- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
دفاعاً عن محمد بن سلمان
لا شك أن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، يتحمل قدراً من المسؤولية في قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي. محمد بن سلمان هو الوجه الجديد للمملكة العربية السعودية، القائد المطلق الشاب والجريء والجسور، بل المتهور أحياناً، وعلاقته بهذه الجريمة تستحق المتابعة والتمحيص.
ولكن لا بد لمن يتابع هذه القضية أن يميّز بوضوح بين الثمن السياسي، والمساءلة المعنوية الأخلاقية، والذنب الجنائي. فعلى محمد بن سلمان بالتأكيد أن يتحمّل ثمناً سياسياً هنا، ومن الصائب مساءلته معنوياً. غير أنه ما لم تظهر المعطيات التي من شأنها أن تكشف عن تورط فعلي له بالجريمة، فإنه يتوجب على الإعلام الغربي ألا يعامله بطريقة تختلف عن معاملة غيره من الذين يواجهون الشبهات جنائياً، أي أن تفترض براءته إلى حين ثبوت التهمة.
من حيث المبدأ، استدعاءات الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية والتي تقف بوجه افتراض ذنب الأمير، بما فيها تلك الصادرة عن رئيس الولايات المتحدة، لا اعتبار لها.
ولكن الإدانة التلقائية للأمير وبلاده، في إطار التأكيد على رفض تأثير هذه الشؤون العملية المادية، هي كذلك خاطئة. دون شك، ليس محمد بن سلمان أقل ذنباً لأن المملكة العربية السعودية هي شريك مهم في جوار مضطرب، ولكنه بالمقابل ليس أكثر ذنباً لتجنب شبهة مراعاة هذه الشراكة.
وقد جرى طرح العديد من الحجج والقرائن لتعزيز القول بذنب محمد بن سلمان. فالكثير من ناقديه يشيرون إلى بطشه وتهوّره في حالات عدة سابقة، وثمة من يقول بأنه قد تدرّج ليمسي حاكماً مستبداً، وأنه لا يعقل ألا تكون عملية اغتيال من حجم تلك التي ذهب ضحيتها جمال خاشقجي قد تمّت دون إرادته وإدارته. كما أن الروايات السعودية المتتالية، والتي بقيت مفتقدة للصدقية، تثير السؤال حول دور الحكم السعودي في هذه الجريمة.
محمد بن سلمان دون شك حاكم سلطوي يتحضر على ما يبدو للإمساك بزمام ملكية مطلقة. غير أنه لا بد من التنبيه إلى أن صعوده في السلطة لا سابقة له في بلاده، ولا يمكن بالتالي افتراض أنه لديه كامل التحكم والسيطرة، كما هو حال الحكام السلطويين في بلاد أخرى. فالأكيد، في قضية جمال خاشقجي أنه كان لزاماً على محمد بن سلمان أن يكون على دراية وقرار. ولكن القرائن المتوفرة لا تفيد بأنه كان كذلك.
ثم إن التوجه إلى إدانة محمد بن سلمان في قضية جمال خاشقجي يبدو مدفوعاً، جزئياً على الأقل، بالرغبة بالكشف عن النفاق في الطرح الشائع لصورة محمد بن سلمان على أنه الرجل الإصلاحي التقدمي المتنور، وهي الصورة التي أنفق لتحقيقها الأمير نفسه الأموال الطائلة. ولكن في هذا إفراط بعد التفريط، أي أن الاعتراض على الصورة الدعائية لا يتوجب المبالغة في الطعن، بل الاعتراض على الصورة لا بد أن يكون انطلاقاً من نقد هذه الصورة لذاتها.
والعديد من السياسيين والمعلقين على قضية جمال خاشقجي، في سعيهم لإثبات التهمة على ابن سلمان، قد أمعنوا بقذف السعودية من خلال استدعاء أوجه يجهد الأمير الشاب للتصدي لها، فكثر حديثهم عن المساجد والمدارس التي تمولها المملكة في أرجاء العالم، وعن المناهج التي تحبّذ الإقصاء، وعن العنف الذي يستهدف غير المسلمين، وعن اضطهاد النساء والأقليات الدينية. بل ذهب البعض، من باب الضربة القاضية، إلى التذكير باعتداء الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، وأن خمسة عشر من الإرهابيين التسعة عشر المشاركين فيه كانوا من السعوديين. كافة هذه الأقوال تندرج في سياق سردية نقدية قائمة تلقي اللوم على السعودية لمجمل الاضطرابات الأمنية والثقافية والدينية والاقتصادية والتي أصابت العالم في العقود الماضية. فالسعودية تقدم وفق هذا التصوير على أنها مملكة ظلامية من القرون الوسطى، في اختزال لواقع في منطقتها يصعب على الجمهور الغربي متابعته.
وفي حين أن النقد الذي تتعرض له المملكة غالباً ما يأتي مشحوناً بالسجاليات والمواقف الحزبية، فإنه ليس خالياً من المضمون. فمنظومة القيم في المملكة العربية السعودية متباعدة بالفعل عن نظيرتها في الولايات المتحدة، وهذا التباعد مرشح أن يستمر في المستقبل. غير أن اغتيال صحافي مرموق وتقطيع جثته لا ينسجم مع منظومة القيم لا هنا ولا هناك. والسعي إلى الطعن بالسعودية، كثقافة وكمجتمع، بناءاً على هذا الفعل الشنيع هو إساءة غير مبررة لمنظومة القيم السعودية.
