- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
بين إيران والخليج: البيئة المتحولة
تسود منطقة الخليج حالة من التوتر حول ما ألم بالإقليم العربي، وفي الوقت نفسه تتراكم المخاوف بسبب قوة إيران وعدد سكانها وتمددها في الإقليم بل ومن أيديولوجيتها الشبه ثورية ونظامها السياسي الأكثر مأسسة وإتفاقها النووي. وسعت القوة الإيرانية لتمتين نظام الأسد (مرحلياً) في أعقاب الثورة الشعبية ودعم الحوثيين في اليمن بعد سيطرتهم على معظم تلك البلاد كما وفتحت الباب للتحكم بتوازنات العراق منذ حرب ٢٠٠٣ بالإضافة لدور إيران في لبنان وسوريا عبر «حزب الله» ودور الحزب في سوريا.
ومن جهة أخرى، فإن المملكة العربية السعودية - الدولة الخليجية الأقوى عسكرياً والأكبر مساحة والتي تتمتع بقاعدة سكانية من المواطنين تتجاوز ٢٨ مليون مواطن - تخوض مواجهات على أكثر من جبهة، خاصة منذ تولي الملك سلمان الحكم في بدايات ٢٠١٥. فالسعودية تسخر قدراتها للدفاع عن منظورها الأمني وذلك بعد إهتزاز الأمن في الإقليم بما في ذلك الأمن الخليجي، وهذا جعلها تبرز أكثر الإتجاهات توكيداً في قيادتها، خاصة من جانب (ولي العهد وولي ولي العهد) بهدف جعل الصف الخليجي يقف وراؤها دون أدنى تباينات. وفي هذه البيئة الجديدة إن المملكة أقل تسامحاً فيما يتعلق بالإختلافات الجذرية في المواقف في منطقة الخليج.
والخليج بقيادة سعودية يتواجه مع أكثر من تهديد في الوقت نفسه: إيران من جهة، ثم تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») الجاذبة لقطاع من الشباب السعودي والأردني والتونسي والتي تقف على أرضية دينية تتشابه في بعض أبعادها مع ذات الأرضية الرسمية الدينية في المملكة العربية السعودية؛ ويواجه الخليج جزئياً تحدي التعامل مع «الإخوان المسلمين» بصفتهم جماعة منظمة خارج النظام السياسي. وبالرغم من الخلاف السعودي مع «الإخوان المسلمين»، تتعامل المملكة معهم في اليمن منذ ٢٠١٥؛ وبينما تعاديهم دول أخرى في الخليج في ظل تحالفها مع مصر نجد أن لقطر موقف داعم لـ «الإخوان» وللمعارضة في مصر.
وقد نجح الخليج في تصنيف «حزب الله» كفصيل إرهابي، بينما يتعمق التوتر الطائفي مع الشيعة في منطقة الخليج وهو في جانب منه إنعكاس للصراع السعودي الإيراني وفي جانب آخر نتاج ضعف آليات العدالة والديمقراطية (مع استثناءات قليلة) في سياسات الدولة والمجتمع في المنطقة العربية وحيث تتواجد طوائف شيعية وتهميش وتفرقة. التهميش والتفرقة قضية عامة في الإقليم وهي تصيب فئات مختلفة قبلية ومناطقية وطائفية، فالتهميش ظاهرة عامة في الواقع العربي.
لكن المملكة العربية السعودية ليست بعيدة عن إمكانية إيجاد حلول وسط مع إيران، فالسعي السعودي يسير باتجاه تغير ميزان القوى وتجميع ما تستطيع من أوراق ضاغطة لإيقاف التمدد الإيراني، ويتضمن ذلك بناء جسور أكثر قوة مع تركيا. لذلك لم تفقد المملكة العربية السعودية الواقعية، فهي تعي أن إيران باقية والجغرافيا لن تتغير. إن هدف التحرك الخليجي والسعودي الراهن هو إعادة التوازن الإستراتيجي للوضع العربي كما كان نسبياً قبل ثورات "الربيع العربي". لكن هذا السعي محفوف بالتحديات الذاتية الداخلية والإقليمية، كما أنه لم يأخذ بعين الاعتبار مدى التغير الذي وقع في العالم العربي والذي يقع اليوم على الصعيد الشعبي منذ ثورات ٢٠١١.
