- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
دور العشائر السورية: رهانات على أحصنة خاسرة
توصف مجتمعات المناطق الشمالية الشرقية في سورية، بأنها "مجتمعات ذات بنية عشائرية"، حيث يسكنها عدد كبير من العشائر العربية، التي لها امتدادات تتجاوز حدود الإقليم، لتشمل الأردن والعراق ودول الخليج عامة. ومع ذلك، ركزت معظم الأبحاث التي أجريت حتى الآن على الانتفاضة السورية على العنصر الطائفي للنزاع، متناسين أن هناك بعدًا قبليًا للنزاع، حيث بدأت شرارة الثورة السورية في درعا، وهي منطقة قبلية في الغالب. وفى الوقت الذي تسببت فيه الثورة السورية في تفتيت البنية التحتية لمجتمع العشائر العربية التي تتبع في غالبيتها المذهب الإسلامي السني، إلا أنها مثَّلت فرصة لعشائر الأقليات والديانات الأخرى، مثل العشائر الكردية والتركمانية والعلوية والدرزية والمسيحية، لإعادة حضورهم في المشهد العام.
الآن، وفى الوقت الذي بدأ فيه صانعو السياسة في فحص ودراسة الولاءات القبلية، فمن المهم أن ندرك أنه على الرغم من الدور الرئيسي الذي لعبته القبائل في الصراع السوري في وقت سابق، فإن هذه الحرب نفسها قد أدت إلى تآكل سلطة تلك العشائر إلى درجة أنه لا ينبغي التعويل عليهم كوسطاء سياسيين فعالين. في سوريا.
لعبت العشائر السورية دورا اجتماعيا وسياسيا أساسيا في المشهد السوري، ففي فترة الحكم العثماني لسوريا تم دعم دور العشائر في إدارة المناطق، ومنح زعماء العشائر ألقابا ودعما ماليا، وتم إمدادهم بالسلاح، وذلك لتمتين سيطرة الإدارة المركزية، وضمان توفير إمدادات بشرية لرفد القطعات العسكرية. وخلال فترة حكم فرنسا لسورية (1920-1946)، تراجع دور العشائر في إدارة مناطق نفوذهم، ليستمر خلال فترة الاستقلال حيث شهدنا تقلص عدد ممثلي العشائر في المجلس النيابي (البرلمان) من 9 إلى 6 نواب، ليبلغ ذروته في فترة حكم عبد الناصر (1958-1961)، حيث ألغى "قانون العشائر" الذي كان معمولاً به، والذي قام الاحتلال الفرنسي بسنه عام 1940 لمنح تلك العشائر بعض الامتيازات الانتخابية والاقتصادية، بغية كسب دعمهم واعترافهم الانتداب الفرنسي.
وحين استلم حافظ الأسد السلطة عام 1970 اعتمد على نهج مختلف إلى حد ما في التعامل مع العشائر، ففي الوقت الذي قام فيه بتهميش دور الزعامات التقليدية في الحياة السياسية والاجتماعية، عمل الأسد على استبدال تلك القيادات بأفراد ليس لهم أهمية حيث كلفهم بمناصب في عدد من المؤسسات الأمنية والمدنية مثل وزارة الداخلية والزارعة، والمكاتب التابعة للرئاسة، وذلك لضمان كسب دعمهم لأسرة الأسد. كما ارتفع التمثيل القبلي في البرلمان السوري ليصل إلى 12 %، حيث ينتمي اليوم 30 من أصل 250 "منتخبا" من أعضاء البرلمان إلى القبائل العربية.
ومن ثم، عمل حافظ الابن على الاستعانة بالقبائل لمنع انفجار الاضطرابات في سوريا خلال الربيع العربي، فعندما زار بشار الأسد مدينة الرقة في يونيو 2011، عقد اجتماعاً جانبياً مع بعض الشيوخ والشخصيات العشائرية في المنطقة، دعاهم فيه إلى الوقوف معه في مواجهة المنادين بإسقاط نظامه، مرفقاً ذلك بوعود من أجل تقديم كل أشكال الدعم التي يطلبونها، إلا أن تسارع الأحداث، آنذاك، والتي انتهت إلى إعلان تحرير الرقة كأول محافظة سورية خرجت عن سيطرة نظام الأسد، ذهب بدعوته أدراج الرياح.
وبعد هذه زيارة الأسد لمدينة الرقة، برز اهتمام القوى السياسية والعسكرية، التي أصبحت فاعلة في المشهد السوري بالعشائر، حيث تم الإعلان عن ظهور تجمعات عشائرية عدة، أعلن كل منها انحيازه وتعبيره عن مطالب الجهة السياسية، التي وقفت وراء ظهوره، وقدمت له الدعم المالي، ووفرت لفصائله العسكرية التي تتبعه وتأتمر بأمره السلاح اللازم.
وبعد سيطرة تنظيم "داعش" على عدة مناطق كان قد احتلها في سوريا، أعلن التنظيم عن تأسيس مكتب خصصه لأمور العشائر (مكتب العلاقات العامة)، كانت مهمته الأساسية المساهمة في نشر رسائل وقرارات التنظيم، وتقديم العون له في تجنيد الشباب للقتال في صفوفه. وقد عقد لهذه الغاية اجتماعات عدة مع عشائر المنطقة، طالباً مبايعتها، وحضها على القتال إلى جانبه بعد خسائره الكبيرة، وتوفير احتياجه إلى العناصر المقاتلة نتيجة "قلة المنتسبين الجدد إليه، وتراجع توافد المقاتلين الأجانب".
