- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أزمة الشرعية في الجزائر: مسار نحو المأزق
في شهر شباط/فبراير، خرج الجزائريون إلى الشوارع بالملايين احتجاجًا على ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة بعد عشرين سنة أمضاها في الحكم. وما بدأ كحراكٍ سياسي عفوي ضد بوتفليقة تحول سريعًا إلى مطلب شعبي بتغير سياسي جذري. تمكّن الجزائريون على مدى الأشهر التسعة الماضية من إبقاء احتجاجاتهم المتواصلة سلميةً على الرغم من استفزازات النظام الحاكم، ومن الحفاظ على وحدتهم بوجه المحاولات الكثيرة التي تُبذل لتفريقهم.
واليوم لا تفصل البلاد سوى أسابيع قليلة عن الانتخابات الرئاسية المقررة. وفيما تدأب الطغمة العسكرية التي تسيطر على زمام السلطة بحكم الأمر الواقع على الضغط لإجراء الانتخابات في 12 كانون الأول/ديسمبر، لا يزال الجزائريون يتظاهرون في الشوارع ليؤكدوا رفضهم لهذه الانتخابات ويطالبوا بتغير سياسي حقيقي وبنيوي.
في ظل هذه الأجواء السياسية المشحونة والاستياء الشعبي الراهن، تعتبر الأسابيع القليلة المقبلة جوهرية لضمان الاستقرار السياسي في الجزائر. بل إن الاستقرار في شمال أفريقيا، وحتى في منطقة البحر المتوسط عمومًا، رهنٌ بالانتقال السلمي والسلس للسلطة في الجزائر.
الجيش بمواجهة الشعب
صحيحٌ أن بوتفليقة استحوذ على السلطة على مدى عشرين عامًا، ولكن استقالته كشفت عن الجهة الفعلية الممسكة بزمام الحكم، وهي الطغمة العسكرية. لطالما اعتُبر الجيش المؤسسة الأكثر أهميةً وشعبيةً منذ أن نالت الجزائر استقلالها في العام 1962. وحتى حين غاصت البلاد في حرب دموية مسلحة في تسعينات القرن العشرين، وبالرغم من تدخل الجيش المباشر فيها، رأى الجزائريون عمومًا في المؤسسة العسكرية خلاصهم الوحيد. ولكن استقالة بوتفليقة القسرية في ظل غياب أي خطة خلافة مستدامة أو عملية أجبرت المؤسسة العسكرية على الاضطلاع بدورٍ واضح في السياسة وحتى في القضاء. والخطوة التي اتخذت على المكشوف وأكدت على تحكم القيادة العسكرية بمفاصل العملية السياسية في الجزائر جاءت من رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح الذي أعلن أن الانتخابات الرئاسية ستُجرى في 12 كانون الأول/ديسمبر في خطاب من داخل ثكنة عسكرية.
ومنذ تزايد ظهور قايد صالح أمام الرأي العام، أدّت خطاباته السياسية التقسيمية في غالبيتها إلى إثارة سخط شعبي وشعارات احتجاجية تطالب بوضوح بدولة مدنية تحل محل الحكم العسكري. على ضوء دينامية المد والجزر هذه الذي تتضح معالمها أكثر فأكثر بين الجيش والشعب، باتت سمعة المؤسسة العسكرية وتماسكها الداخلي معرّضين للخطر أكثر من أي وقتٍ مضى. ومع أن الجزائريين لا يزالون قادرين على التمييز بوضوح بين الجيش كمؤسسة وبين الطغمة العسكرية كـ "نخبة حاكمة"، لن تمضي مدة حتى يصبح هذا الفاصل مشوشًا وضبابيًا – خصوصًا مع ازدياد تعقيد الوضع السياسي في الجزائر.
لقد بدأ صبر الشعب ينفذ، لا سيما بعد اطلاعه على قائمة المرشحين الرسميين للانتخابات الرئاسية، والتي تضم خمس شخصيات معروفة بأنها نتاج النظام السياسي القائم. وكثيرون ممّن آمنوا بالتغيير من خلال هذه الانتخابات باتوا اليوم يشعرون بالخيانة ويعون أن هذه الانتخابات ما هي إلا وسيلة للتجديد لهذا النظام بدلاً من إنهائه. ومع اقتراب موعد الانتخابات، ثمة دلالات واضحة على أن النظام مستعد للتصعيد من خلال ممارسة القمع العنيف، فالطغمة العسكرية ترى في هذه الانتخابات السبيل الوحيد أمامها، في حين أن رفضها لأي حوار حقيقي لن يؤدي إلا إلى مواجهة محتملة مع الشعب الذي لا يزال محافظًا على سلميته.