وبطبيعة الحال لا تحمل جميع دول الخليج ذات الرؤية السعودية تجاه التوازنات الإقليمية والإيرانية، فهناك تمايزات تفرضها الجغرافيا وطرق التفكير المختلفة بين القيادات في قطر والإمارات والكويت، وعمان. لهذا من الطبيعي أن تتضح هذه التمايزات إذا ما هدأت الحروب وبدأ الحديث عن الحلول والصفقات والاقتصاد. فمجرد أن تقوم سلطنة عمان بتأمين المفاوضات التي أدت للاتفاق الأمريكي والغربي مع إيران دليل على بعض هذه التناقضات، كما أن الكويت مكان التفاوض بين أطراف النزاع والحوثيين في اليمن. وتجمع دول الخليج نسبياً على التخوف من التمدد الإيراني وتخشى من الحروب الأهلية المحيطة وأثر الانسحاب الأمريكي عليها وتريد إطاراً جامعاً عربياً وإسلامياً يقدم درجة من الأمن والتوازن، وهي حتى الأن لم تجمع على ضرورات الإصلاح السياسي المتوسط الأمد.
إن الثورات العربية للعام ٢٠١١ أثارت مخاوف الخليج من أدوات التكنولوجيا الجديدة كـ "تويتر" و"فيس بوك" بالإضافة للتخوف من السياسة والتنظيم الحزبي مهما كان بسيطاً. ولهذا بالتحديد، باستثناءات قليلة، تزايدت في منطقة الخليج القوانين المكبلة للحريات وخاصة في مجال الوسائط الجديدة. وعند التدقيق سنجد أن البحرين مقسومة إنقساماً أفقياً كبيراً بين الأغلبية الشيعية والأقلية السنية، أما في الكويت، ذات الحريات الأثبت، فقد هدأ الحراك السياسي السلمي بفضل رفض الدولة وسياستها المتشددة تجاهه عندما ارتفع في حدته في ٢٠١١. ذلك الحراك السياسي طرح مطالب أخاف النخبة الكويتية الحاكمة كما والتجارية، لكنه طرح في الوقت نفسه أطروحات هامة حول ضعف التنمية والإدارة وإنتشار الفساد وضرورة تأمين حريات أكبر بما في ذلك إقرار الأحزاب وفي حالات، كما طرحت الحركات الشبابية، ضرورة تحول الكويت لرئيس وزراء منتخب في ظل تنافس حزبي في ظل تعديلات دستورية. وقد أدى هذا الوضع لسجن نشطاء وأحكام بحق مئات الشبان والشابات منهم من غادر الكويت منهم من ينتظر حكماً أو يقضى فترة في السجن. وقد وقع في نيسان/أبريل ٢٠١٦ إضراب نقابي كبير هز صناعة النفط في الكويت شارك فيه ١٨ ألف عامل وموظف في ظل آفاق تقليص حقوق ومكتسبات العمال الكويتيين بسبب أزمة أسعار النفط. إن أي حل سياسي لازمة البحرين وللتناقضات في الكويت سوف يخلق نموذجين أكثر تقدماً في البعد الحقوقي والسياسي، وهذا منتظر في مجتمعين لديهما الكثير من الوعي والتجارب المدنية.
إن البيئة الجديدة في الخليج تجعل الجميع في مأزق إقليمي ومحلي بنفس الوقت. فقد تراجع دور مصر بالرغم من الدعم السعودي الكبير والذي تجاوز عشرات المليارات منذ انقلاب ٢٠١٣ بقيادة السيسي، كما أن عدد كبير من الدول العربية تحولت لدول فاشلة بسبب الديكتاتورية والفساد، ويتم كل هذا في ظل انتشار السلاح في طول الإقليم وعرضه. في السابق وقبل ٢٠١١ كان يكفي للقادة العرب في الخليج وفي الأقليم أن يحلوا قضية داخلية أو إقليمية عبر اتصال هاتفي وجلب فرقاء بيسر، أما اليوم فيتطلب الأمر حرب وأحكام قاسية بحق المعارضين والناقدين. دول الخليج لم تضطر في السابق لوضع أسوار حول دولها، كما تفعل المملكة حول حدودها مع العراق ومع اليمن، فالأسوار دليل عدم قناعة بوجود حلول جادة وممكنة للمشكلات المزمنة التي يعاني منها الإقليم، كما أن الأسوار والجدران تخلق تناقضات حادة للداخل كما للخارج. في السابق كان التفاهم اللبناني السوري السعودي يهدأ لبنان وينهي حربها، أما اليوم فقد أعلنت السعودية أن «حزب الله» منظمة إرهابية وأوقفت دعمها الكبير للجيش اللبناني، بينما الحرب في سوريا دخلت عامها الخامس وتقترب من السادس، وفي السابق كانت أسعار النفط تثير التفاؤل حتى عند تراجعها، أما اليوم فالحقبة النفطية وفق الكثير من التقارير والأبحاث تشير لاسعار متوسطة لن تصل لما كان عليه الحال في العام ٢٠١٥، وهذا يطرح مشكلة الدولة الريعية وانتقالها الاقتصادي والسياسي.
