- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
بين الضوضاء الآنية والمستقبل المرتقب: التجربة الإسلامية الأمريكية
كان قدومي إلى الولايات المتحدة في منتصف الثمانينات، في خضم اهتمام متصاعد بالتعددية الثقافية. فالوعي في البلاد كان يرتقي إلى واقع التنوع المستقر فيها، والاعتزاز كان يتعاظم بالخلفيات الوطنية والثقافية للمواطنين من الجدد والقدامى. وكانت أصولي الشرق الأوسطية واضحة في اسمي ولكنتي وبشرتي. فكان من البديهي، يوم حصلت على الجنسية الأمريكية أن أصبح صاحب هوية مركّبة، فكنت الأمريكي اللبناني، أو الأمريكي العربي، أو الأمريكي المسلم، بالنسبة لأصدقاء وزملاء من أصحاب السبق في الهوية الأمريكية. وتلك كانت تسميات أطلقوها عليّ من باب التودّد على الغالب، في مجتمع كان يزداد ثقة وفخراً بما يجمعه من تعدد.
غير أن صيغة الهوية المركبة سقطت بالنسبة لي يوم الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١. ففي صباح ذلك الثلاثاء، كنت أمريكياً وحسب تقصّده الإرهاب، وإذ نجوت من الأذى الجسدي الذي فتك بالآلاف، فإني كنت من الملايين الذين ترك الاعتداء في وجدانهم جرحاً لا يندمل.
وكنت أقيم يومها في بلدة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس. وفي أعقاب الاعتداء شهدت كامبريدج مسيرة صامتة انطلقت من إحدى كنائسها متوجهة إلى المركز الإسلامي. والهدف كان التأكيد للذات أولاً ثم للآخر، بأننا في تعددنا يد واحدة، وبأن العدوان لن يفرقنا. وبعد مضي ما يقارب الخمسة عشر عاماً على الحدث، أنا على قناعة بأن هذه الفرقة لم تحدث، ولن تحدث.
ثمة خطاب دون شك في الثقافة السياسية العربية يدين الولايات المتحدة جملة وتفصيلاً، ويجتهد في أحد أوجهه في تبيان ما يطال مواطنيها والمقيمين فيها من أصول عربية وإسلامية من المعاملة السيئة والعزلة والاضطهاد. وتأتي التفاهات الصادرة عن أحد الطامحين للرئاسة الأمريكية لتؤيد هذه المزاعم، وكأنها الدليل القاطع على ظلم مفترض يفتك بالمسلمين في الولايات المتحدة.
ومن المفيد هنا توضيح هذه الفكرة الجوّالة المربكة والمرتبكة. لا سبيل على الإطلاق لتحقّق الكلام النابي الشعبوي الداعي إلى منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة إلا من خلال تعديل دستوري ينفي قرون من القناعات الراسخة والسوابق المتكررة في الممارسة والتشريع في الولايات المتحدة. أي، وبعبارة أخرى، عزل المسلمين سوف يبقى وحسب أضغاث أحلام لبعض النفوس المريضة. فالمسلمون ومعهم كل من يعود بأصوله إلى مجتمعات ساهم الإسلام برسم معالمها، هم جزء لا يتجزأ من الحياة والواقع في الولايات المتحدة. وهذه حقيقة ثابتة اليوم، وتبقى ثابتة كذلك غداً.
وكان عقد التسعينات قد شهد في مناسبات متكررة في السياسة والثقافة إشارات إلى الخلفية «اليهودية المسيحية الإسلامية» للولايات المتحدة. ولا شك أن هذه الإشارات قد أثارت تحفظ البعض، حتى في ذلك العقد، تماماً كما أن الجيل السابق لها كان قد شهد امتعاض من جانب من كان مستقراً على وصف الولايات المتحدة بالأمة المسيحية، مع الحديث المستجد حينئذ عن خلفية «يهودية مسيحية». غير أن المجتمع الأمريكي، في هذا الشأن كما في غيره من إعادات الاعتبار المفصلية لصورته وتركيبته خلال القرن العشرين، قد أظهر ثنائية جدلية تجمع المتانة والليونة، فهو يبقى على مواقف محافظة ممانعة للتبديل ما لم يتبين استحقاقه، ولكنه في الآن نفسه يبدي التقدمية التي تؤكد بأن القيم وليس التقاليد المتحجرة هي التي تحدد مضمون التوافق الاجتماعي.
غير أنه كان للبعض، ما وراء البحار، حسابات مختلفة سارت إلى التطبيق، لتجرف معها وعد الصهر الثقافي الذي كان يسير الأمريكيون المسلمون باتجاهه. فقبل الحرب الجهادية المعلنة على الولايات المتحدة، كان الغالب على الثقافة الأمريكية الانفتاح إزاء عامل الإثراء الجديد القادم إليها من بلاد يظهر فيها الإسلام. أما الأصوات التي كانت تحذّر من أن هذا العنصر الجديد مختلف نوعياً، وتدعو إلى الريبة والحذر، بل تطالب باعتراض قدومه، فكانت في غالبها هامشية، واندرجت في إطار ما تقدمه الثقافة الشعبية في الولايات المتحدة لأي جديد. فالآراء الحرّة والتحديات الصادحة هي من صلب منظومة القيم الأمريكية، والاستثناءات من النقد والتمحيص غير واردة. ولكن، بعد وقوع اعتداءات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، ارتفعت أعداد من أمسوا على قناعة بأن الأصوات المعادية للإسلام كانت على حق. هي قناعة خاطئة طبعاً، ولكنها تتطلب الوقت والجهد لتفنيدها.
