- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أزمة التمرد التي تواجهها قوات سوريا الديمقراطية "قسد"
إن الدور الحالي الذي تلعبه قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في دير الزور والمظالم المحلية المحيطة بها يتطلب فهم دوافع دخول هذه القوات إلى المنطقة، علاوة على فهم التوتر الكامن بين مصالح الولايات المتحدة وإيران والنظام السوري هناك.
تنقسم حاليًا محافظة دير الزور العربية بين "قوات سوريا الديمقراطية" ("قسد") المدعومة من قبل الولايات المتحدة من جهة، والتي تسيطر على الضفة الشرقية، بما في ذلك غالبية موارد النفط والغاز السورية، وبين الحكومة السورية ووكلاء إيران من جهة أخرى، الذين يسيطرون على الضفة الغربية للنهر الذي يمر عبر محافظة دير الزور. منذ أواخر آب/أغسطس، تواجه "قسد" تحديًا كبيرًا متمثلًا بتمرد مقاتلي العشائر المدعومين من قبل دمشق، ومدفوعا بالمظالم العربية بشأن السيطرة الكردية.
ورغم قيام الولايات المتحدة بإلقاء اللوم على السلطات المحلية المرتبطة بالأكراد على خلفية عدم تقديمها الخدمات الكافية وعدم منحها ما يكفي من الحكم الذاتي للسكان المحليين في دير الزور، لم تخطط "قسد" من جهتها قط التواجد في دير الزور، واضطرت في البداية إلى دخولها بدافع الضرورة لحماية المناطق الكردية الأساسية من تنظيم "داعش".
وقبل الانضواء تحت مظلة "قسد"، كانت "وحدات حماية الشعب" مهتمة في الغالب بربط الجيوب الكردية في المناطق الحدودية الشمالية للبلاد، ولكنها دخلت في تحالف مع الولايات المتحدة ضد "داعش" من خلال "قسد" خلال معركة كوباني في عامَي 2014 و2015. بنتيجة ذلك، دفعت الولايات المتحدة "قسد" إلى الرقة ودير الزور كخطوة استراتيجية للحؤول دون إمكانية تبنّي الولايات المتحدة لبديل منافس كانت تركيا قد اقترحته. لذلك، دخلت "قسد" إلى الرقة، ولو على مضض، إلى دير الزور.
أطلقت تركيا أيضًا ثلاث عمليات عسكرية لمنع وحدات حماية الشعب، التي تعتبرها تركيا الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، من إنشاء ممر حدودي في شمال حلب (أغسطس 2016 - مارس 2017)، وفي عفرين (يناير 2018 - مارس 2018). وفي تل أبيض ورأس العين (سري كانيه) في تشرين الأول/أكتوبر 2019. كما طالبت تركيا المقاتلين الأكراد بالانسحاب من الشريط الحدودي الذي يبلغ عمقه 30 كيلومترا في شمال سوريا، الأمر الذي من شأنه أن يجبرهم على التوغل بشكل أكبر في المناطق ذات الأغلبية العربية.
تأسس مجلس دير الزور المدني عام 2017 لإدارة الشؤون المحلية. وخلال حملة لاحقة (2017-2019)، انتزعت "قسد" ببطء السيطرة على الضفة الشرقية لدير الزور من "داعش" بدعم من "أبو خولة" (أحمد الخبيل) من عشيرة البكير، التي جنّد تنظيم "داعش" أعدادًا كبيرة من أفرادها في السابق. في ى عام 2016 قامت قسد بتعيين أبو خولة رئيسا لمجلس دير الزور العسكري.
أنشأت تركيا مجلس محافظة دير الزور المنافس، كما نشطت الكثير من الفصائل المتمردة القادمة من دير الزور داخل المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا وما زالت ناشطة فيها، ومن بينها جماعة "أحرار الشرقية". لكن المسافة الجغرافية التي تفصل تركيا عن دير الزور قد حدت من نفوذها هناك.
وفي المقابل، كانت إيران والنظام السوري يتمتعان بوضعية أفضل على الضفة الغربية من دير الزور لمحاولة إثارة الاضطرابات في المنطقة، إلا أن نفوذهما ظل محدودًا نوعًا ما، بما أن سكان دير الزور معادون بمعظمهم لدمشق.
