو أن 30 في المئة من المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا لا يعملون أو يرتادون المدرسة.
استغل المتطرفين - وعلى رأسهم "الجناح الشمالي" للحركات الإسلامية - الأحداث للتحريض الواسع في المجتمع العربي ما يؤثر بشكل وخيم على موقف الشباب من الدولة والمجتمع اليهودي. تجلى الضعف المستمر منذ مدة طويلة في قدرة الدولة على حكم كافة بؤر المجتمع العربي، لا سيما قوة العصابة البدوية في أنحاء النقب والتي تركز على تهريب الأسلحة وإلحاق الضرر بالبنية التحتية المدنية والسرقات من قواعد الجيش الإسرائيلي والبلدات اليهودية.
بدأت الأزمة على شكل أعمال عنف عفوية، ولكن مع استمرار هذه الأخيرة، ظهرت محاولة لإلصاق منحى سياسي و/أو أيديولوجي بالأحداث. وتجلى ذلك في مسعى القيادات السياسية – وخصوصًا أعضاء "القائمة المشتركة" و"لجنة المتابعة العليا للجماهير العرب في إسرائيل" – لتعريف أعمال الشغب والإضراب العام الذي نفذه العرب في 18 أيار/مايو (بالتزامن مع الضفة الغربية) بأنها ترسي سابقة لاندماج عرب إسرائيل في نظام قومي فلسطيني تتم إدارته بشكل متزامن في كل مواقعه.
غير أن هذه الأحداث المعيبة تسببت بشرخ عميق في العلاقات بين المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل، وأثارت شعورًا عميقًا بقلة الثقة لدى كلا الجانبين في ما يتعلق بإمكانية التعايش باستقرار على المدى الطويل. كما ينعكس هذا الجفاء بين المجتمعين على المستوى وعلى المستوى الاجتماعي، حيث يتضاءل التواصل بين اليهود والعرب بشكل ملحوظ. دفع هذا التحدي المجتمع العربي للترويج لمبادرة أطلق عليها اسم "أسبوع الاقتصاد الوطني" والتي كانت تهدف إلى تشجيع شراء المنتج العربي لمواجهة الضرر الناجم عن الانخفاض الكبير في مشتريات المنتجات اليهودية.
في المقابل، حدث تطور غير مسبوق على المستوى السياسي عندما قام حزب "رعام" (القائمة العربية الموحدة) وهو الحزب الذي يمثل الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية في الكنسيت الإسرائيلي، بتوقيع اتفاق تاريخي مع الأحزاب اليهودية في الثاني من حزيران /يونيو لتشكيل حكومة جديدة. وبذلك، أصبح حزب "رعام" أول حزب عربي في إسرائيل ينضم إلى الائتلاف الحاكم. ومع ذلك، لا توجد ضمانات لبقاء هذه الحكومة لفترة طويلة من الزمن، كما صارت الآثار المحتملة لهذه التطورات الدراماتيكية على المستوى العام في المجتمعين الإسرائيلي والعربي غير واضحة ومشكوك فيها.
في المقابل، يشعر المجتمع اليهودي بالاستياء من ثلاث ظواهر انبثقت عن هذه الأزمة، وهي: التماهي الواسع للجمهور العربي مع مَن يعتبرهم إخوانه الفلسطينيين إنما يعتبرهم اليهود العدو الذي يخوضون معه صراعًا عسكريًا، والعنف الشديد الذي اندلع في المجتمع العربي ويثير المخاوف بألّا يكون مجرد تعبير عن الاستياء من التحيز والتمييز أو نتيجةً لأحداث القدس وغزة، بل انعكاسًا لعداوة متجذرة، وحقيقة أن الأصوات داخل المجتمع العربي التي أدانت العنف كانت "قليلة جدًا ومتأخرة جدًا".
وأبرز هذه الأصوات جاءت من عضو الكنيست (والوزير في الحكومة الجديدة) عيساوي فريج عن حزب "ميرتس" الذي حثّ بشجاعة القادة العرب الآخرين على إصدار إدانات قاطعة للعنف، وعضو الكنيست منصور عباس رائس حزب "رعام" الذي التقى برئيس بلدية اللد وتعهّد بإعادة بناء المعابد اليهودية التي تضررت خلال الشغب، فأصبح بسبب ذلك محط انتقاد حاد من المجتمع العربي.
كذلك تتجلى قلة الثقة العميقة لدى المجتمع العربي الإسرائيلي نفسه، وقد تفاقم هذا الشعور نتيجة الإثباتات على اتباع الشرطة الإسرائيلية ممارساتٍ تمييزية لفضّ أعمال العنف في كلا الجانبين (من الناحية العملية، كان عدد المشاركين في أحداث العنف أعلى في الوسط العربي)، والاعتقالات الجماعية على أساس الآراء السياسية (اعتقلت الشرطة حتى الآن أكثر من 2000 مواطن عربي إسرائيلي منذ اندلاع الأزمة). وفقًا لعدة تقديرات، شارك الآلاف - بحد أقصى 10,000- من المواطنين العرب في أعمال الشغب في جميع أنحاء إسرائيل). وبالمثل، هناك غضب من حقيقة أن الأمر تطلّب تهديد الجمهور اليهودي لإرغام الدولة على اتخاذ إجراءات حازمة ضد الجريمة والعنف في الوسط العربي بمساعدة غير مسبوقة من "الشاباك" (جهاز الأمن الإسرائيلي).
