- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بيت منقسم: هل تتمكن كردستان من الحفاظ على استقلاليتها؟
أصبح الحكم الذاتي الذي تتمتع به حكومة إقليم كردستان على المحك، عالقًا بين الخلاف السياسي الداخلي وسجلّ من القيود المفروضة من الخارج. وليست الأحكام التي صدرت مؤخرًا عن المحكمة إلا ضربة جديدة زادت من تقييد قدرة الحكومة على حكم ذاتها.
يمر الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق بمرحلة حرجة فاقمها حكمان رئيسيان أصدرتهما المحكمة الاتحادية العراقية العليا في شباط/فبراير وشكلا تحولًا كبيرًا في التوترات المالية بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد.
في الحكم الأول، أمرت المحكمة حكومة إقليم كردستان بتسليم مسؤولية دفع رواتب الموظفين الحكوميين إلى الحكومة الاتحادية بعد أن كانت من مسؤوليات أربيل. وسيتم خصم الأموال من مخصصات ميزانية حكومة إقليم كردستان، ما سيؤدي بالتالي إلى إحكام سيطرة بغداد على الموارد المالية الإقليمية والحد من الاستقلالية المالية لحكومة إقليم كردستان.
ألزمت المحكمة أيضًا حكومة إقليم كردستان بتقديم تقارير شهرية إلى بغداد تتضمن تفاصيل صرف الرواتب ومصادر الإيرادات كافة أيضًا، بما في ذلك المصادر النفطية وغير النفطية. وتهدف زيادة الشفافية هذه إلى معالجة مخاوف بغداد بشأن الإدارة المالية لحكومة إقليم كردستان، ولكنها تسهم أيضًا في الحد من سلطة حكومة إقليم كردستان في إدارة شؤونها المالية وفي التدخل في شؤون المنطقة.
هذان الحكمان هما الأحدث في سلسلة تطورات تعيد تشكيل العلاقة بين أربيل وبغداد منذ أن سجل الاستفتاء حول استقلال كردستان في العام 2017 نقطة تحول في ما يتعلق بالحكم الذاتي لحكومة إقليم كردستان. ومنذ هذه المحاولة الفاشلة للاستقلال كليًا عن بغداد، يشهد الحكم الذاتي في إقليم كردستان العراق تراجعًا تدريجيًا ثابت الخطى يُعزى جزئيًا إلى مجموعة أحكام مثيرة للخلاف أصدرتها المحكمة الاتحادية العراقية، ولم يكن الحكمان الصادران في شباط/فبراير سوى أحدثها. وقد أدت هذه الأحكام إلى تقويض سلطة حكومة إقليم كردستان في مجالات رئيسية، علمًا أن الكثيرين في حكومة إقليم كردستان يعتبرونها مسيسة.
غير أن الحكمين الأخيرين يمسان بصميم الحكم الذاتي لحكومة إقليم كردستان إذ لا يعدّ توزيع رواتب موظفي الخدمة المدنية في حكومة إقليم كردستان مجرد معاملة مالية. في حين تدير عادة الحكومات المحلية في أجزاء أخرى من العالم رواتب موظفي الخدمة المدنية في مناطق الحكم الذاتي لما فيه من دلالة على التحكّم بجانب أساسي من الحكم، فإن الحكم الأخير الصادر عن المحكمة الاتحادية العراقية يقوض بشكل مباشر استقلالية حكومة إقليم كردستان نظرًا لأنه يكلف المصارف الخاضعة لسيطرة بغداد بصرف هذه المدفوعات. ولعل الغضب الشعبي من هذا التحول أقل حدة مما كان عليه قبل عشر سنوات، أي في الفترة التي شهدت قدرًا أكبر من الاستقرار، إلا أن المخاوف بشأن النظام الجديد تنتشر. ومن ناحية أخرى، تعود الاستجابة الخجولة إلى حد ما إلى التصور السائد بأن الأحزاب الحاكمة في حكومة إقليم كردستان قد فشلت في إرساء نظام ثابت وموثوق لدفع الرواتب. بالإضافة إلى ذلك، قلّما يؤثر احتمال تأخر بغداد أو تدخلها في دفع الرواتب بالأكراد، إذ واجه عامة الناس إجراءات تقشف وتأخيرًا في دفع الرواتب لسنوات.