فضلًا عن ذلك، واجهت الإدارة الجديدة المرتبطة بـ"قسد" عقبات متعددة في الحكم. فقبائل دير الزور فضّلت عدم الخضوع لحكم سلطة يقودها الأكراد وأرادت إدارة موارد دير الزور النفطية بنفسها. ومع ذلك، نجحت "قسد" في الحفاظ على نفوذها في دير الزور، حيث فضلت غالبية قبائل دير الزور "قسد" على الحكومة السورية ووكلاء إيران، مما دفع العديد من القبائل إما إلى البقاء على الحياد أو العمل مع قسد.
وفي أعقاب العملية العسكرية التركية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 ضد "قسد"، تصاعدت المخاوف في دير الزور، ما أدى إلى زيادة التردد لدى زعماء القبائل العربية في دعم "قسد". وساهم الانسحاب الأمريكي من شمال شرق سوريا في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وكذلك الانسحاب المؤقت للرئيس السابق دونالد ترامب من المنطقة، في تزايد شكوك العرب في المنطقة بشأن التحالف بين الولايات المتحدة و"قسد"، إذ خشوا انسحاب الولايات المتحدة عاجلًا أم آجلًا من سوريا بالكامل.
شكّل غياب الأكراد في دير الزور تحديًا لـ"قسد" لناحية إيجاد شركاء محليين مناسبين، بما أن الكثير من زعماء القبائل فضلوا البقاء على الحياد، ولهذا السبب اضطروا إلى العمل مع عناصر، مثل أبو خولة، الذي كان لا يحظى بشعبية على واسعة، واعتباره فاسدًا على المستوى المحلي. كما اندلعت احتجاجات في دير الزور العام الماضي بعد اتهام شقيق أبو خولة بقتل فتاتين. وحاول أبو خولة كسب المزيد من السلطة ونصّب نفسه أميرًا في عام 2019، على الرغم من عدم تمتعه بأي نسب قبلي.
في صيف عام 2023، أرادت "قسد" تنحية أبو خولة لكنها كانت مترددة بسبب غياب البدائل. وفي 27 آب/أغسطس، قررت أخيرًا "قسد" اعتقال أبو خولة في الحسكة بعد أن اشتبهت في تخطيطه لإخراجها من دير الزور بدعم من دمشق وإيران. وزُعم أيضًا أنه أنشأ قوة منفصلة عن "قسد" تضم بين 400 و600 رجل تقريبًا. وبعد اعتقاله، قاد شقيقه جلال الخبيل تمردًا مسلحًا تمركز حول بلدتي الصُوَر والعزبة، وهدد بإعدام أسرى من "قسد".
على الرغم من أن أبو خولة لا يحظى بشعبية واسعة، إلا أن بؤرة التمر قد اتسعت نتيجة الاستياء المحلي من الحكم الكردي، والخسائر التي وقعت في صفوف المدنيين خلال عملية "قسد" ضد أنصار أبو خولة. وفي 31 آب/أغسطس، تأزم الوضع عندما انضم زعيم قبيلة العكيدات المحلية، الشيخ إبراهيم الهفل، إلى التمرد وأصبح رمزًا لجماعة "مقاتلي العشائر العربية" المسلحة، وجعل بلدة ذيبان مركز هذه الثورة. لم تدعم الثورة أبو خولة، كما يتضح من رسالة صوتية قديمة مسربة هدد فيها أبو خولة أيضًا الشيخ إبراهيم الهفل.
استفادت العائلات التي تعيش على مقربة من ذيبان في البداية من النفط الخام خلال الانتفاضة السورية في عام 2011، لكن أرباحها انخفضت بعد سيطرة "قسد"، وهذا دافع آخر محتمل للشيخ إبراهيم الهفل لدعم التمرد. في عام 2020، دعا الهفل أيضًا إلى نقل الإدارة المحلية إلى قبائل دير الزور.