إن الحروب الراهنة حول الخليج، مهما كانت مبرراتها، هي في النهاية حروب قد تنتهي بانتصارات جزئية أو بخيبات أمل كبرى، أحياناً يقع إنتصار بطعم الهزيمة وذلك من جراء الثمن ودرجة الاستنزاف. ففي حرب اليمن، على سبيل المثال، تناقضات جمة من أهمها القوة المكتسبة لـ تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» (إنشاء دولة تشبه تلك التي أقامها تنظيم «داعش»)، بالإضافة لآفاق نمو الحراك الجنوبي على حساب وحدة الشمال والجنوب. ربما في بيئة كهذه شعرت المملكة بالحاجة للإعدامات بحق تنظيم «القاعدة» وبحق قادة من الشيعة السعوديين، لكن الإعدام كعقوبة في شؤون العنف السياسي والإرهاب أو المعارضة الحادة في كل من إيران (الأعلى في العالم) والمملكة يغذي الصراعات ويخلق أرضية لمزيد من التطرف في جميع الاتجاهات. فعلى الأغلب ستكون النتائج في المدى المنظور خليط من التوازن واللا توازن والمكاسب والمخاسر.
إن الصراع الإيراني -الخليجي ليس إلا أحد تعبيرات البيئة الراهنة في العالم العربي، فمحاولة بناء تحالف إسلامي كبير يتضمن مصر والسودان والباكستان ودول إسلامية أخرى فيه الكثير من الإيجابيات ضمن رؤية سعودية للتوازن الإقليمي، وقد يكون في الواقع البعد الوحيد المتاح، لكن هذه الدول الحليفة ليست مستقرة خاصة وإنها تمتلك سجلاً سلبياً في حقوق الإنسان. مصر بالتحديد مهددة بتغير عند أقرب منعطف. يكفي أن نتذكر بأن الإقليم العربي قلما يجيز حق العمل السياسي السلمي، وأنه في ظل غياب هذه الحقوق في حدها الأدنى، سيتجه الإقليم لمزيد من العسكرة والمواجهات بين دول أمنية تتخوف من التغير وشعوب تسعى لبناء مجتمعات أكثر انفتاحاً وتوازناً. هذه الجدلية بين العنف والسلم وبين الدولة الأمنية والديمقراطية لن تغادر الإقليم العربي وستكون أحد أسباب عدم المقدرة على غلق النوافذ أمام إيران.
لقد تحول جانب من الصراع في الإقليم لصراع إيراني - عربي، لكن هذا الصراع إنعكاس لأزمة الإقليم العربي الأعمق والحالة السياسية التي تفتح الباب لمزيد من التدخل الخارجي والصراعات الجانبية، وقد إنفجر في هذا الإطار الصراع الشيعي السني، لكن لا الشيعة سيختفون من الخارطة ولا السنة سيخرجوا من المعادلات، وذلك لأن الصراع مع الوقت لن يقود إلا إلى مساومات، والمساومات ليست في جلها فقط حول إيران، بل حول حقوق الشيعة والسنة كمواطنين في بلادهم قبل أن يكونوا أعضاء في طوائف أو قبائل وسكان أقاليم ممتدة. مساومات المستقبل ستكون حول التناقض بين المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق والضمانات القانونية لمن لا صوت لهم. بالتأكيد سيعود كل شيء في المستقبل للسؤال الأساسي الذي يموجبه قام "الربيع العربي" ٢٠١١: مكانة المشاركة والتعبير والحريات والضمانات القانونية والعدالة والمهمشين والمجالس والبرلمانات والانتخابات والاقتصاد الحر في أوطان تتسع للجميع.
شفيق الغبرا هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"