هذه الصورة عن ردّات الفعل تُحتم على القيادة في واشنطن التركيز على زيادة الالتزام بدعم الحلفاء ومُعاقبة الأعداء.
في حين كان جميع السوريون يراقبون الانتخابات الأمريكية عن كثب إلا أن وجهة نظرهم لم تكن مُتماثلة وواحدة عند المفاضلة بين ترامب وبايدن، كل حسب الجغرافية التي ينتمون لها، وحسب الجهة التي تدير مناطقهم في هذا البلد الممزق. بالنظر إلى رد الفعل الشعبي المنقسم هذا، فإن فهم مستقبل سوريا وعلاقاتها بالإدارة الأمريكية الجديدة يتطلب تحليل ردود الفعل السورية التي جاءت من أربع كتل مختلفة: النظام في دمشق، والكتلة الكردية في شرق الفرات، والميليشيات الإسلامية في شمال غرب سوريا، وتنظيم "داعش".
دمشق التائهة بين مشاعر موسكو وطهران
كالعادة رفصت دمشق التعبير عن مشاعرها الحقيقية تجاه ما يحدث من تغييرات في قيادة واشنطن. ومع ذلك، عبّر مؤيدي النظام عن مشاعر متباينة لعدة أسباب تجعلهم يعتقدون ما إذا كان فوز بايدن مفيدا أم ضارا لمصالح النظام. فعلى سبيل المثال، يرى بعض أنصار النظام السوري أن انتصار بايدن سيُخلص دمشق من مزاجية ترامب وتصرفاته الغير مُتوقعة حيث تعتبر ضربة مطار الشعيرات مثال صارخ على احتمال قيام ترامب بأفعال معاكسة لتصريحاته التي كانت تركز على الانكماش والانسحاب من المشهد السياسي المُعقد في الشرق الأوسط. لذلك، فمن المتوقع أن تصبح إدارة بايدن أكثر اتساقًا في نهجها تجاه شؤون الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، يعتقد قادة نظام الأسد أن بايدن قد يغير دفة الضغط من طهران إلى موسكو أكثر، وبالتالي، ستستفيد دمشق بشكل كبير في حال توصلت الإدارة الجديدة الى اتفاق نووي جديد مع طهران ينهى العقوبات التي أنهكتها اقتصاديا. وفي الوقت عينه، ستحاول دمشق نفسها الاستفادة من اختلاف مشاعر إيران وروسيا -الطرفين الرئيسيين الحاميين لها في سوريا- تجاه انتصار بايدن، حيث سيسمح مثل هذا الاتفاق لإيران بتقديم المزيد من الدعم للأسد حتى لا يضطر إلى الاستسلام لموسكو بشكل كامل. وفى هذا الصددـ، أكد باين أكثر من مرة على خططه على الوقوف في وجه روسيا التي بدأت تفرض نفسها بشكل أكبر على حكومة الأسد خلال ولاية ترامب. كما ستحاول حكومة دمشق الانفكاك قليلاً من حصار الروس لتحركاتها ورغباتها في سوريا بإظهار ورقة العلاقة مع طهران، حيث أدت الضغوطات التي فرضها ترامب على إيران الى سحب هذه الورقة من يد حكومة الأسد خلال العاميين الماضيين.
ومن ناحية أخرى ـ يرى بعض أنصار النظام السوري أن انتصار بايدن على رغم أنه يفيد الأسد ببعض النقاط إلا أنه يرسخ فكرة أن عملية العودة إلى السيطرة التامة على شمال شرق سوريا أصبحت مُستحيلة، ولم يعد هناك احتمال لتكرار سيناريو الانسحابات الأمريكية المُفاجئة من شرق الفرات. بالإضافة، إلى أن عملية إعادة الإعمار التي تتحدث عنها روسية في مناطق الحكومة السورية ستتوقف حتى حصول تغيير سياسي شامل تطالب به واشنطن في البلاد، وهو ما لا تحبذه حكومة الأسد، وتعتبره تدخل في شؤونها الداخلية.
شرق الفرات المتفائل
كان من الواضح أن عامة الناس، والصحفيين، والنشطاء المدنيين، في شرق الفرات يميلون إلى بايدن الذي صرح أكثر من مرة بدعمه لقسد والأكراد، حيث ضجت صفحات التواصل الاجتماعي لسكان شرق الفرات بصور بايدن، كما هنأ الجنرال مظلوم كوباني قائد قسد، بايدن عبر صفحته على موقع تويتر. يدرك سكان وقادة المنطقة أن فوز بايدن يعني انتهاء المفاجئات المؤلمة في منطقتهم، خاصة أن الوعود التي قدمتها واشنطن بعدم السماح بتكرار هجمات تركية ضد تلك المناطق غير جديرة بالثقة، وكان الحديث مستمر عن أن السيد جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي إلى التحالف الدولي ضد "داعش" وممثل واشنطن لشؤون سوريا هو رجل تركيا الأول في المنطقة.
قادة شرق الفرات القلقون من المخاطر الخارجية يشعرون بالراحة بعد انتصار بايدن لكونهم يعتقدون أنه سيوقف أي هجوم تركي جديد ضدهم بعد الخسارات السابقة التي تكبدوها. كما أن انتصار بايدن سيعزز موقفهم في الجولات التفاوضية القادمة مع الروس ودمشق حول الشكل الإداري والدستوري للبلاد. بايدن الذي أكد أنه سيدعم قسد في سوريا سيكون في حال التزامه ببرنامجه الانتخابي قد أمن مظلة من الحماية غير المباشرة لقادة قسد والإدارة الذاتية في عملية التفاوض حول مصير المنطقة. ويأمل هؤلاء القادة بإن يكون انتصار بايدن وسيلة لزيادة الدفع لإقناع الروس بالبدء بدفع دمشق لتقبل عملية التغيير السياسي المنشود، ووسيلة لفتح الطريق لقادة الإدارة الذاتية التي تدير ما يقارب الأربع مليون نسمة للانخراط في العملية السياسية الرسمية، والمشاركة في وضع دستور جديد للبلاد.