على الرغم من ذلك، اقتصر التمرد على أقل من 30 في المئة من المناطق الخاضعة لسيطرة "قسد" في دير الزور. بالإضافة إلى ذلك، انضمت إلى الثورة اثنتان فقط من عشائر قبيلة العكيدات الاثنتي عشرة، وهما عشيرة البوكامل التابعة للشيخ الهفل وعشيرة البكير التابعة لأبو خولة. وما كان التمرد ليفشل على الأرجح لو دعمته جميع القبائل. وبالفعل، فقد قال عمر أبو ليلى، المدير التنفيذي لشبكة دير الزور 24، لوكالة فرانس برس في وقت سابق: "لو كانت العشائر فعلًا كلها اتفقت على "قسد"، لما بقيت (هذه الأخيرة) في دير الزور".
علاوة على ذلك، شنت "هيئة تحرير الشام" والفصائل المدعومة من تركيا القادمة من دير الزور، مثل "أحرار الشرقية" و"جيش الشرقية"، تحت غطاء ثورة العشائر العربية المتزامنة، هجمات على "قسد" بالقرب من منبج وفي محافظة الحسكة بعد حصولها على الضوء الأخضر من تركيا.
في البداية، انسحبت "قسد" من معظم مناطق دير الزور في 29 آب/أغسطس لتجنب تطويقها، ونسقت هذا الانسحاب مع زعماء العشائر الريفية الشرقية بالقرب من هجين، الذين لم ينضموا إلى الثورة. ثم استعادت "قسد" بسرعة السيطرة على الأراضي، على الرغم من غياب الدعم الجوي الأمريكي، لتتغلب لاحقًا على ميليشيات القبائل. استمرت الاشتباكات متعددة الأوجه الناجمة عن ذلك من 27 آب/أغسطس حتى 6 أيلول/سبتمبر، وأسفرت عن مقتل 91 شخصًا. وبعد القضاء على التمرد، شكر القائد العربي المرتبط بـ"قسد"، أبو عمر الإدلبي، قبيلتي العكيدات والبقارة على دورهما في منع سفك الدماء في دير الزور، ولا سيما الشيخ حاجم البشير (شيخ قبيلة البقارة)، الذي دعا إلى وقف إطلاق النار، والشيخ جميل الهفل (ابن عم إبراهيم الهفل).
كان من الواضح أيضًا أن دمشق سعت للعب دور في دعم التمرد، إذ أفادت التقارير أن الشيخ إبراهيم الهفل قد فر إلى الضفة الغربية لنهر الفرات التي يسيطر عليها النظام، واستمر في الدعوة إلى شن هجمات على "قسد". كما حذّر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الزعماء العرب في 27 أيلول/سبتمبر ودعاهم إلى مقاومة تأثير "الجهات الفاعلة الخبيثة"، في إشارة غير مباشرة إلى إيران ودمشق.
وبحسب صحيفة "القدس العربي"، انتقل الهفل إلى بلدة محكان القريبة من الميادين بعد محاصرة "قسد" لذيبان. وعلى الرغم من طلبه السابق من الولايات المتحدة الدخول في مفاوضات مباشرة معه وليس مع "قسد"، لم تكن الولايات المتحدة مهتمة على ما يبدو بإنشاء كيان جديد بقيادة قبلية في دير الزور وشددت على دعمها المستمر لـ"قسد". وبدلًا من ذلك، تعاملت الولايات المتحدة مع مصعب الهفل، المقيم في قطر، وهو شقيق الشيخ إبراهيم الهفل، من خلال مفاوضات في أربيل، لتهدئة الوضع. واجتمع أيضًا المسؤولون الأمريكيون بزعماء قبائل آخرين في دير الزور.
بالإضافة إلى ذلك، نشرت "حركة أبناء الجزيرة والفرات في 7 أيلول/سبتمبر" مقطع فيديو يُظهر هاشم السطام، قائد كتيبة "أسود العكيدات" المدعومة من إيران في دير الزور الخاضعة لسيطرة النظام، في ملابس قبلية وهو يعبر النهر مع رجاله لقتال "قسد". وأعلن أيضًا زعيم قبيلة البقارة المدعوم من إيران، نواف البشير، عن إنشاء "فوج العشائر الهاشمية" لمحاربة "قسد".