وكذلك حال التلميحات والتصريحات بشأن اعتداءات الحادي عشر من أيلول، إذ محاولة الربط بينها وبين السعودية يجهل أو يتجاهل واقع أن اختيار جنسية المشاركين جاء في إطار مسعى صريح لتنظيم القاعدة بضرب العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة. فإما أن في هذا الربط سوء نية متعمدة، أو أنه جهل لواقع حال السعودية وتطورها السياسي والاجتماعي في الأعوام السبعة عشر الماضية.
محمد بن سلمان ليس وحيداً في السعي إلى تشكيل نموذج اجتماعي وثقافي جديد للسعودية. فالتأييد الذي يناله في أوساط واسعة في مجتمعه يعكس رغبة عامة دفينة في تجاوز التشدد الديني الذي أنهك المملكة. فالمفارقة لدى من يعلن ثبوت الذنب عليه هو أنه غالباً ما يدرج ذلك تعسفاً في إطار إدانة المنظومة الدينية الاجتماعية التي سعى الأمير الشاب إلى تفكيكها بتأييد شعبي واسع.
لا يمكن بالتأكيد نفي احتمال أن يكون محمد بن سلمان ضالعاً في اغتيال جمال خاشقجي. على أنه لا بد كذلك من النظر في احتمالات قد تكون أكثر معقولية إلى أن يبين التحقيق الجنائي الحقائق. فالأمير الشاب، لتمتين موقعه في السلطة، قد اعتمد بالفعل عدد من المساعدين الذين أبدوا في أكثر من موقع سلوكاً يطرح علامات الاستفهام، في الفضاء المعلوماتي كما في الواقع الفعلي. بعضهم تباهى بأنه في موقع الأمر والنهي، وبعضهم جاهر بسلطانه في الشؤون الرياضية والإعلامية على منصات التواصل الاجتماعي. بل بعض هذا السلوك انحدر إلى الممارسات الفعلية غير المشروعة وغير الأخلاقية، من قرصنة شبكات رياضية قطرية إلى ضرب زوجة سابقة في شوارع القاهرة.
من المعقول بالتالي التصور كيف أن طلب استقطاب أو حتى استجلاب بحق جمال خاشقجي، الصحافي المنشق، قد تحول عبر الطيش والمبالغة إلى الجريمة الفظيعة وغير المنطقية التي أودت بحياته. وليس من الصعب كذلك تصور حالة الفوضى والإرباك في الرياض خلال السعي إلى احتواء الحادثة من طرف إداريين محرجين ومفتقدين للوضوح في سعيهم إلى تطويق الكارثة.
محمد بن سلمان أظهر جنوحاً إلى الخطوات غير المدروسة، بل المتهورة، في أكثر من مناسبة، من الحرب في اليمن إلى الأزمة الخليجية، مروراً باحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وإرغامه على الاستقالة، والقبض على الأمراء والمتمولين السعوديين وحبسهم في فندق الريتز-كارلتون. ولكن ما جرى في القنصلية السعودية في إسطنبول، من حيث قدوم فريق اغتيال كبير تحت رقابة أجهزة مخابرات دولة على تنافر مع المملكة، هي تركيا، ليس بمصاف الأمور غير المدروسة، بل يتجاوزه بدرجات. والإضافة إلى الوحشية التي ينطوي عليها هذا الفعل المجرم الطائش، فإنه يأتي ليناقض مصالح محمد بن سلمان، ولا سيما لاقتراب موعد الحدث الأبرز المؤسس لرؤيته، أي مؤتمر الاستثمار «داڤوس في الصحراء». كما أنه من الغريب اعتبار أن محمد بن سلمان انتظر أن يتغاضى المجتمع الدولي عن جريمة بهذا الحجم يمكن إرجاعها بهذه السهولة إلى الحكومة السعودية. طبعاً، هذا الكلام لا يبرّئ محمد بن سلمان، ولكنه يدعو إلى التروي في استعراض وتقييم السيناريوهات المحتملة.
والواقع أن قضية جمال خاشقجي، لمن كان لتوّه يعارض السعودية وينتقدها، هي مادة إضافية وإن لم تكن الدليل القطعي على أن المملكة هي عامل شر وفساد وحكامها أهل ضرر. وفي المقابل، هذه القضية لمن يرى وجوب الاستمرار بعلاقة متينة بين الولايات المتحدة والسعودية، وإن تطلبت بعض الإجراءات العقابية، فإنه لا يجوز أن تفسد العلاقة، ما لم يبرز الدليل الدامغ على تورط القيادة السعودية شخصياً بالجريمة.
ومع استمرار الاحتمال الأقوى بأن لا دليل قطعياً سوف يظهر لإثبات الأمر على محمد بن سلمان، فإن الأمير ولي العهد يستحق افتراض البراءة، كما يستحق أن تنسجم النظرة إليه مع ما أظهره هو على مدى المرحلة الماضية: أنه حاكم سلطوي، ذو قدرة على الاستقطاب، ميّال للتجاوزات، ولكنه مدفوع أولاً بطموح ورؤيا، وقدر من الحس السليم.