- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
دروسٌ لا يزال على إسرائيل تعلّمها من أرئيل شارون
مع اقتراب موعد توجّه الإسرائيليين إلى صناديق الاقتراع في 17 أيلول/سبتمبر، يجدر تذكّر رئيس "حزب الليكود" السابق أرئيل شارون والقرارات التي اتخذها بشأن القضية الفلسطينية. شارون الذي شغل منصب رئيس الوزراء الحادي عشر في إسرائيل كان رجلاً كبيراً، ليس في بنيته فحسب بل في تفكيره أيضاً.
واستناداً إلى ما كتبه نير حيفيتس وغادي بلوم في كتباهما عن شارون "أرئيل شارون: حياة [زعيم]" (Ariel Sharon: A Life)، تولّى شارون في مطلع الخمسينات قيادة «الوحدة 101» في "جيش الدفاع الإسرائيلي" التي سعت إلى ردع الأعمال الإرهابية في إسرائيل عبر شن هجمات مثيرة للجدل على الدول العربية. ويقول أحد جنود هذه الوحدة ويدعى شمعون كنانير: "حين التحقت بالوحدة في بداية المطاف والتقيت بأريك، لم أجد فيه أي شيءٍ مميز. ولكن بعد أن أمضيت معه أسبوعاً واحداً، اتضّح لي ولسائر عناصر «الوحدة 101» أنه سيغيّر مجرى التاريخ".
اعْتبَرَ شارون نفسه رجل قدر. فخلال حرب الاستقلال، نجا بطريقة ما في معركة اللطرون حيث كان من الممكن أن يموت بسهولة. وقال شارون لاحقاً إنّ معركة اللطرون وصمته وأنقذت حياته من أجل هدفٍ أسمى.
لقد كان شارون محارباً لامعاً اضطلع بدور قيادي في "حرب الأيام الستة" ويعتبر مسؤولاً أكثر من أي شخص آخر عن تغيير مجرى حرب 1973. بعد ذلك، ساهم شارون في تشكيل "حزب الليكود" حين اختار خوض غمار السياسة، ولكنه أُرغم على التنحي من منصبه في وزارة الدفاع عام 1983 عندما أقدمت الميليشيا المسيحية اللبنانية على قتل النساء والأطفال في مخيمَي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين. فقد سمح "جيش الدفاع الإسرائيلي" آنذاك للميليشيا بدخول المخيمَيْن، فحمّلت "لجنة كاهان" شارون مسؤولية هذا الإغفال. وقال شارون لاحقاً بهذا الصدد، فقط في إسرائيل يمكن إرغام وزير دفاع يهودي على التنحي من منصبه بسبب ما فعله المسيحيون بالمسلمين.
وصحيحٌ أنه أُجبر على التنحي من مصبه كوزير للدفاع، لكنه بقي وزيراً في الحكومات التي توالت على البلاد خلال الثمانينات وأوائل التسعينات. وبعد فشل قمة "كامب ديفيد" وبدء الانتفاضة الثانية، انتُخب شارون رئيساً للوزراء في شباط/فبراير 2001، وأعلن، كرئيس للوزراء، أنه سيُنهي الانتفاضة ويحقق السلام. فأرسل "الجيش الإسرائيلي" إلى مدن الضفة الغربية لتدمير البنى التحتية للإرهاب، ولكنه اتخذ أيضاً قراراً بالانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة في عام 2005. وبما أن قرارات شارون نبعت جزئياً عن بعض العوامل نفسها التي واجهتها الحكومة الإسرائيلية التالية، من المهم أن نفهم مَن كان شارون وما الذي دفعه للقيام بما قام به.
كان شارون رجل تناقضات: فطوال سيرته المهنية، لم يكن باستطاعة رؤسائه الاعتماد على ولائه، لكنه كان مخلصاً بلا كلل للذين خدموا تحت قيادته - وكان هؤلاء يكنّون له كل الاحترام. وكما كتب شارون في سيرته الذاتية عام 1990، إنه لم "يثق" بالعرب، ومع ذلك كان يوظّف دائماً عمّالاً عرباً في مزرعته، ويتشارك معهم وجبات الطعام في منزله.
لم يكن يرحم في انتقاده الزعماء الإسرائيليين على قلة صرامتهم بوجه الإرهاب الفلسطيني، ولكن حين وقع التفجير الانتحاري في ملهى "دولفيناريوم" بتل أبيب وأودى بحياة العديد من المراهقين، أعلن شارون آنذاك كرئيس الوزراء أنّ "في ضبط النفس قوةٌ أيضاً"، كما كتب ديفيد لانداو في كتابه "أريك: حياة أرئيل شارون".
وخلال مفاوضات "واي ريفر" في عام 1998، رفض مصافحة ياسر عرفات، ولكن بعد مدة وجيزة على توليه رئاسة الوزراء، قام بإرسال ابنه سرّاً للقاء الزعيم الفلسطيني وأوعز إليه بالتصرف بلياقة ومعاملته باحترام.
وكما أشرنا في كتابنا، كان شارون هو المحرّك الرئيسي وراء بناء المستوطنات في المناطق التي استولت عليها إسرائيل في حرب عام 1967، حيث أعلن أن التخلي عن أي أرضٍ مسلوبة من العرب سيشكل دلالة على ضعف إسرائيل. ولكن فيما بعد، كان هو الزعيم الإسرائيلي الذي قام بالفعل بتفكيك المستوطنات في سيناء وغزة، وأول زعيم إسرائيلي تبنّى علناً قيام دولة فلسطينية هناك وفي الضفة الغربية.