كذلك، ذكرت صحيفة "القدس العربي" أن دمشق استضافت لاحقًا مئات المقاتلين القبليين والعائلات من ذيبان، وزودتهم أيضًا بالأسلحة والذخيرة بعدما نفدت منهم. وأصبحت الميادين، التي قصفتها مؤخرًا "قسد"، مركز أسلحة القوات القبلية.
تواصل الآن قوات الهفل القبلية شن هجمات عبر النهر على "قسد". في خلال توغل مسلحين من مناطق سيطرة النظام في 25 أيلول/سبتمبر، تجددت الاشتباكات لفترة وجيزة حتى طردت "قسد" المسلحين القبليين.
وفي 18 تشرين الأول/أكتوبر، نشر الهفل مقطع فيديو يزعم أنه سيتم تسديد "ضربة مؤلمة" جديدة ضد "قسد". وفي 26 تشرين الأول/أكتوبر، أفادت صفحة "حركة أبناء الجزيرة والفرات" أن الهفل قد التقى بزعماء قبليين للتحضير لهجوم جديد.
عقدت "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" ومجلس دير الزور المدني مؤتمرًا عامًا حول دير الزور في 22 تشرين الأول/أكتوبر مع خطة طموحة لمناقشة إعادة هيكلة المجلسَين العسكري والمدني ومعالجة المظالم المحلية. كما قدّمت "قسد" العفو للمقاتلين القبليين.
في 30 تشرين الأول/أكتوبر، نفذ أنصار الهفل هجومًا جديدًا. وقالت "قسد" إن الهجوم نُفذ من مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة السورية بالقرب من الميادين. بالإضافة إلى ذلك، أُفيد عن إصابة مروان الفاضل، أحد مسؤولي ميليشيا "أسود الشرقية" المدعومة من الحكومة السورية.
وأكد موقع "صدى الشرقية" الإخباري المحلي أيضًا انضمام "أسود الشرقية" إلى الهجوم على "قسد". ويشير ذلك إلى أن جماعات مسلحة مختلفة مدعومة من دمشق قد انضمت إلى التمرد تحت غطاء "قوات مقاتلي العشائر العربية"، على غرار الجماعات المدعومة من تركيا
ملاحظات ختامية
يمثل التمرد القبلي الأخير في دير الزور، الذي أطلقت شرارته المظالم المحلية، تحديًا هائلًا لكل من الولايات المتحدة و"قسد" في المنطقة كما أن الاعتماد المتزايد للثورة القبلية على الأسلحة والدعم المالي من إيران ودمشق يمكن أن يعيق مشاركة القوات القبلية التابعة للشيخ إبراهيم الهفل في مفاوضات مستقبلية مع "قسد" والولايات المتحدة. لدى دمشق وإيران أيضا مصلحة متزايدة في استغلال الاضطرابات القبلية في دير الزور لممارسة ضغوط إضافية في المنطقة، لا سيما في ظل النزاع المستمر بين إسرائيل و"حماس". كما كثفت الجماعات المدعومة من إيران هجماتها على القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا، ومن المرجح أن تستمر قوات الهفل القبلية في تنفيذ هجمات الكر والفر في دير الزور، على الرغم من أنه من غير المرجح أن تتمكن من السيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة "قسد".
إن الإجراء الرئيسي الذي يمكن للولايات المتحدة أن تتخذه الآن هو وضع سياسة واضحة تتجاوز المهمة العسكرية ضد "داعش". ويجب أن تركز هذه السياسة على دعم ممارسات الحكم الرشيد لضمان الهزيمة النهائية لتنظيم "داعش" وأيديولوجيته مع تعزيز الاستقرار في المنطقة. لكن هذه الخطوة تظل صعبة طالما أن الولايات المتحدة لا تقدم ضمانات مستقبلية لـ"قسد" في ما يتعلق بوجودها المستقبلي في سوريا. وطالما بقي الوجود الأمريكي غير مؤكد، ستستغل الجهات الفاعلة الأخرى الوضع ومظالم السكان المحليين.