- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
دعم الولايات المتحدة لـ "قوات الأمن الفلسطينية" وسياسة الخلافة
منذ طرح "خارطة طريق" السلام من قبل "اللجنة الرباعية الدولية" في عام 2002، خصصت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الأطراف موارد كبيرة لبناء قطاع أمني فلسطيني مهني. وقد ركز النهج المنصوص عليه في "خارطة الطريق" على تعزيز "قوات الأمن الفلسطينية" من خلال توفير التدريب والمعدات، فضلاً عن إنشاء هيكلية مهنية غير مسيسة تعمل هذه القوات في إطارها. ومع مرور الوقت، وبالدعم الهام الذي قدمته الولايات المتحدة، أصبحت "قوات الأمن الفلسطينية" قادرة على أداء مهامها الأمنية بشكل مهني في الضفة الغربية. بيد، إن الجهود المبذولة لعزل "قوات الأمن الفلسطينية" عن السياسة لم تحقق نفس القدر من النجاح.
وبينما تلوح خلافة القيادة الفلسطينية في الأفق، وفي ظل غياب آلية واضحة لضمان عملية انتقالية سلسة، فإن الجمع بين السياسة وفاعلية "قوات الأمن الفلسطينية" يهدد بخسارة الاستثمار الدولي الذي دام عقد من الزمن أو أكثر. وإذا لم يُشرِك المانحون الدوليون القادة الفلسطينيين لإزالة الغموض المحيط بموضوع الخلافة، قد تتورط "قوات الأمن الفلسطينية" في عملية الانتقال السياسي إما بسبب هيكلية عملية الخلافة التي تشوبها الفوضى أو انتهازية بعض قادة الأجهزة الأمنية.
بناء قوة مهنية
تهدف الإصلاحات الأمنية لـ "خارطة الطريق" التي طرحتها "اللجنة الرباعية الدولية"، والتي تم إدراجها في وقت لاحق في "القانون الأساسي الفلسطيني"، إلى زيادة قدرة "قوات الأمن الفلسطينية" ومهنيتها. وقد تم إلقاء هذه المهمة على عاتق "مكتب التنسيق الأمني الأمريكي"، برئاسة ضابط أمريكي يحمل ثلاث نجوم. وبالتالي قاد "مكتب التنسيق" الجهود التي بُذلت على مدى أكثر من عقد من الزمن لتدريب "القوات الفلسطينية" وتجهيزها للحفاظ على القانون والنظام في الأراضي الفلسطينية ومنع شن هجمات إرهابية ضد إسرائيل. إذ تلقت "قوات الأمن الفلسطينية" تدريباً تتعدى قيمته 400 مليون دولار من الولايات المتحدة، فضلاً عن مبلغ إضافي قدره 35 مليون دولار طُلب لعام 2017. وعلى مر السنين، ومع زيادة فعالية هذه "القوات"، مَنعت المؤامرات الإرهابية التي تُشن من الضفة الغربية، كما حسّنت من قدرات الشرطة لديها. وتشهد رغبة مسؤولي الأمن الإسرائيليين بالتفكير في التخلي عن عمليات "المنطقة (أ)" لصالح "قوات الأمن الفلسطينية" على أداء هذه "القوات".
بيد أن المحاولات الدولية لتجريد "قوات الأمن الفلسطينية" من الطابع السياسي كانت أقل نجاحاً. فعلى الرغم من أن "خارطة الطريق" حولت في البداية عملية السيطرة على هذه "القوات" إلى «وزير داخلية مخوّل بذلك» يعمل تحت سلطة رئيس وزراء من التكنوقراط، استعاد الرئيس الفلسطيني محمود عباس السيطرة عليها بصورة تدريجية. هذا ولا تزال السلطة الفلسطينية من دون وزير داخلية معيّن، فيما يرفع قادة "قوات الأمن الفلسطينية" التقارير مباشرة إلى عباس. ولربما كان من الممكن تفادي هذا التآكل في الإصلاحات الأمنية لو أن الولايات المتحدة والمسؤولين الدوليين واجهوا الأمر بضغوط على مستوى عال.
"قوات الأمن الفلسطينية" والخلافة
في الوقت الحالي، يلوح في الأفق موضوع الخلافة لجميع الجهات السياسية الفلسطينية الفاعلة. فقد بلغ عباس سن الثمانين من دون وجود خليفة واضح له ومن دون عملية مشروعة لاختيار خلف مناسب. وفي الأشهر الأخيرة، واصل عباس تجميع القوة وفرض المركزية على مؤسسات السلطة الفلسطينية تحت سيطرته، الأمر الذي يتناقض تماماً مع ما هو ضروري لتمكين مرشحين محتملين. وفي ظل غياب عملية خلافة واضحة، فإن رحيل عباس يمكن أن يسبب صراعاً سياسياً مطولاً من شأنه أن يشل حوكمة السلطة الفلسطينية أو يؤدي إلى وقوع اشتباكات فعلية أخرى بين الفصائل والتي من شأنها أن تقوض استقرار الضفة الغربية.
وستلعب "قوات الأمن الفلسطينية" دوراً حاسماً في أي عملية خلافة. فباعتبارها واحدة من مؤسسات السلطة الفلسطينية القليلة الفاعلة، والتي تمتلك الأسلحة، ستتاح أمامها فرصة فرض الاستقرار على الإجراءات أو زعزعته. ومع ظهور خطة انتقالية واضحة والالتزام بالبقاء بمنأى عن السياسة، يمكن لـ "قوات الأمن الفلسطينية" الإشراف على عملية تسليم السلطة إلى بديل/ بدلاء لعباس. لكن حتى في ظل هذه الخطة الواضحة، قد يُرشح بعض قادة "قوات الأمن الفلسطينية" أنفسهم من أجل الفوز بالسلطة، ولكن وجود هيكلية محددة من شأنها أن تمكّن الجهات الدولية والنظام السياسي الفلسطيني من الحد من مثل هذه الطموحات الشخصية بسهولة أكبر.