أزمةٌ اجتماعية اقتصادية وشيكة
علاوة على أزمة الشرعية السياسية في الجزائر، فإن تزايد المخاوف من حدوث انهيار اقتصادي تلوح في الأفق. منذ أن وقعت أزمة النفط عام 2014 بسبب تراجع سعر النفط الخام تراجعًا كبيرًا، ارتأت الجزائر اتباع تدابير تقشفية قاسية – وهي التي يعتمد اقتصادها بالدرجة الكبرى على قطاع النفط والغاز. مع ذلك، وصلت كل المحاولات الحكومية اللاحقة بتنويع الاقتصاد إلى حائط مسدود. ومع ارتفاع معدلات البطالة وسوء الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية، بات البلد مقبلاً على الانفجار.
سجّلت احتياطات الصرف في البلاد انخفاضًا حادًا من 193,6 مليار دولار في العام 2014 إلى نحو 65 مليار دولار في تموز/يوليو 2019. وفي هذا السياق لمح وزير المالية الجزائري محمد لوكال إلى إمكانية حدوث انهيار اقتصادي في الجزائر بحلول العام 2022 حين أدلى بتصريح مقلق ذكر فيه أنه بنهاية العام 2020، لن تسمح احتياطات الصرف بالاستيراد إلا لمدة 12 شهرًا إضافيًا فقط.
إذا كانت المطالب بتغيير النظام السياسي سلميةً حتى الآن، فالخوف من الانهيار الاقتصادي الوشيك قد يعيد إلى ذاكرة الجزائريين الأزمة التي أصابت سوق النفط العالمية عام 1986 وأسفرت عن أعمال الشغب العنيفة الشهيرة عام 1988. ومن المؤكد أن ضبابية الوضع السياسي ليست عاملاً إيجابيًا يشجع الاستثمار، ولكن الانتخابات المقررة ستفضي على الأرجح إلى ساحة سياسية أكثر تعقيدًا تحول دون إجراء الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي تحتاجها البلاد أمسّ الحاجة.
التداعيات الإقليمية: استقرارٌ أكثر اختلالاً
علاوةً على ما تواجهه الجزائر من احتمال عدم استقرار، ينبغي بالدول المجاورة أن تتنبه بشكل خاص إلى تأثير هذه المسائل على وضع الجزائر الأمني. فمساحة الجزائر هي الأكبر بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولهذا السبب كافحت الجزائر على مدى الأعوام الخمسة الأخيرة للدفاع عن حدودها بوجه بيئة متنامية في عدوانيتها. وما بين الاستقرار المنعدم في ليبيا ومالي، ووجود "القاعدة" المحتم والمقلق في المغرب الإسلامي، تشكلّ الجزائر اليوم جزيرةً من الاستقرار في المنطقة، وشريك مهم في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.
وفي حين نجح الجيش الجزائري حتى الآن في إبقاء الوضع تحت السيطرة، قد يؤثر تدخّل الجيش الواضح في السياسة على قدرته على إتمام أهم واجباته، أي حماية الحدود. وقد يؤدى هذا الخلل الى إضعاف الجهاز الأمني في الجزائر فتتمكّن بذلك التنظيمات الإرهابية وتلك المنخرطة في الجريمة المنظمة من الانتشار وتعزيز وجودها في الصحراء الجزائرية والمنطقة.
فضلاً عن ذلك، إذا لم تتوصل الجزائر إلى توافق سياسي حول المرحلة المقبلة، وفي حال بلغ الغموض السياسي نقطة التصعيد على ضوء الأزمة الاقتصادية المحدقة بالبلاد، من الممكن أن يصبح قطاع النفط والغاز – الحيوي بالنسبة للاتحاد الأوروبي – معرضًا للخطر. ومتى انعدم الاستقرار في الجزائر، أصبحت البلاد هدفًا للكثير من القوى الدولية ذات المصالح المتضاربة والتي تتضارب مع مصالح الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. فروسيا سوف ترى في ذلك فرصةً لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا بما قد يشكل خطرًا على مصالح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أما الصين فسوف تقدم المساعدة المالية للجزائر بطريقة كفيلة بتعريض المصالح الاقتصادية للقوى الأخرى للخطر.