وعمل شارون أيضاً على ضمان [أن تكون إسرائيل] دولة يهودية حتى وإن كان ذلك على حساب الانفصال عن حزب "الليكود" الذي أسسه بنفسه. فقد كان مستعداً لعمل ما يجب القيام به، بغض النظر عن التكلفة السياسية. وجميع العوامل التي دفعته للاعتقاد بأن عليه التصرف للحفاظ على ما هو مهم لإسرائيل، رسّخت أيضاً وجهة نظره القائلة بأنه الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك.
ويعتبر شارون أن اتخاذ قرار ما والتصرف على أساسه يجسدان ميزةً مطلوبة من القادة، وهي أن القادة يتحملون المسؤولية. ويجب على القادة أن يكونوا مستعدين للتصرف بمفردهم.
وفي نواح كثيرة، رأى شارون أن الزعامة هي دعوته في الحياة. وقد أمضى حياته المهنية جاهداً للوصول إلى مكانٍ يكون فيه صاحب القرارات المصيرية لإسرائيل. وخاض هذه اللعبة بقساوة، حيث أطاح بالمعارضة وبمؤيديه السابقين. ولكنه لم يفشل قط في إثبات نفسه بوجه التحديات وإنجاز المهمة. ولعل الآخرين لا يملكون ما يتطلب من القادة لاتخاذ قرارات كبيرة، ولكن بالنسبة له كان ذلك يعني ببساطة أنهم ليسوا مؤهلين لتولي القيادة.
وهناك عوامل كثيرة دفعت شارون إلى اتخاذ قرار الانسحاب من غزة، أوّلها أنه كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن على إسرائيل أن تأخذ دائماً زمام المبادرة وألا يتم التأثير عليها أو إرغامها على الرد. وكان يعتبر أنه من الضروري تجنب محاصرة إسرائيل وتضييق الخناق عليها.
وفي هذا السياق يقول دوف وايزغلاس الذي كان مستشاراً خاصاً لشارون، إن شارون أصبح مقتنعاً، انطلاقاً من المحادثات مع وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندوليزا رايس، بأن المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، لن يقبل بحالة جمود متداعية، وأنه ستُفرض مبادرة ما على إسرائيل إذا لم تتحرك بنفسها.
والعامل الثاني هو أنه كان منزعجاً بشدة من اضطرار الجنود الإسرائيليين بالقيام بمهام ضد الفلسطينيين مخصصة للشرطة أصلاً، لا سيما حين أعرب جنود الاحتياط في نخبة المغاوير وسلاح الجو عن عدم استعدادهم للقيام بعمليات في الضفة الغربية وقطاع غزة.
والعامل الثالث هو قلقه الناتج عن الاتجاهات الديمغرافية بأن إسرائيل قد تخسر أغلبيتها اليهودية أو طابعها الديمقراطي إذا لم تنسحب [من أراضي احتلتها بعد حرب عام 1967]. وكان شارون يعتزم ضمان بناء دولة يهودية، حتى وإن أدى ذلك إلى الانشقاق عن حزبه.
ولم يكن شارون صاحب مبدأ إيديولوجي راسخ، بل كان شخصاً عملياً وواقعياً، يتأقلم مع تغيّر الظروف.
وفي نظره، كان الدافع لبناء المستوطنات هو الاحتياجات الأمنية والطوبوغرافية التي تظل قائمة طالما أن إسرائيل تواجه تهديدات عسكرية تقليدية من الدول المجاورة. وحين تأتي المخاطر غير المتناظرة من التنظيمات الإرهابية لتحل محل تلك التهديدات، تصبح الاحتياجات السياسية لإسرائيل على الصعيد الدولي أكثر أهميةً. من هنا، تعامل مع ما كان يعتبره ضرورياً للدولة، ولا شيء قد يمنعه من تحقيق ذلك.
واليوم تواجه إسرائيل خياراً مصيرياً يلوح في الأفق. إذ تعيش نسبةٌ تزيد قليلاً عن ثلاثة أرباع المستوطنين الإسرائيليين في حوالي خمسة في المائة من الضفة الغربية على أراضٍ هي الأقرب إلى خطوط 4 حزيران/يونيو 1967. وإذا استمرت إسرائيل بأعمال البناء خارج التجمعات الاستيطانية، فقد يؤدي ذلك قريباً إلى فقدان قدرتها على الانفصال عن الفلسطينيين. ولمواجهة هذا التحدي، تحتاج إسرائيل إلى زعيم يرتقي إلى مستوى الحدث - ويدرك المخاطر وليس فقط تكلفة العمل، بل تكلفة التقاعس عن العمل أيضاً.
وبما أن الفلسطينيين منقسمون اليوم ما بين حركة «فتح» والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة «حماس» في غزة، فمن المستحيل في هذه المرحلة [التوصل إلى حل] قائم على دولتين، في حين أن مسألة البناء خارج التجمعات الاستيطانية لا تطرح مشكلة في الانتخابات الإسرائيلية. ولكن الطرف الذي سيفوز في هذه الانتخابات ويشكّل حكومة سيواجه واقعاً مفاده أن خيار الانفصال قد يصبح قريباً مفقوداً ما لم يتم اتخاذ قرار بهذا الشأن، على أن يكون قراراً سياسياً جريئاً، نظراً لحجم الحركة الاستيطانية في إسرائيل.
ديفيد ماكوفسكي هو زميل "زيغلر" المميز ومدير "برنامج العلاقات العربية - الإسرائيلية" في معهد واشنطن، والمؤلف المشارك مع دينس روس للكتاب الجديد بعنوان، "كن قوياً وذو شجاعة جيدة: كيف عمل قادة إسرائيل الأكثر أهمية على تحديد مصيرها" (PublicAffairs/Hachette). وتم نشر هذا المقال في الأصل من على موقع JTA.
"جويش تيليغرافيك إيجنسي"