لكن في ظل غياب أي خطة حتى الآن، فإن قادة "قوات الأمن الفلسطينية" سيجدون أنفسهم عالقين وسط خيارات سيئة عندما تبدأ العملية الانتقالية. وفي حين قد يبقى القادة غير السياسيين لـ "قوات الأمن الفلسطينية" في الخلفية، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما الذي سيحصل إذا تصادمت مظاهرات دعم أحد المرشحين مع بلطجية مرشح آخر؟ وما الذي سيحصل لو اشتبكت الميليشيات المتنافسة للمرشحين مع بعضها البعض؟ عندئذ ستكافح "قوات الأمن الفلسطينية" من أجل الاستجابة بشكل متسق على مثل هذه الأحداث.
وفي الواقع، يمكن لـ "قوات الأمن الفلسطينية" إعادة فرض القانون والنظام من دون الوقوف مع أحد الجانبين، ولكنها ستتصرف بموجب سلطتها الذاتية، نظراً إلى الغياب المفاجئ لحكومة سلطة فلسطينية مشروعة. ويمكن أن تدّعي "القوات" بأنها تعمل نيابة عن الشعب، لكن هذا التبرير سيكون سياسياً بطبيعته. ومثل هذا السيناريو، قد يضع "قوات الأمن الفلسطينية" على منحدر زلق يؤدي إلى وقوع انقلاب أو قيام حكومة عسكرية تسيطر على الضفة الغربية، إلى أن يكون من الممكن استعادة الحكم المدني كما يُفترض. ومن دون وجود خطة خلافة أو قيادة للسلطة الفلسطينية لتحديد المجال السياسي، فإن أي إجراء تقوم به "قوات الأمن الفلسطينية" من شأنه أن يتخذ معنى سياسياً.
ولكن بغض النظر عن ذلك، فإن الفراغ في القيادة قد يغري قادة "قوات الأمن الفلسطينية". فالشعور بوجود مجال واسع لخلافة عباس قد يدفع بالبعض إلى إدراج أنفسهم، ووحداتهم الأمنية، ضمن التنافس على المنصب كمرشحين أو كداعمين لآخرين. فكما اقتُرح بالفعل، إن ذلك قد يحث على قيام منافسة مفتوحة، وعنيفة في النهاية، بين الأجهزة الأمنية المختلفة. وفي كلتا الحالتين، ستكون الجهود التي بذلها المجتمع الدولي على مدى عشر سنوات لبناء قوة أمنية غير سياسية قد باءت بالفشل.
حشد كامل من "اللجنة الرباعية الدولية"
يمكن لصناع السياسة الأمريكيين دفع عباس إلى تجنب السيناريوهات المحتملة الأكثر قتامة المذكورة أعلاه من خلال إرساء أسس الخلافة في الوقت الحالي. إذ إن صياغة عملية مشروعة ستعطي "قوات الأمن الفلسطينية" دوراً واضحاً تضطلع به وتتجنب تقديم خيارات مستحيلة لقياداتها. فإحياء الحياة السياسية الفلسطينية بطريقة من شأنها أن تسمح للطامحين إلى الرئاسة بأن يبدؤوا بالبروز سيوضّح الوضع الذي سيعقب [فترة رئاسة] عباس وسيمنع المناورات التي قد تخرج عن نطاق السيطرة. كما يمكن لهذه الخطوات أن تحدد المجال السياسي وتفوّض السلطة السياسية في المرحلة التي تلي [رئاسة] عباس. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على المجتمع الدولي الضغط على عباس لكي يعمل على تجريد "قوات الأمن الفلسطينية" من الطابع السياسي من خلال تعيين وزير داخلية وتمكينه للإشراف على هذه "القوات". إن المفهوم الواضح لما هو سياسي يشكل شرطاً أساسياً لضمان عمل "قوات الأمن الفلسطينية" بعيداً عن السياسة.
وستبرز الحاجة إلى إيلاء اهتمام رفيع المستوى من قبل واشنطن، بالتنسيق مع أعضاء "اللجنة الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط" وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية، من أجل دفع عباس إلى اتخاذ هذه الخطوات. فعلى الرغم من أنه بإمكان ممثلي الولايات المتحدة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية دفع نظرائهم إلى الانخراط في المسائل المتعلقة بمهنية "قوات الأمن الفلسطينية"، فإن تحريك عباس لكي يعمل على توضيح موضوع الخلافة وإعادة "قوات الأمن الفلسطينية" إلى السيطرة غير السياسية سيتطلب مشاركة على مستوى أعلى. وتعكس هذه الخطوات المصالح الأمريكية. وقد خصصت الولايات المتحدة مجموعة من الضباط من ذوي ثلاث نجوم وملايين الدولارات من أجل تدريب "قوات الأمن الفلسطينية" لأكثر من عقد من الزمن، ولقيت نجاحاً ملحوظاً. وبالتالي يمكن ترسيخ هذا النجاح بدلاً من ضياعه من خلال مساعدة الفلسطينيين على بناء عملية لاختيار زعيمهم المقبل ومن خلال التحديد بين مجال الأمن وعالم السياسة بشكل واضح.
غيث العمري هو زميل أقدم في "برنامج ايروين ليفي فاميلي" حول العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل في معهد واشنطن. ميتشل هوخبرغ باحث مشارك في معهد واشنطن.
"ذي هيل"