أما الحكم الآخر الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العراقية والذي جاء نتيجة دعوى قضائية رفعها "الاتحاد الوطني الكردستاني"، فقد شكل نقطة تحول أيضًا. تخطت المحكمة موضوع الدعوى الأساسي وذهبت إلى حد اعتبار حصص الأقليات في برلمان حكومة إقليم كردستان على أنها غير دستورية وألغتها. تؤدي هذه العملية المتمثلة بإعادة الهيكلة إلى أربع مناطق متجانسة إلى تغيير كبير في المشهد السياسي في المنطقة. ويكتسب هذا الحكم أهمية خاصة مع الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في 10 حزيران/يونيو، وقد تنجم عنه عواقب وخمية على "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بعد أن تمكن لسنوات من ضمان مقاعد الكوتا لصالحه. ويهدد هذا القرار هيمنة الحزب الذي يبلغ من العمر 77 عامًا داخل البرلمان.
إلا أن التراجع المستمر في الحكم الذاتي الكردي لا يعود في الأساس إلى تدخل المحكمة الاتحادية فحسب، بل أيضًا إلى الافتقار طويل الأمد للتماسك والتواصل بين "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني". يسيطر هذان الحزبان المهيمنان عمليًا على مصادر إيرادات حكومة إقليم كردستان وقواتها العسكرية، ولذلك وعندما تغيب الأرضية المشتركة بينهما تكون التداعيات وخيمة. وخير مثال على ذلك هو التأجيل المتكرر للانتخابات البرلمانية التي كان من المقرر إجراؤها في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2022. فالخلاف السياسي المستمر بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" يحول دون اتباع نهج موحد في الحكم، الأمر الذي يعيق إحراز تقدم في القضايا المهمة ويضعف في نهاية المطاف الموقف الكردي في المفاوضات مع الحكومة الاتحادية العراقية.
لقد رأينا حالات تعاون فيها "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني"، فخدما المصلحة العامة الكبرى وتمكنا من التغلّب على الشدائد. عندما ظهر تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش") في العراق مثلًا، وضع الطرفان خلافاتهما جانباً وعملا بشكل استراتيجي وتعاوني، بما في ذلك في مجال تبادل المعلومات الاستخبارية، لضمان سلامة الناس داخل إقليم كردستان.
تتطلب استدامة حق الأكراد في تقرير مصيرهم في المستقبل اتباع نهج ذي شقين، أولهما حل الانقسامات السياسية الداخلية وثانيهما التصدي الاستباقي للقيود الفدرالية الجائرة. على الرغم من الجهود الجديرة بالثناء التي تبذلها البعثات الدبلوماسية المحلية لتيسير الحوار بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، يتوقف التقدم المستدام على حسن النية الحقيقية والتنازلات من الحزبين. ويشكل ظهور أحزاب جديدة تسعى إلى إخراج السياسة الكردية من نظام الحزبين بارقة أمل، ولكن يبدو أن قبضة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" على السلطة قد تبقى محكمة في المستقبل المنظور. وتؤدي هذه الدينامية إلى الحد من نفوذ الأحزاب الأخرى، بغض النظر عن أي مكاسب انتخابية.
تحتاج حكومة إقليم كردستان بشدة إلى إجراء انتخابات لاستعادة الشرعية على الجبهتين المحلية والدولية. وبدون تفويض عام، تضعف سلطتها. ومن شأن المزيد من التأخير أن يبدد أي أمل بوجود نظام برلماني فعال. لن تؤدي مقاطعة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الأخيرة للانتخابات البرلمانية بعد الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية بحل حصة مقاعد الأقليات الأحد عشر إلا إلى عرقلة مسار حكومة إقليم كردستان للحصول على التفويض السياسي الذي تشتد الحاجة إليه.
يجد "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" نفسهما أمام خيار صعب، إذ عليهما إما استئناف مشاحناتهما التي تخدم مصالحهما الذاتية وبالتالي إقحام بغداد في عمق السياسة الكردية، أو إعطاء الأولوية لشعب كردستان. ويستحق أهل المنطقة إيجاد حلول للقضايا الملحة مثل دفع الرواتب في أوانها، والحد من عدم المساواة، والسياسات الزراعية المستدامة، والنمو الاقتصادي، والتعليم. لقد انتهى وقت المناورات السياسية لأن أي خسارة أخرى تتكبدها سلطة حكومة إقليم كردستان من شأنها أن تؤدي ببساطة إلى إنهاء استقلاليتها.