ومع بدء هزيمة تنظيم الدولة، وسيطرة قوات سورية الديمقراطية على المناطق التي كان يسيطر عليها، دعا أحمد الجربا، رئيس تيار الغد السوري، في أيلول 2017 إلى لقاء تشاوري بيم العشائر عقد في القاهرة، انبثق عنه المجلس العربي للجزيرة ذو الصبغة العشائرية ببعض الناشطين المدنيين، وذلك بالتوازي مع إعلان بن عمه حميدي دهام الجربا عن تشكيل "قوات الصناديد"، و ضمت عناصر من قبيلة شمر التي ينتميان إليها، بقصد محاربة تنظيم "داعش" .وقد حظيت هذه القوات بدعم من التحالف الدولي ، فيما حظي "المجلس العربي للجزيرة" بدعم سعودي/إماراتي. كذلك قامت المجالس "المدنية" التابعة لقوات سوريا الديمقراطية بإنشاء ما أسمته ب "مجلس صلح العشائر"، وقدمت له الدعم المالي، ليقوم بالترويج لمشروعها العسكري والسياسي.
عمل النظام السوري باستمرار على كسب دعم العشائر التي تقع في نطاق نفوذه، حيث أعلن النظام السوري أواخر شهر كانون الثاني الماضي، عن عقد اجتماع عشائري في منطقة أثريا (125 كم جنوب مدينة الرقة)، وقد حضر هذا الاجتماع المئات من الشخصيات العشائرية، المساندين للنظام، والذين يعيشون في مناطق سيطرته، إضافة لحضور بعض الشخصيات العشائرية العراقية المعروفة بولائها لإيران. وقد خرج الاجتماع ببيان مطول عكس خطاب النظام ورؤيته وسياسته في المحافظات الشرقية السورية.
ونظرا لإدراك تركيا بأهمية الدور الذي تعبه العشائر في المشهد السوري الحالي، دعت تركيا - في الفترة نفسها- إلى اجتماع آخر للعشائر السورية في منطقة اعزاز الحدودية، تلاه اجتماع في منطقة سجو، حضره نحو 150 شخصية عشائرية إضافة لرئيس الائتلاف المعارض، وانتهى إلى الإعلان عن تشكيل المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، ومجلس الأعيان (150 شخصية). وقد اكد شيوخ العشار في البيان الختامي للقاء على الالتزام "بثوابت" الثورة السورية .كما أعربت القبائل والعشائر خلال المؤتمر عن دعمها للعملية العسكرية التركية المرتقبة ضد قوات سوريا الديمقراطية شرق الفرات.
النتيجة المشتركة للتفتت العشائري
ومن الملاحظ هنا انه على الرغم من أن هذه التجمعات العشائرية، تدين بالولاء لجهات متصارعة ومتناقضة في أهدافها، فإنها تتلاقى في نقاط عدة، من أبرزها أن تلك العشائر عانت من تفتيت بنتيها التحتية على يد النظام السوري حيث عمل نظام الأسد على إبعاد الزعامات العشائرية التقليدية التي كانت قائمة، واستبدالها بأشخاص من الدرجات الدنيا في التراتبية العشائرية. ونتيجة لجالة التمزق العشائري هذه، وكما هو حال كل السوريين لم يعد هناك أمكنة تجمع أبناء العشيرة الواحدة.
ومع توزع أبناء العشائر في أصقاع الأرض لاجئين ونازحين، موزعين في ولاءاتهم، وأصبحنا أمام واقع جديد، حيث تجد أبناء العشيرة الواحدة، وأحيانا العائلة الواحدة، موزعين في موالاتهم بين النظام والمعارضة والدول المتصارعة في الساحة السورية. ومن ثم، تُعدّ هذه الميوعة في الولاءات سمة أخرى يعتبرها العديد من الأبحاث جزءا من ثقافة العشائر.
إضافة إلى ذلك، فقدت الزعمات العشائرية مصداقيها ين قطاع كبير من السوريين، حيث انحاز قسم كبير منها للنظام، وقام بعضهم بمشاركة الأجهزة الأمنية في قمع المعارضين، وعلى الطرف الآخر فإن الذين انحازوا للمعارضة من هذه الزعامات، لم يستطيعوا تجميع أبناء عشائرهم، وتقديم العون لهم، بل إن قسماً منهم شارك في خلق الفساد، الذي أصبح السمة الأبرز للمعارضة السورية. كما يتم استغلال تلك العشائر من قبل الأطراف المتنازعة في سوريا وتنشيطها إعلاميا فقط وقت الحاجة إليها، مما يجعل وعودها في التغيير "حبراً على ورق"، ويفقدها ثقة المحيطين بها، بل والمشاركين فيها.
ونتيجة تلك التطورات، يبدو أن الرهان على دور إيجابي فعّال ل " العشائر السورية" في الصراع الجاري في سوريا، أشبه بالحرث في الماء، ويلاحظ المتابع أن ازدياد وتيرة البحث عن دور عشائري مساند للقوى الفاعلة في الساحة السورية، يتزامن مع فشل هذه القوى في إيجاد حلول مقنعة للازمة السورية، وعدم قدرتها على تحقيق وعودها في إنجاز الهدف الرئيسي الموعود وهو الخلاص من نظام الأسد وبناء مجتمع الكرامة والحرية المدنية والديمقراطية. من هنا، يبدو للكثير من السوريين، أنه من الأجدى للإدارة الأمريكية، في تعاملها مع الملف السوري، الالتفات إلى التجمعات المدنية، وتقديم الدعم بأنواعه لها، بعيداً عن انتماءات أفرادها العشائرية، وبعيدا عن العناصر القبلية غير المؤثرة وهذا يساعد على عودة الاستقرار بعد التخلص من سيطرة تنظيم: داعش" الخلاص الذي أصبح منجزاً من تنظيم الدولة الإسلامية.