ورغم الضوضاء التي تمكنت من تجاوز الهامش لتبلغ أحياناً صلب الهم الثقافي في الولايات المتحدة، فإن ما كان متحقّقاً في التسعينات يبقى متحقّقاً إلى اليوم. فالمهاجرون والوافدون من أرجاء العالم، بما في ذلك المجتمعات التي يغلب على طابعها الإسلام، يأتون إلى الولايات المتحدة طلباً للحرية والكرامة وحكم القانون. والدليل الواضح على أنهم يلقون ما يبغونه هو أن الولايات المتحدة تبقى وجهة هجرة رئيسية. ولا شك إنه ثمة حالات وحوادث تتعارض مع هذا الوعد، والإشارة إليها متوجبة لأن الولايات المتحدة مطالبة بمعيار من النقاء يتجاوز بأشواط ما يمكن توقعه من غيرها. فقد يتعرض فرد أو أفراد للمضايقات، وقد تتجاوز هيئة رسمية صلاحياتها، وقد تواجه مجموعة تسعى لبناء مسجد أو مركز ديني الضغوط والعقبات المتعمدة. غير أنه في جميع هذه الحالات، والتي تبقى نادرة بأي مقياس، فإن حكم القانون بكل صرامته وعدالته وإنصافه وإلزامه التساوي بالمعاملة هو الفيصل وهو المرجع. والواقع في نهاية الأمر هو أنه ما من مكان على وجه الأرض يشهد أشكالاً من التعبير الحر من الإسلام أكثر من الولايات المتحدة. وفي مقابل كل مضايقة أو اعتداء، سواء كانت الإشارة إليها وقائعية صادقة أو جرى تضخيمها لأغراض الطعن، تتضافر حالات لا تحصى من التآخي والصداقة والتعاطف بين العرب والمسلمين وغيرهم في الولايات المتحدة، دون أن يتداولها الإعلام، ولا حاجة للإعلام أن يتداولها، إذ هي الواقع السائد.
وبوسع المتقصي للتاريخ الديني أن يلحظ أن الولايات المتحدة، إذ هي الدولة التي تجمع أكبر عدد من المسيحيين في العالم، قد تفاعلت مع الديانة المسيحية وأنتجت تعابير ومذاهب وعقائد مسيحية متجددة ومتشابكة. والولايات المتحدة هي أيضاً الدولة التي تضم أكبر عدد من اليهود في العالم. وفي الوسط اليهودي كذلك، أخرجت التجربة الأمريكية قراءات وتوجهات جديدة. أما المكوّن الإسلامي في الولايات المتحدة، فهو أقل حجماً من حيث نسبته إلى الحضور الإسلامي العالمي. إلا أنه لا يمكن إهمال زخم الحاضنة الأمريكية بما تزخر به من أفكار ودوافع. ففي بيئة ثقافية تثمّن الحرية والعدالة والتسامح، ينشط استسقاء هذه القيم من الموروث الإنساني الثقافي والديني المشترك بتجلياته المختلفة. فبعد أن تتلاشى العوامل الآنية المشتتة، يمكن توقع أن يجتهد جيل الألفية من الأمريكيين المسلمين بالسعي نحو هذا الاتجاه تلقائياً، وليس بتتبع شعائر الموت التي تسوّق لهم. والمهمة المناطة بغيرهم من الأمريكيين هي وحسب عدم عرقلة مسعاهم بخطوات سيئة التصور والإعداد والتنفيذ.
إحدى المقولات المعتمدة في الأوساط الجهادية هي الطعن المتكرر بالإسلام «الراندي» في إشارة إلى تقرير لمؤسسة راند صادر في التسعينات يدعو إلى تحبيذ «الإسلام المعتدل» لمواجهة التطرف والقطعية. وجدوى هذه الدعوة الفوقية للإصلاح الديني غير واضحة واحتمالات نجاحها تبقى مبهمة. غير أنه يتوجب على الجهاديين وغيرهم من القطعيين أن يتوجسوا من صيغة أخرى للإسلام تأتيهم كذلك من الولايات المتحدة، وهي التجربة المعاشة للمسلمين في هذه البلاد حيث الحرية الدينية حقيقة واقعة، وحيث الإيمان والشعائر، التزاماً وتركاً، هي وليدة القناعة الصادقة لا الخوف. فالتجربة الأمريكية المسلمة لا تزال حديثة العهد، إلا أن سجل التاريخ يشير إلى أنها وحسب تخطو خطوات أولى نحو مستقبل مزدهر وطويل، شاء من يطعن بها في الداخل والخارج أم أبى.
حسن منيمنة هو مساهم في تحرير "منتدى فكرة". وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"