شمال غرب سوريا القلق
جاء خبر فوز بايدن كالصاعقة في المنطقة التي تسيطر عليها المليشيات الموالية لتركية، وتلك التي هي تحت الاحتلال التركي حيث كان الشعور بالإحباط واضح، اعتبر الكثيرون في صفحات التواصل الاجتماعي انتصار بايدن نكسة لهم كون الرئيس الجديد لواشنطن يدور في فلك سياسات أوباما التي كانت تصب في مصلحة الإيرانيين بحسب تعبيرهم. تلك الجماعات كما هو الحال في أنقرة نفسها اعتبروا أن انتصار بايدن بمثابة هزيمة لراعيتهم تركيا التي كان زعيمها أردوغان من الرؤساء المقربين لإدارة ترامب في المنطقة.
في متابعة حثيثة لوسائل التواصل الاجتماعي في تلك البقعة الجغرافية من سوريا كان الكثيرون يرددون أن انتصار بايدن هو انتصار لقسد، وإحباط لمحاولة سيطرة المعارضة المسلحة السنية لعموم شمال سوريا في تنفيذ خطة تركية بفرض ما تسميه منطقة "آمنة" على عموم شمال سوريا، والتي تهدف في جوهرها إلى إقصاء الكيان المتشكل من الأكراد وحلفائهم من عرب ومسيحيي شرق الفرات.
قواعد تلك الجماعات السنية الراديكالية والميالة في مجملها إلى جماعات الإسلام السياسي، بالإضافة إلى جماعات تركمانية سورية تابعة لتركيا، استشعرت القلق من أن ينفذ بايدن لوعوده بدعم قسد ومعاقبة تركيا على انتهاكاتها الفاضحة في شمال سوريا. وللتهرب من شرح مسببات مشاعرهم الحقيقية، اتبعت تلك الجماعات أسلوب المراوغة وحاولت التهرب من ذكر أن سبب تأييدهم لترامب تعود الى علاقاته الممتازة مع أردوغان وركزوا على رواية انفتاح بايدن على إيران. هذا كله بتعامي مُتعمد عن كون ترامب رغم عدائه المفرط لإيران إلا أنه كان يميل لبوتين وروسيا المُعاديتان للمعارضة المسلحة في سوريا. وقد يتوقع المرء أن تدرك هذه المجموعات أن روسيا، وليس إيران، هي التي تسيطر على الأمور بقوة في سوريا، وأن نفوذ روسيا لا يبشر بالخير لهذه الجماعات.
ومن ثم، كان القلق هو العنوان السائد لمشاعر تلك الجماعات في مناطق الاحتلال التركي، ومناطق ما تسمى المعارضة، والتي تشمل مناطق واسعة هي بيد هيئة تحرير الشام التي تقودها القاعدة في سوريا، والتي بدورها فضلت عدم التعليق على انتصار ترامب حتى اللحظة.
حراك داعش الغير مُكترث
لم يلق فوز بايدن صدى كبير بين صفوف تنظيم ط داعش" الذي لم يصدر أي بيانات أو ردود أفعال من قبله أو من قبل الصفحات القريبة منه، وذلك كون تلك الجماعات تنظر إلى واشنطن وعموم العالم الغربي على أنه هدف مشروع "لجهادها" بغض النظر عن الإدارية التي تدير البلاد.
وعلى اعتبار أن مناطق الجماعة الإرهابية لم تعد لها ملامح واضحة، استمر تنظيم "داعش" في تنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات الأسد والمليشيات الإيرانية، بالإضافة إلى قسد في محافظة دير الزور المترامية الأطراف.. داعش نفسها تدرك أن التزام واشنطن بدعم قسد سيعزز من الضربات ضدها. وبالتالي، ستواجهها صعوبات جمة وطويلة المدى مع القيادة الجديدة في واشنطن في حال التزمت تلك القيادة بوعودها الانتخابية المُتعلقة بالملف السوري.
يظهر الرصد هذا كيف أن الجغرافية السورية هي جغرافية متباعدة الرؤى والأمال. هذه الصورة عن ردّات الفعل تُحتم على القيادة في واشنطن التركيز على ضرورة العمل على فلترة العلاقة التي تربطها مع الجهات الموجودة في سوريا. هذه الفلترة تحتاج إلى زيادة الالتزام بدعم الحلفاء ومُعاقبة الأعداء. الالتزام المطلوب من حكومة بايدن إظهاره يبدأ من خلال إعادة تشكيل صورة واشنطن المُلتزمة بدعم حلفائها في الشرق الأوسط، وردم الهوة التي شكلتها قرارات ترامب الاعتباطية في عموم الشرق الأوسط، والتي حملت الكثير من المأسي للآلاف من سكان سوريا، والبحث عن تقديم حل نهائي للكارثة في سوريا. كما توضح عملية تأخير التهنئة لبايدن من قبل أنقرة وموسكو أن الدولتين اللتان لديهما يد واسعة في الملف السوري كيف أن تلك الجهتين وحلفائهم داخل سوريا يشعرون بإن بايدن سيعمل على ضبط سلوكهما، وفرض حلول لا تناسب رغباتهما التوسعية في المنطقة، والتي من المفترض أنها قد تساهم في إعادة القليل من التوازن والهدوء للبعض في المنطقة.