مسار المرحلة المقبلة: تنازلات وتفاهم متبادل
تعاني الجزائر من مشكلة رئيسية واحدة تتمحور حول أزمة الشرعية. فكل الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي حصلت منذ العام 1962 تُعزى بالدرجة الكبرى إلى هذه الأزمة التي أوصلت في النهاية إلى انتفاضة شباط/فبراير. وإذ لا يخفى على أحد المحاولات المختلفة التي بذلها كلٌّ من النظام الحاكم والمعارضة لمعالجة هذه الأزمة، يبقى واضحًا أن كل هذه المحاولات كانت بدون جدوى.
واليوم لن تعالج الانتخابات أزمة الشرعية هذه، بل سوف تفاقمها لا أكثر لأنها سوف تنتج رئيسًا يتمتع بـ"شرعية دستورية" إنما يفتقر إلى الشرعية الشعبية. وسوف تؤدي هذه الاستراتيجية لا محالة إلى انتفاضة أخرى بحلول العام 2022، انتفاضة قد تحمل أولى بوادر العنف. من هنا، لا يمكن معالجة أزمة الشرعية إلا من خلال حوار وطني يُعقد قبل أي انتخابات. يجب أن يقود هذا الحوار الوطني، الذي يمكن أن يتخذ شكل مؤتمر وطني، الى اتفاق سياسي يشمل جميع الجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية، بما في ذلك المؤسسة العسكرية. يجب على جميع القوى في الجزائر الدخول في نقاش صريح للاتفاق على بديل سياسي. مع ذلك، قبل أي مفاوضات مباشرة مع المؤسسة العسكرية، من الأساسي حدوث نقاش داخلي بين الجهات الفاعلة في المظاهرات. فالجزائريون بحاجة إلى استعادة الثقة بمؤسسات الدولة، بما فيها الجيش. ويصعب استعادة هذه الثقة طالما أن النظام مستمر بفرض القيود على حرية التعبير والإعلام والتجمع، في حين أن توفير بيئة أهدأ تحترم حريات المواطنين وتسمح للمتظاهرين بمناقشة رؤيتهم لمستقبل الجزائر بكل حرية، وبذلك يتم التوصل في النهاية إلى توافق سياسي وبديل عملي يجعل هذه العملية الانتقالية أكثر سلاسةً وسلمية.
نظرًا إلى أهمية الجزائر الإقليمية، يثير هذا الغموض السياسي منذ الآن قلق المجتمع الدولي، خصوصًا شركاء الجزائر في قطاعَي الأمن والتجارة، لا بل يترك وقعه عليه أيضًا. وفيما لا يزال الجزائريون يرفضون أي نوع من التدخل الخارجي في شؤونهم - والأرجح أن يواصلوا ذلك - يجب أن يعي المجتمع الدولي أن اتباع أي استراتيجية تؤدي بشكل غير مباشر إلى تقوية النظام السياسي قد لا يكون الخيار الأكثر حكمةً في هذا الإطار. فمصالح المجتمع الدولي تعتمد على استقرار الجزائر، ومعارضة مطالب الشعب قد يهدد هذه المصالح. يعيش الجزائريون اليوم في دولة عسكرية قائمة بحكم الأمر الواقع، والإقرار بهذا الواقع هو الخطوة الأولى اللازمة لاتخاذ موقف استباقي يضمن تلبية مطالب الجزائريين ويحافظ على استقرار الجزائر في الوقت نفسه.
وفي النهاية، سواء أجريت الانتخابات أم لم تُجرَ، تخوض الجزائر أصلاً مرحلة انتقالية تتطلب من كلا الطرفين، أي الطغمة العسكرية والمتظاهرين، القيام ببعض التنازلات الصعبة إنما الضرورية. إذ لا يجدر بالطغمة السياسية وضع نفسها في مواجهة مباشرة مع المتظاهرين، وعليها أن تبدأ بالإصغاء لصوت الشارع. أما المتظاهرين، فيجب عليهم أن يفهموا أن انفصال الجيش بشكل كامل ومفاجئ عن السياسة ليس ممكنًا بكل بساطة، وأن التعاون مع المؤسسة العسكرية للتوصل إلى رؤية بعيدة المدى هو أسهل وأكثر سلامةً من أي طريق آخر أسرع ولكن أخطر يؤدى الى المواجهة بين الشعب والمؤسسة العسكرية. إن البلاد تسير ببطء نحو مأزق خطير، وخطر التصعيد يزداد يومًا بعد يوم. وحدها التنازلات والتفاهمات المتبادلة قادرة على الحؤول دون دخول الجزائر في نوبة فوضى جديدة.