ويعتبر الشرخ في العلاقات بين المجتمعين حادًا بشكل خاص لأنه ينطوي على أزمة توقعات لم تتم تلبيتها. فقبل جولة العنف الأخيرة بين إسرائيل و"حماس"، ساد الشعور بأن العلاقات بين المواطنين اليهود والعرب تتغير وأن قطب "التطبّع الإسرائيلي" بين عرب إسرائيل يكتسب الزخم على حساب "الفلسطنة": فمن الناحية السياسية، كان النفوذ العربي يتعاظم وفق ما يتبين من استعداد حزب "رعام" غير المسبوق للانضمام إلى الحكومة الحاكمة؛ ومن الناحية الشعبية، انتشر شعورٌ بالمصير المشترك والتعاون ضد جائحة كوفيد-19؛ ومن النواحي الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والرياضية، كان اندماج المواطنين العرب في إسرائيل يزداد زخمًا. لذلك كان التحول من تلك الذروة المتفائلة إلى المستوى المتدني الذي وصلت إليه العلاقات في عملية "حارس الأسوار" حادًا وسريعًا، فأوجد لدى كلا المجتمعين مشاعر جماعية صعبة من الشك والخوف المتبادلين واليأس من تحقيق رؤية الوجود المشترك المتناغم.
يفترض الكثيرون في إسرائيل أن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل العاشر من أيار/مايو عندما اندلعت أحداث الشغب. فالوضع في المجتمع العربي بمعظمه، وخصوصًا في المدن المختلطة، هادئ، ولكنه ليس سلميًا. إذ لا يزال الغضب يستعر بقدر هائل تحت السطح، ومن المحتمل أن ينفجر مجددًا في حال حدوث احتكاك جديد بين المواطنين اليهود والعرب أو تطورات جديدة في القدس أو غزة.
وتعتبر "حماس" أن التوتر داخل المجتمع العربي في إسرائيل هي إحدى أبرز انتصاراتها الاستراتيجية في جولة العنف الأخيرة، حتى وإن لم تصفها "حماس" بذلك وحدثت بصورة عشوائية نوعًا ما. فقد وصف كبار المسؤولين في الحركة - وعلى راسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار - ثوران المجتمع العربي بأنه "ثورة زعزعت استقرار إسرائيل ومَحت مفاهيم التطبّع الإسرائيلي والتعايش"، وأوضحوا أن عرب إسرائيل هم قوة فاعلة في النضال ضد إسرائيل، ملمّحين إلى أنهم سيحاولون عاجلاً أم آجلاً تأجيج نار الخلاف مرة أخرى.
من أجل استعادة الثقة المتبادلة وإعادة الهدوء على الأرض، من الضروري الحث على اتخاذ خطوات عملية تؤتي ثمارها بصورة تدريجية. من وجهة نظر الحكومة والمجتمع اليهودي، لا بد من تنفيذ البرامج التي سبق إعدادها والتي تعالج المشاكل الجوهرية في المجتمع العربي، وقبل كل شيء اجتثاث الجريمة والعنف، وهو هدف يتطلب أيضًا توسيع نطاق الاستثمار في الرعاية والشباب والبنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة ماسة لتحسين خدمات رعاية الشباب، والخدمات المدنية في القطاع العربي مثل (التعليم والخدمات بشكل أساسي) وإيجاد حل لمشاكل التجمعات غير المعترف بها، وخاصة في منطقة النقب.
لكن هذا لا يكفي. فترسيخ مفهوم التعايش يستلزم من كلا المجتمعين تأملاً عميقًا في الذات. إذ يجب على المجتمع اليهودي الإقرار بوجود ممارسات التحيز والتمييز والتعصب والقمع ومعالجتها، كونها تشكل أرضًا خصبة للجفاء والعداوة المتناميين. وكذلك يجب على المجتمع العربي الغوص في مراجعة للذات. في هذا السياق، من الضروري نبذ الميل السائد إلى شرح خلفية أو سياق العنف واستعراضهما، فهذا لا يعدو كونه تبريرًا له، والإقرار بوجود مشكلة خطيرة، ألا وهي أن المجتمع العربي فقدَ سيطرته على الجيل الأصغر الذي يعاني من الإحباط.
وبدون مراجعة صادقة ومتبادلة للذات، يمكن توقع عودة كلا المجتمعين إلى ما يشبه الوجود المشترك. ولكن تحت السطح، ستكون العلاقات مشحونة بالشك والخوف التمحوران حول اليقين بأن الانفجار التالي ليس سوى مسألة وقت.
د. مايكل ميلستين باحث أول في معهد السياسات والاستراتيجيات (IPS) في مركز هرتسليا المتعدد التخصصات (IDC) ورئيس قسم الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه دايان بجامعة تل أبيب.